شبهة للشيعة في المسألة
إن بعض الشيعة يكبرون هذه المزية لعلي عليه السلام كعادتهم ، ويضيفون إليها ما لا تصح به رواية ، ولا تؤيده دراية ، فيستدلون بها على أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ وكونه أحق بالخلافة منه ، ويزعمون أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عزل تفضيله على أبا بكر من تبليغ سورة ( براءة ) ؛ لأن جبريل أمره بذلك ، وأنه لا يبلغ عنه إلا رجل منه ، ولا يخصون هذا النفي بتبليغ نبذ العهود ، وما يتعلق به بل يجعلونه عاما لأمر الدين كله ، مع استفاضة الأخبار الصحيحة بوجوب كالجهاد في حمايته والدفاع عنه ، وكونه فريضة لا فضيلة فقط ، ومنها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع على مسمع الألوف من الناس : " تبليغ الدين على المسلمين كافة " وهو مكرر في الصحيحين وغيرهما ، وفي بعض الروايات عن ألا فليبلغ الشاهد الغائب : فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته " ابن عباس " إلخ . وحديث فليبلغ الشاهد الغائب رواه بلغوا عني ولو آية في صحيحه البخاري ، ولولا ذلك لما انتشر الإسلام ذلك الانتشار السريع في العالم ، بل زعم بعضهم كما قيل : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عزل والترمذي أبا بكر من إمارة الحج وولاها عليا ، وهذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عملية عرفها الخاص والعام . والحق أن عليا كرم الله وجهه كان مكلفا بتبليغ أمر خاص ، وكان في تلك الحجة تابعا لأبي بكر في إمارته العامة في إقامة ركن الإسلام الاجتماعي [ ص: 145 ] العام ، حتى كان أبو بكر يعين له الوقت الذي يبلغ ذلك فيه فيقول : يا علي قم فبلغ رسالة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما تقدم التصريح به في الروايات الصحيحة ، كما أمر بعض الصحابة بمساعدته على هذا التبليغ كما تقدم في حديث في الصحيحين وغيرهما . أبي هريرة
ولقد كان أبا بكر على المسلمين في إقامة الحج في أول حجة للمسلمين بعد خلوص السلطان لهم على مكة ، ومشاعر الحج كلها ، كتقديمه للصلاة بالناس قبيل وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكلاهما تقديم له على جميع زعماء الصحابة في إقامة أركان الإسلام التي كان يقوم بها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعدها جمهور الصحابة ترشيحا له لتولي الإمامة العامة بعده ، فالواقعة دليل على خلافة تأمير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبي بكر لا على خلافة علي ـ رضي الله عنهما ـ وقد علم الله أن كلا منهما سيكون إماما في وقته . قال الآلوسي بعد ذكر شيء في هذا المعنى : وقد ذكر بعض أهل السنة نكتة في نصب أبي بكر أميرا للناس في حجهم ، ونصب الأمير علي كرم الله تعالى وجهه مبلغا نقض العهد في ذلك المحفل ، وهي أن رضي الله تعالى عنه كان مظهرا لصفة الرحمة والجمال كما يرشد إليه ما تقدم في حديث الإسراء ، وما جاء من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : الصديق أبو بكر أحال إليه عليه الصلاة والسلام أمر المسلمين الذين هم مورد رحمة ، ولما كان أرحم أمتي بأمتي علي كرم الله تعالى وجهه الذي هو أسد الله مظهر جلاله ، فوض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر ، فكانا كعينين فوارتين يفور من إحداهما صفة الجمال ، ومن الأخرى صفة الجلال ، في ذلك المجمع العظيم الذي كان أنموذجا للحشر وموردا للمسلم والكافر . انتهى ولا يخفى حسنه لو لم يكن في البيان تعليل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اهـ . ونقول : إذا كان تعليله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لتبليغ علي نبذ العهود عنه بكونه من أهل بيته ينافي أن تكون النكتة المذكورة علة ، فهو لا يأبى أن تكون حكمة .
