نزلت في الخمر أربع آيات، نزلت بمكة: ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه [ ص: 426 ] سكرا [النحل: 67] فكان المسلمون يشربونها، وهي لهم حلال، ثم إن عمر ونفرا من الصحابة قالوا: يا رسول الله، أفتنا في الخمر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فنزلت: ومعاذا فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا ناسا منهم، فشربوا وسكروا فأم بعضهم فقرأ: (قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون) فنزلت: عبد الرحمن بن عوف لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [النساء: 43] فقل من يشربها، ثم دعا عتبان بن مالك قوما فيهم فلما سكروا، افتخروا وتناشدوا، حتى أنشد سعد بن أبي وقاص شعرا فيه هجاء سعد الأنصار، فضربه أنصاري بلحى بعير، فشجه موضحة، فشكا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال -رضي الله عنه-: اللهم، بين لنا في عمر بيانا شافيا، فنزلت: الخمر إنما الخمر والميسر إلى قوله: فهل أنتم منتهون [المائدة: 91] فقال -رضي الله عنه-: انتهينا يا رب. عمر
وعن -رضي الله عنه -: لو وقعت قطرة في بئر، [ ص: 427 ] فبنيت مكانها منارة لم أؤذن عليها، ولو وقعت في بحر، ثم جف ونبت فيه الكلأ، لم أرعه. علي
وعن -رضي الله عنهما-: لو أدخلت أصبعي فيه لم تتبعني، وهذا هو الإيمان حقا، وهم الذين اتقوا الله حق تقاته، والخمر: ما غلا واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب، وهو حرام، وكذلك نقيع الزبيب أو التمر الذي لم يطبخ، فإن طبخ حتى ذهب ثلثاه، ثم غلا واشتد، ذهب خبثه ونصيب الشيطان، وحل شربه ما دون السكر، إذا لم يقصد بشربه اللهو والطرب عند ابن عمر . أبي حنيفة
وعن بعض أصحابه: لأن أقول مرارا هو: "حلال" أحب إلي من أن أقول مرة هو "حرام" ولأن أخر من السماء فأتقطع قطعا أحب إلي من أن أتناول منه قطرة.
وعند أكثر الفقهاء: هو حرام كالخمر، وكذلك كل ما أسكر من كل شراب، وسميت "خمرا" لتغطيتها العقل والتمييز، كما سميت سكرا; لأنها تسكرهما، أي: تحجزهما، وكأنها سميت بالمصدر من "خمره خمرا"، إذا ستره للمبالغة، والميسر: القمار، مصدر من يسر، كالموعد والمرجع من فعلهما، يقال: يسرته، إذا قمرته، واشتقاقه من اليسر; لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب، أو من اليسار; لأنه سلب يساره، وعن -رضي الله عنهما-: كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله قال [من الطويل]: ابن عباس
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني
[ ص: 428 ] أي: يفعلون بي ما يفعل الياسرون بالميسور.
فإن قلت: كيف قلت: كانت لهم عشرة أقداح، وهي: الأزلام، والأقلام، والفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى، والمنيح، والسفيح، والوغد، لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزءونها عشرة أجزاء، وقيل: ثمانية وعشرين إلا لثلاثة، وهي: المنيح، والسفيح، والوغد، ولبعضهم [من مجزوء الرمل]: صفة الميسر؟
لي في الدنيا سهام ليس فيهن ربيح
وأساميهن: وغد وسفيح ومنيح
للفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، يجعلونها في الربابة وهي خريطة، ويضعونها على يدي عدل، ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه، ويسمونه البرم.
وفي حكم الميسر أنواع القمار، من النرد والشطرنج وغيرهما.
وعن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما من ميسر العجم".
وعن -رضي الله عنه -: أن النرد [ ص: 429 ] والشطرنج من الميسر. علي
وعن : كل شيء فيه خطر فهو من الميسر، والمعنى: يسألونك عما في تعاطيهما بدليل قوله تعالى: ابن سيرين قل فيهما إثم كبير وإثمهما : وعقاب الإثم في تعاطيهما أكبر من نفعهما : وهو الالتذاذ بشرب الخمر والقمار، والطرب فيهما، والتوصل بهما إلى مصادقات الفتيان ومعاشرتهم، والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وأعطياتهم، وسلب الأموال بالقمار، والافتخار على الأبرام، وقرئ: (إثم كثير) بالثاء- وفي قراءة (وإثمهما أقرب) ومعنى الكثرة: أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة. أبي:
"العفو": نقيض الجهد، وهو أن ينفق مالا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع، قال [من الطويل]:
خذي العفو مني تستديمي مودتي
[ ص: 430 ] ويقال للأرض السهلة: العفو، وقرئ بالرفع والنصب.
وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن رجلا أتاه ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي فقال: خذها مني صدقة، فأعرض عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتاه من الجانب الأيمن، فقال مثله فأعرض عنه، ثم أتاه من الجانب الأيسر فأعرض عنه، فقال: "هاتها" مغضبا، فأخذها فخذفه بها خذفا لو أصابه لشجه أو عقره، ثم قال: "يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس! إنما الصدقة عن ظهر غنى".
في الدنيا والآخرة : إما أن يتعلق بـ"تتفكرون" فيكون المعنى: لعلكم تتفكرون فيما يتعلق بالدارين، فتأخذون بما هو أصلح لكم، كما بينت لكم أن العفو أصلح من الجهد في النفقة، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع، ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله: وإثمهما أكبر من نفعهما لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا، حتى لا تختاروا النفع العاجل على النجاة من العقاب العظيم، وإما أن يتعلق بـ"يبين" على معنى: يبين لكم الآيات في أمر الدارين، وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون.
لما نزلت: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما [النساء: 10] اعتزلوا اليتامى، وتحاموهم، وتركوا مخالطتهم، والقيام بأموالهم، والاهتمام بمصالحهم، فشق ذلك عليهم، وكاد يوقعهم في الحرج، فقيل: إصلاح لهم خير ، أي: مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم، وإن [ ص: 431 ] تخالطوهم : وتعاشروهم ولم تجانبوهم، "فـ" هم "إخوانكم": في الدين، ومن حق الأخ أن يخالط أخاه، وقد حملت المخالطة على المصاهرة، والله يعلم المفسد من المصلح ، أي: لا يخفى على الله من داخلهم بإفساد وإصلاح فيجازيه على حسب مداخلته، فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح، ولو شاء الله لأعنتكم : لحملكم على العنت، وهو المشقة، وأحرجكم فلم يطلق لكم مداخلتهم، وقرأ : (قل أصلح لهم)، ومعناه: إيصال الصلاح، وقرئ: (لعنتكم) بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، وكذلك: ( فلا إثم عليه ) طاوس إن الله عزيز : غالب، يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم ولكنه: "حكيم" لا يكلف إلا ما تتسع فيه طاقتهم.