إذا تداينتم : إذا داين بعضكم بعضا. يقال: داينت الرجل إذا عاملته "بدين": معطيا أو آخذا كما تقول: بايعته إذا بعته أو باعك، قال [من الرجز]: رؤبة
داينت أروى والديون تقضى فمطلت بعضا وأدت بعضا
والمعنى: إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه.
فإن قلت: هلا قيل: إذا تداينتم إلى أجل مسمى، وأي حاجة إلى ذكر "الدين" كما قال: داينت أروى، ولم يقل: بدين؟ قلت: ذكر ليرجع الضمير إليه في قوله: "فاكتبوه": إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين، فلم يكن النظم - بذلك - الحسن; ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال.
فإن قلت: ما فائدة قوله: "مسمى"؟ قلت: ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام، ولو قال: إلى الحصاد، أو الدياس، أو رجوع الحاج، لم يجز لعدم التسمية، وإنما أمر بكتبة الدين; لأن ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود، والأمر للندب.
وعن : أن المراد به ابن عباس وقال: لما حرم الله الربا أباح السلف، وعنه: أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم في كتابه وأنزل فيه أطول آية "بالعدل": متعلق بـ(كاتب) صفة له، أي: كاتب مأمون على ما يكتب، [ ص: 512 ] يكتب بالسوية والاحتياط، لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص. السلم،
وفيه: أن يكون الكاتب فقيها عالما بالشروط حتى يجيء مكتوبه معدلا بالشرع، وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب، وأن لا يستكتبوا إلا فقيها دينا، ولا يأب كاتب : ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى تنكير (كاتب) أن يكتب كما علمه الله : مثل ما علمه الله كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير، وقيل: هو كقوله تعالى: وأحسن كما أحسن الله إليك [القصص: 77] أي: ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها.
وعن : هي فرض كفاية، و(كما علمه الله) يجوز أن يتعلق بـ(أن يكتب) وبقوله: "فليكتب". الشعبي
فإن قلت: أي فرق بين الوجهين؟ قلت: إن علقته بـ(أن يكتب) فقد نهي عن الامتناع من الكتابة المقيدة، ثم قيل له: "فليكتب": يعني فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها للتوكيد، وإن علقته بقوله: "فليكتب" فقد نهي عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق، ثم أمر بها مقيدة.
وليملل الذي عليه الحق : ولا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق; لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره به، والإملاء والإملال لغتان قد نطق بهما القرآن فهي تملى عليه [الفرقان: 5] ولا يبخس منه : من الحق "شيئا": والبخس: النقص، وقرئ: (شيا) بطرح الهمزة، (وشيا)، بالتشديد "سفيها": محجورا عليه لتبذيره وجهله بالتصرف، أو ضعيفا : صبيا أو شيخا مختلا أو لا يستطيع أن يمل هو : أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لعي به أو خرس فليملل وليه : الذي يلي أمره من وصي إن كان سفيها أو صبيا، أو وكيل إن كان غير مستطيع، أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه.
وقوله تعالى: أن يمل هو : فيه أنه غير مستطيع بنفسه ولكن بغيره، وهو الذي يترجم عنه، واستشهدوا شهيدين : واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدين، من رجالكم : من رجال المؤمنين، والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام عند عامة العلماء، وعن – رضي [ ص: 513 ] الله عنه-: لا تجوز علي في شيء، وعند شهادة العبد شريح وابن سيرين أنها جائزة، ويجوز عند وعثمان البتي أبي حنيفة على اختلاف الملل. شهادة الكفار بعضهم على بعض
فإن لم يكونا : فإن لم يكن الشهيدان رجلين فرجل وامرأتان : فليشهد رجل وامرأتان، مقبولة عند وشهادة النساء مع الرجال فيما عدا الحدود والقصاص أبي حنيفة ممن ترضون : ممن تعرفون عدالتهم أن تضل إحداهما : أن لا تهتدي إحداهما للشهادة بأن تنساها، من ضل الطريق إذا لم يهتد له، وانتصابه على أنه مفعول له أي: إرادة أن تضل.
فإن قلت: كيف يكون ضلالها مرادا لله تعالى؟ قلت: لما كان الضلال سببا للإذكار، والإذكار مسببا عنه، وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر - لالتباسهما واتصالهما - كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار، فكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، ونظيره قولهم: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه، وقرئ: (فتذكر) بالتخفيف والتشديد، وهما لغتان، و (فتذاكر)، وقرأ : (إن تضل إحداهما) على الشرط، فتذكر بالرفع والتشديد، كقوله: حمزة ومن عاد فينتقم الله منه [المائدة: 95] وقرئ: (أن تضل إحداهما) على البناء للمفعول والتأنيث، ومن بدع التفاسير (فتذكر) فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر.
إذا ما دعوا : ليقيموا الشهادة، وقيل: ليستشهدوا، وقيل لهم (شهداء) قبل التحمل؛ تنزيلا لما يشارف منزلة الكائن، وعن : كان الرجل يطوف [في] الحواء العظيم فيه القوم فلا يتبعه منهم أحد، فنزلت. قتادة
كني بالسأم عن الكسل; لأن الكسل صفة المنافق، ومنه الحديث: "لا يقول المؤمن كسلت" ويجوز أن يراد من كثرت مدايناته، فاحتاج أن يكتب لكل دين صغير أو كبير كتابا، فربما مل كثرة الكتب، والضمير في "تكتبوه": للدين أو الحق، صغيرا أو كبيرا : على أي حال كان الحق من صغر أو كبر، ويجوز أن يكون الضمير للكتاب، وأن يكتبوه مختصرا أو مشبعا لا يخلوا بكتابته إلى أجله : إلى وقته الذي اتفق الغريمان على تسميته "ذلكم": إشارة إلى أن تكتبوه; لأنه في معنى المصدر، أي: ذلكم الكتب "أقسط": أعدل من القسط وأقوم للشهادة : وأعون على إقامة الشهادة وأدنى ألا ترتابوا : وأقرب من انتفاء الريب.
