الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وقد ورد في تنفيذ أمر الله تعالى بهذه البراءة والأذان بها - أي التبليغ العام العلني لها - أحاديث في الصحاح والسنن ، وكتب التفسير المأثور فيها شيء من الخلاف والتعارض نقتصر على أمثلها وأثبتها ، وما يجمع بين الروايات ويزيل تعارضها . فجملة تلك الروايات تدل على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ أميرا على الحج سنة تسع ، وأمره أن يبلغ المشركين الذين يحضرون الحج أنهم يمنعون منه بعد ذلك العام ، ثم أردفه بعلي عليه السلام ، ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة ، وإعطاءهم مهلة أربعة أشهر ، لينظروا في أمرهم ، وأن العهود المؤقتة أجلها نهاية وقتها . ويتلو عليهم الآيات المتضمنة لمسألة نبذ العهود ، وما يتعلق بها من أول سورة براءة وهي 40 أو 33 آية ، وما ذكر في بعض الروايات من التردد بين 30 و40 فتعبير بالأعشار ، مع إلغاء كسرها من زيادة ونقصان ، وذلك لأن من عادة العرب أن العهود ونبذها إنما تكون من عاقدها أو أحد عصبته القريبة ، وأن عليا كان مختصا بذلك مع بقاء إمارة الحج لأبي بكر الذي كان يساعده على ذلك ، ويأمر بعض الصحابة كأبي هريرة بمساعدته .

                          أما الشيخان فقد أخرجا في هذا الباب حديث أبي هريرة الذي رواه عنه حميد بن عبد الرحمن بن عوف في كتاب الحج ، وكرره البخاري في كتب الطهارة والحج والجزية والمغازي والتفسير ، فنذكر لفظه في تفسير فسيحوا في الأرض أربعة أشهر الآية . عن حميد أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . قال حميد : ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب وأمره أن يؤذن بـ ( براءة ) قال أبو هريرة : فأذن معنا علي يوم النحر في أهل منى بـ ( براءة ) وألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان اهـ . قال الحافظ في الفتح عند قوله : قال أبو هريرة : فأذن معنا علي ما نصه : هو موصول بالإسناد المذكور ، وكان حميد بن عبد الرحمن حمل قصة توجه علي من المدينة إلى أن لحق بأبي بكر عن غير أبي هريرة ، وحمل بقية القصة عن أبي هريرة .

                          [ ص: 140 ] وقوله : فأذن معنا علي في منى يوم النحر إلخ . قال الكرماني : فيه إشكال ؛ لأن عليا كان مأمورا بأن يؤذن بـ ( براءة ) ، فكيف يؤذن بألا يحج بعد العام مشرك ؟ ثم أجاب بأنه أذن بـ ( براءة ) . ومن جملة ما اشتملت عليه ألا يحج بعد العام مشرك من قوله تعالى : إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ( 28 ) ويحتمل أن يكون أمر أن يؤذن بـ ( براءة ) ، وبما أمر أبو بكر أن يؤذن به أيضا . ( قلت ) وفي قوله : يؤذن بـ ( براءة ) تجوز ؛ لأنه أمر أن يؤذن ببضع وثلاثين آية منتهاها عند قوله : ولو كره المشركون ، فروى الطبراني من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب وغيره قال : بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع ، وبعث عليا بثلاثين أو أربعين آية من براءة . وروى الطبري من طريق أبي الصهباء قال : سألت عليا عن يوم الحج الأكبر ، فقال : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث أبا بكر يقيم للناس الحج ، وبعثني بعده بأربعين آية من براءة ، حتى أتى عرفة فخطب ثم التفت إلي فقال : يا علي قم فأد رسالة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقمت فقرأت أربعين آية من ( براءة ) ، ثم صدرنا حتى رميت الجمرة فطفقت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم ؛ لأن الجميع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة .

