ما أجابوه بجواب المقلدين لآبائهم قال لهم : رقوا أمر تقليدكم هذا إلى أقصى غاياته وهي عبادة الأقدمين الأولين من آبائكم ، فإن التقدم والأولية لا يكون برهانا على الصحة ، والباطل لا ينقلب حقا بالقدم ، وما عبادة من عبد هذه الأصنام إلا عبادة أعداء له ، ومعنى العداوة قوله تعالى : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [مريم : 82 ] ولأن المغري على عبادتها أعدى أعداء الإنسان وهو الشيطان ، وإنما قال : عدو لي تصويرا للمسألة في نفسه ، على معنى : أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه ، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولا وبنى عليها تدبير أمره ، لينظروا فيقولوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه ، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه ، ليكون أدعى لهم إلى القبول ، وأبعث على الاستماع منه . ولو قال : فإنه عدو لكم لم يكن بتلك المثابة ، ولأنه دخل في باب من التعريض ، وقد يبلغ التعريض للنصوح ما لا يبلغه التصريح ؛ لأنه يتأمل فيه ، فربما قاده التأمل إلى التقبل . ومنه ما يحكى عن -رضي الله تعالى عنه- أن رجلا واجهه بشيء فقال : لو كنت بحيث أنت ، لاحتجت إلى أدب ، وسمع رجل ناسا يتحدثون في الحجر فقال : ما هو ببيتي ولا بيتكم . الشافعي
[ ص: 398 ] والعدو والصديق : يجيئان في معنى الوحدة والجماعة ، قال [من المتقارب ] :
وقوم علي ذوي مرة أراهم عدوا وكانوا صديقا
ومنه قوله تعالى : وهم لكم عدو شبها بالمصادر للموازنة ، كالقبول والولوع ، والحنين والصهيل إلا رب العالمين استثناء منقطع ، كأنه قال : ولكن رب العالمين فهو يهدين يريد أنه حين أتم خلقه ونفخ فيه الروح ، عقب ذلك هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى كل ما يصلحه ويعنيه ، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذي بالدم في البطن امتصاصا ، ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة ، وإلى معرفة مكانه ، ومن هداه لكيفية الارتضاع ، إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاد ، وإنما قال : "مرضت" دون "أمرضني" لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك . ومن ثم قالت الحكماء : لو قبل لأكثر الموتى : ما سبب آجالكم ؟ لقالوا : التخم . وقرئ : "خطاياي " ، والمراد : ما يندر منه من بعض الصغائر ؛ لأن الأنبياء معصومون مختارون على العالمين . وقيل : هي قوله : إني سقيم وقوله : بل فعله كبيرهم وقوله لسارة : هي أختي . وما هي إلا معاريض كلام ، وتخييلات للكفرة ، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار . فإن قلت : إذا لم يندر منهم إلا الصغائر وهي تقع مكفرة ، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا [ ص: 399 ] وطمع أن تغفر له ؟ قلت : الجواب ما سبق لي : أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم ، وهضم لأنفسهم ، ويدل عليه قوله : "أطمع" ولم يجزم القول بالمغفرة . وفيه تعليم لأممهم ، وليكون لطفا لهم في اجتناب المعاصي والحذر منها ، وطلب المغفرة مما يفرط منهم . فإن قلت : لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين ، وإنما تغفر في الدنيا ؟ قلت : لأن أثرها يتبين يومئذ ، وهو الآن خفي لا يعلم .