ورأيت في مصنف جديد لبعض الشيعة المعاصرين ضربا آخر من المبالغة والتكبير لهذه المسألة كما فعل بغيرها من مناقبه كرم الله وجهه ، من حيث يصغر مناقب الشيخين إن لم يجد شبهة أو وسيلة لإنكارها ، حتى إنه جعل تنويه كتاب الله عز وجل بصحبة الأكبر للرسول الأعظم في هجرته ، وإثبات معيته عز وجل لهما معا في الغار مما لا قيمة له ، ولا يعد مزية الصديق للصديق ـ رضي الله عنه ـ ولولا أنهم قد نشطوا في هذه الأيام لدعاية الرفض والبدع والصد عن السنة والطعن في أئمتها لما جعلنا شبهة التبليغ تستحق أن تذكر ويبين وهنها .
ذلك بأنه اقتصر من روايات المسألة على ما نقله عن عن ابن جرير الطبري من قوله : السدي أبي بكر ، وأمره على الحج ، فلما سار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة [ ص: 146 ] أتبعه بعلي فأخذها منه . فرجع أبو بكر إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء ؟ قال : " لا ، ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني " ثم استنبط من هذه الرواية أنها تدل على أن نفس لما نزلت هذه الآيات إلى رأس الأربعين - يعني من سورة ( براءة ) - بعث بهن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع علي من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منزلة نفسه ، وأنه خير أصحابه وأفضلهم عند الله وأكرمهم عليه ، فإن من كان بهذه الصفة هو الذي يمثل شخص النبي ، ويقوم مقامه ، ويكون بمنزلة نفسه الشريفة ، ثم قال : ودل هذا القول منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن كون علي من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونفسه نفسه أمر محقق ثابت لا ريب فيه عند أبي بكر ، ولهذا لم يحتج ـ صلى الله عليه وسلم ـ لذكره ، وذلك ظاهر عند العارف بطريق الاستدلال ، وترتيب الأشكال ، وقد عمد بعض النواصب إلى الحط من هذه الكرامة فزعم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما أراد بأنه نفسه ومنه هو القرب في النسب دون الفضيلة ، مدعيا أن من عادة العرب إذا أراد أحدهم أن ينبذ عهدا نبذه بنفسه أو أرسل به أقرب الناس إليه - إلى آخر ما غالط به ، وبنى على زعمه هذا أن العباس أقرب إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من علي نسبا فلماذا لم يرسله بهذا التبليغ ؟ مع علمه بأنه لم يقل أحد من أهل السنة بأن الرواية بمعنى ما زعمه ، لا بأنه لا بد من الأقرب بل قالوا : إن التبليغ في مثله لعاقد العهد أو لأحد عصبته الأقربين .
وأقول في قلب شبهته هذه حجة عليه : ( أولا ) أن هذا الشيعي المتعصب اختار رواية من روايات في المسألة ؛ لأنها تحتمل من تأويله وغلوه ما لا يحتمله غيرها . السدي
( ثانيا ) أن قال هذا القول من عند نفسه ، ولم يذكر له سندا إلى أحد من الصحابة . السدي
( ثالثا ) أن ما ذكرناه من الروايات الصحيحة عن علي ، وغيرهما من الصحابة يخالف قول وأبي هريرة هذا من بعض الوجوه ، وهي أولى بالتقديم والترجيح . السدي
( رابعا ) أن هذا الشيعي الذي يدعي التحقيق لم يذكر قول كله بل أسقط منه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المروي عن غير السدي أيضا " السدي أبا بكر أن كنت معي في الغار ، وأنك صاحبي على الحوض " ؟ قال : بلى يا رسول الله . فسار أبو بكر على الحاج وعلي يؤذن بـ ( براءة ) ، فقام يوم الأضحى فقال : لا يقربن المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطوفن بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عهد فله عهده إلى مدته . وإن هذه أيام أكل وشرب ، وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما . فقالوا : نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب ، فرجع المشركون فلام بعضهم بعضا وقالوا : ما تصنعون وقد أسلمت قريش ؟ فأسلموا انتهى نص رواية أما ترضى يا هذه في تفسير السدي ( ص27 ج 10 من الطبعة الأميرية ) [ ص: 147 ] فإذا كان هذا الشيعي يعتمد هذه الرواية كما هو الظاهر من اختياره لها على غيرها فهي حجة عليه فيما تقدم بيانه ، ومنه كون الآية الأربعين من سورة ( براءة ) هي قوله تعالى : ابن جرير إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ( 40 ) .