                          ثم قال الحافظ : وأما ما وقع في حديث جابر فيما أخرجه الطبري وإسحاق في مسنده والنسائي والدارمي كلاهما عنه ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق ابن جريج : حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الزبير عن جابر : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج فأقبلنا معه ، حتى إذا كنا بالعرج ثوب بالصبح فسمعنا رغوة ناقة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا علي عليها ، فقال له : أمير أو رسول ؟ فقال : بل أرسلني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بـ ( براءة ) أقرؤها على الناس ، فقدمنا مكة فلما كان قبل يوم التروية بيوم فأم أبو بكر فخطب الناس بمناسكهم ، حتى إذا فرغ منها قام علي فقرأ على الناس ( براءة ) حتى ختمها ، ثم كان يوم النحر كذلك ، ثم يوم النفر كذلك ، فيجمع بأن عليا قرأها كلها في المواطن الثلاثة ، وأما في سائر الأوقات فكان يؤذن بالأمور المذكورة : ألا يحج بعد العام مشرك إلخ . وكان يستعين بأبي هريرة وغيره في الأذان بذلك .

                          " وقد وقع في حديث مقسم عن ابن عباس عند الترمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ [ ص: 141 ] بعث أبا بكر - الحديث - وفيه فقام علي أيام التشريق فنادى : ذمة الله وذمة رسوله بريئة من كل مشرك فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، ولا يحجن بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل مؤمن . فكان علي ينادي بها ، فإذا بح قام أبو هريرة فنادى بها " .

                          " وأخرج أحمد بسند حسن عن أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث بـ ( براءة ) مع أبي بكر ، فلما بلغ ذا الحليفة قال : " لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي " فبعث بها مع علي ، قال الترمذي : حسن غريب . ووقع في حديث يعلى عند أحمد عن علي : لما نزلت عشر آيات من ( براءة ) بعث بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أبي بكر ، ليقرأها على أهل مكة ، ثم دعاني فقال : " أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ منه الكتاب " فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله نزل في شيء ، فقال : " لا " إلا أنه لن يؤدي عني - أو - ولكن جبريل قال : " لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك " قال العماد بن كثير : ليس المراد أن أبا بكر رجع من فوره ، بل المراد رجع من حجته ( قلت ) : ولا مانع من حمله على ظاهره لقرب المسافة . وأما قوله : عشر آيات فالمراد أولها إنما المشركون نجس ( 9 : 28 ) اهـ .

                          هذا ما لخصه الحافظ من الروايات . وأقول : إن ابن كثير قال في حديث علي في نزول العشر الآيات المذكورة أخيرا - وقد ذكر إسناده عن عبد الله بن أحمد - هذا إسناد فيه ضعف .

                          وأزيد عليه انتقاد متنه ، إذ لا يصح أن يكون نزل منها عشر آيات ، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث أبا بكر ثم عليا بها ، فهذا مخالف لسائر الروايات المتضافرة المتفقة التي أطلق في بعضها أول سورة ( براءة ) - وفي بعضها عدد ثلاثين أو أربعين آية منها - أي بالتقريب ، وفي بعضها سورة ( براءة ) ، وهي لا تنافي بينها ، فقد نزلت سورة ( براءة ) كلها أو أكثرها عقب غزوة تبوك ، وقد كانت في رجب سنة تسع من الهجرة . وقد قال ابن إسحاق : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقام بعد أن رجع من تبوك رمضان وشوال وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج ، وذكر أن أبا بكر خرج في ذي القعدة . فإن أمكن حمل ما رواه ابن سعد عن مجاهد من أن حج أبي بكر كان في ذي القعدة على هذا كان صحيحا وإلا فلا .

                          وأما ضعف إسناده الذي ذكره ابن كثير فمن حنش بن المعتمر الكناني الكوفي قال ابن حبان : كان كثير الوهم في الأخبار ينفرد عن علي بأشياء لا تشبه حديث الثقات حتى صار ممن لا يحتج بحديثه ، وقال البزار : حدث عنه سماك بحديث منكر ، وقال ابن حزم في المحلى : ساقط مطرح ، ولأئمة الجرح في تضعيفه أقوال أخرى . ولعل الحديث المنكر الذي رواه عنه سماك هو هذا ، على أن سماك بن حرب هذا لم يسلم من جرح ، وإن روى عنه مسلم ، [ ص: 142 ] ومما قيل عنه أنه خرف في آخر عمره . والعجيب من الحافظ ابن حجر كيف سكت عن ضعف إسناد هذا الحديث مع تذكر عبارة ابن كثير فيه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية