ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين
السلالة : الخلاصة ؛ لأنها تسل من بين الكدر ، و"فعالة " : وبناء للقلة كالقلامة والقمامة ، وعن : ماء بين ظهراني الطين . الحسن
فإن قلت : ما الفرق بين من ومن ؟
قلت : الأول : للابتداء ، والثاني : للبيان ؛ كقوله : من الأوثان .
فإن قلت : ما معنى : "جعلنا " : الإنسان نطفة ؟
قلت : معناه : أنه خلق جوهر الإنسان أولا طينا ، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة ، القرار : المستقر ، والمراد : الرحم ، وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها ؛ كقولك : طريق سائر ، أو بمكانتها في نفسها ؛ لأنها مكنت بحيث هي وأحرزت ، قرئ : "عظما فكسونا العظم " ، و "عظاما فكسونا العظام " ، و "عظما فكسونا العظم " : وضع الواحد مكان الجمع لزوال اللبس ؛ لأن الإنسان ذو عظام كثيرة ، خلقا آخر أي : خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها ؛ حيث جعله حيوانا وكان جمادا ، وناطقا وكان أبكم ، وسميعا وكان أصم ، وبصيرا وكان أكمه ، وأودع باطنه وظاهره -بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه- عجائب فطرة وغرائب حكمة ، لا تدرك بوصف الواصف ولا تبلغ بشرح الشارح ، وقد احتج به أبو حنيفة فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده ، قال : يضمن البيضة ولا يرد الفرخ ؛ لأنه خلق آخر سوى البيضة ، فتبارك الله : فتعالى أمره في قدرته وعلمه ، أحسن الخالقين أي : أحسن المقدرين تقديرا ، فترك ذكر المميز ؛ لدلالة الخالقين عليه ؛ ونحوه : طرح المأذون فيه في قوله : أذن للذين [ ص: 222 ] يقاتلون ، لدلالة الصلة ، وروي عن -رضي الله عنه- عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بلغ قوله خلقا آخر ، قال : "فتبارك الله أحسن الخالقين " ، وروي أن كان يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- فنطق بذلك قبل إملائه ، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم - : "اكتب هكذا نزلت " ، فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح عبد الله : إن كان محمد نبيا يوحى إليه ، فأنا نبي يوحى إلي ، فلحق بمكة كافرا ، ثم أسلم يوم الفتح .