ولا يظهر لأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتبليغها للناس فيما يبلغه من نبذ عهود المشركين ، وهي ليست من موضوعها إلا بيان أبي بكر ومكانه الخاص من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحكمة جعله نائبا عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إقامة ركن الإسلام الاجتماعي العام ، وجعل فضل علي نفسه على قربه ، وعلو مكانته تحت إمارته ، حتى في تبليغه هذه الرسالة الخاصة عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد تقدم في الروايات الصحيحة أن أبا بكر كان يأمره بذلك ، ولهذا أسقط الرافضي بقية الرواية على كونه ينكر على الأكبر مزية اختيار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياه بأمر الله على مرافقته له وحده في أهم حادثة من تاريخ حياته ، وهي الهجرة الشريفة التي كانت منذ ظهور الإسلام ، وانتشار نوره في جميع العالم . ولو كانت هذه الصحبة أمرا عاديا أو صغيرة لما ذكرت في القرآن المجيد مقرونة بتسمية الصديق صاحبا لسيد البشر ، وإثبات معية الله تعالى لهما معا ، وفرق بين وصف الله تعالى لشخص معين بهذه وبين تعبيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أتباعه بالأصحاب تواضعا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . الصديق
ثم إن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للصديق : " " يدل على ما سيكون له معه من الخصوصية والامتياز على جميع المؤمنين في يوم القيامة ، ولو كان شأنه فيه كشأن غيره ممن يرد الحوض لما كان لهذا التخصيص في هذا المقام مزية ، وكلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينزه عن العبث . وصاحبي على الحوض
( خامسا ) أن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " أو رجل مني " في رواية قد فسرتها الروايات الأخرى عند وغيره بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " أو رجل من أهل بيتي " وهذا النص الصريح يبطل تأويل كلمة " مني " بأن معناها أن نفس الطبري علي كنفس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه مثله وأنه أفضل من كل أصحابه .
( سادسا ) أن ما عزاه إلى بعض النواصب هو المعروف عن جميع العلماء من أهل السنة الذين تكلموا في المسألة ، ولكن لم يقل أحد منهم بأن عليا كرم الله وجهه لا مزية له في هذا الأمر ، ولا أن سبب نوطه به القرابة دون الفضيلة ، وأنه تبليغ لا فخر فيه ، ولا فضل ، بل هذا كله مما اعتاد الروافض افتراءه على أهل السنة عند نبزهم بلقب النواصب ، فإن كان يوجد في النواصب من ينكر مزية علي في هذه المسألة ففي الروافض من ينكر ما هو أظهر [ ص: 148 ] منها من مزية أبي بكر في نيابته عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إمارة الحج ، وإقامة ركنه ، وتعليم الناس المناسك ، وتبليغ الدين للمشركين ، ومنعهم من الحج ذلك العام تمهيدا لحجة الوداع ، إذ كان يكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يحج معهم ، ويراهم في بيت الله عراة نساؤهم ورجالهم يشركون بالله في بيته ، وما يتضمن هذه الإمارة مما تقدم بيانه . وأهل السنة وسط يعترفون بمزية كل منهما ـ رضي الله عنهما ـ وعن سائر آل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه ، وعن المتبعين لهم في اتباع الحق والاعتراف به لأهله ومحبة كل منهما بغير غلو ولا تقصير ، وقاتل الله الروافض والنواصف الذين يطرون بعضا ، وينكرون فضل الآخر ، ويعدون محبته منافية لمحبته .