فإن قلت: مم بني أفعلا التفضيل، أعني: (أقسط) و(أقوم)؟ قلت: يجوز على مذهب أن يكونا مبنيين من (أقسط) و(أقام) وأن يكون (أقسط) [ ص: 514 ] من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذي قسط، و(أقوم) من قويم، وقرئ: (ولا يسأموا أن يكتبوه) بالياء فيهما. سيبويه
فإن قلت: ما معنى تجارة حاضرة : وسواء أكانت المبايعة بدين أوبعين فالتجارة حاضرة؟ وما معنى إدارتها بينهم؟ قلت: أريد بالتجارة ما يتجر فيه من الأبدال، ومعنى إدارتها بينهم تعاطيهم إياها يدا بيد، والمعنى: إلا أن تتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد فلا بأس أن لا تكتبوه; لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين.
وقرئ: (تجارة حاضرة) بالرفع على كان التامة، وقيل: هي الناقصة على أن الاسم (تجارة حاضرة) والخبر تديرونها وبالنصب على إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب [من الطويل]
بني أسد هل تعلمون بلاءنا إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا؟
أي: إذا كان اليوم يوما.
وأشهدوا إذا تبايعتم : أمر مطلقا، ناجزا أو كالئا لأنه أحوط وأبعد مما عسى [أن] يقع من الاختلاف، ويجوز أن يراد: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع يعني التجارة الحاضرة، على أن الإشهاد كاف فيه دون الكتابة. بالإشهاد على التبايع
وعن إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد، وعن الحسن: : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل الضحاك ولا يضار : يحتمل البناء للفاعل والمفعول، والدليل عليه [ ص: 515 ] قراءة -رضي الله عنه-: (ولا يضارر) بالإظهار والكسر، وقراءة عمر - رضي الله عنه -: (ولا يضارر) بالإظهار والفتح، والمعنى: نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما، وعن التحريف والزيادة والنقصان، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم، ويلزا، أو لا يعطى الكاتب حقه من الجعل، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد، وقرأ ابن عباس (ولا يضار)، بالكسر الحسن: وإن تفعلوا : وإن تضاروا "فإنه": فإن الضرار فسوق بكم : وقيل: وإن تفعلوا شيئا مما نهيتم عنه.
على سفر : مسافرين، وقرأ ابن عباس -رضي الله عنهما-: (كتابا)، وقال وأبي : أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة، وقرأ ابن عباس : (كتبا) وقرأ أبو العالية (كتابا)، جمع كاتب. الحسن:
"فرهان": فالذي يستوثق به رهن، وقرئ: (فرهن) بضم الهاء وسكونها، وهو جمع رهن، كسقف وسقف، و(فرهان).
فإن قلت: لم شرط السفر في الارتهان ولا يختص به سفر دون حضر وقد رهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - درعه في غير سفر؟
[ ص: 516 ] قلت: ليس الغرض تجويز خاصة، ولكن السفر لما كان مظنة لإعواز الكتب والإشهاد أمر - على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال - من كان على سفر بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد. الارتهان في السفر
وعن مجاهد أنهما لم يجوزاه إلا في حال السفر أخذا بظاهر الآية، وأما القبض فلا بد من اعتباره، وعند [ ص: 517 ] والضحاك يصح الارتهان بالإيجاب والقبول بدون القبض. مالك
فإن أمن بعضكم بعضا : فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به، وقرأ (فإن أومن) أي: آمنه الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن الارتهان من مثله. أبي:
فليؤد الذي اؤتمن أمانته : حث المديون على أن يكون عند ظن الدائن به وأمنه منه وائتمانه له، وأن يؤدي إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه، وسمي الدين أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه، والقراءة أن تنطق بهمزة ساكنة بعد الذال أو ياء، فتقول: (الذي اؤتمن) أو (الذي تمن)، وعن أنه قرأ: (الذي اتمن)، بإدغام الياء في التاء؛ قياسا على اتسر في الافتعال من اليسر، وليس بصحيح; لأن الياء منقلبة عن الهمزة، فهي في حكم الهمزة، و"اتزر" عامي، وكذلك ريا في رؤيا. عاصم
"آثم": خبر إن، و"قلبه": رفع بـ(آثم) على الفاعلية، كأنه قيل: فإنه يأثم قلبه، ويجوز أن يرتفع قلبه بالابتداء، وآثم خبر مقدم، والجملة خبر إن.
فإن قلت: هلا اقتصر على قوله: فإنه آثم ؟ وما فائدة ذكر القلب - والجملة هي الآثمة لا القلب وحده -؟ قلت: هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثما مقترفا بالقلب أسند إليه; لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ. ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني، ومما عرفه قلبي، ولأن القلب هو رئيس الأعضاء، والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان فيه، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه، واللسان ترجمان عنه، ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها. كتمان الشهادة:
ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب.
وعن - رضي الله عنهما -: ابن عباس [ ص: 518 ] الإشراك بالله لقوله تعالى: أكبر الكبائر فقد حرم الله عليه الجنة [المائدة: 72] وشهادة الزور، وكتمان الشهادة.
وقرئ: (قلبه) بالنصب، كقوله: سفه نفسه [البقرة: 130] وقرأ : (أثم قلبه)، أي: جعله آثما. ابن أبي عبلة