الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          دار الإسلام الدينية في جزيرة العرب :

                          أوجب الإسلام أن تكون جزيرة العرب داره الدينية المحضة ، فقضى على ما كان فيها من الشرك على الوجه الذي بيناه في تفسير هذه السورة ، كما بينا في تفسير سورة الأنفال ما ورد من الأحاديث النبوية في ذلك وأهمها وصيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرض موته بإخراج اليهود والنصارى منها ، وبأن لا يبقى فيها دينان ، وقد صرح الإمام الشافعي في الأم بأن ثغور الحجاز البحرية ، وما يوجد في بحره من الجزائر لهما حكم أرضه وبلاده ، فلا يجوز لإمام المسلمين وسلطانهم أن يمكن أحدا من غير المسلمين بالإقامة فيها لتجارة ولا لغيرها . وقد ظهر لمسلمي هذا العصر من حكمة الإسلام في هذا ما لم يكن يخطر ببال دولهم القوية من قبله التي تساهلت وقصرت في تنفيذ الوصية المحمدية فسمحت ببقاء بعض أهل الكتاب في بعض بقاع جزيرة العرب ( كاليمن ) ثم بوجود بعضهم في ( جدة ) وهي من الحجاز .

                          [ ص: 279 ] ظهر لهم أن أساس السياسة المتفق عليه بين جميع الدول العزيزة هو أن لكل أمة الحق في حماية وطنها بحدوده الطبيعية والعرفية ، وما يعد سياجا وحريما له من سواحله البحرية ، ومن طرق الملاحة والتجارة المؤدية إليه من كل جهة ، وأن الحرب التي توقد نارها لأجل هذه الحماية ، ومنع العدوان هي حق وعدل يقره القانون الدولي العام إذا لم يكن منه بد ، ولا يعد منافيا للفضيلة والحقوق الإنسانية بل مؤيدا لهما . ودول الاستعمار الفاتحة تعد ما تتغلب عليه من أوطان سائر الأمم كوطن أمتها في أن لها الحق في حمايته ، ومنع الاعتداء عليه وعلى طرقه البرية والبحرية ، فهي تبيح لنفسها الاعتداء بحجة منع غيرها من الاعتداء ، كما فعلت انكلتره في الاعتداء على مصر فالسودان ، ومن قبلهما على عدن بحجة حماية طريق الهند التي اعتدت عليها من قبل ، وبعد هذا وذاك اعتدت على العراق وفلسطين وشرق الأردن من الوطن العربي ، ثم امتد طمعها إلى الحجاز نفسه ، وهو قلب جزيرة العرب المادي ، وقلب الإسلام المعنوي ، بجعل أهم ثغوره الحربية والجغرافية ( العقبة ) وأهم مواقع سكة الحديد الحجازية فيه ( معان ) وما بينهما تابعا لشرقي الأردن الذي وضعته تحت سيطرتها باسم الانتداب ، دع ذكر الخط الحديدي الممتد من حدود الحجاز إلى حيفا ، فبهذا انتهكت هذه الدولة حرمة الحجاز المقدسة .

                          وبهذا صار الحرمان الشريفان تحت رحمة هذه الدولة الباغية من البر والبحر . وصارت هذه البقية الصغيرة من دار الإسلام الدينية والسياسية على خطر ، فإن تم لهذه الدولة الباغية هذا فستمد سكة حديدية تجارية في الظاهر عسكرية في الباطن من العقبة إلى العراق ، ثم تقول عند سنوح الفرصة للاستيلاء على الحرمين : إن وجود قوة إسلامية فيهما يهدد سكة الحديد البريطانية ، ولا سبيل إلى الأمن عليها إلا بإزالة كل قوة إسلامية عربية من سائر الحجاز أو جعل القوة المحافظة على الأمن من تحت إشرافها ونفوذها .

                          ولو كان في الحجاز سكان من غير المسلمين لفتحت لنفسها باب التدخل في أمر حكومته بحجة حماية هؤلاء السكان ، ولا سيما إذا كانوا من النصارى كما انتحلت لنفسها حق حماية الأقليات غير الإسلامية بمصر ، وكما فعلت في إعطاء اليهود حق تأسيس وطن قومي لهم في فلسطين ، وفي حمايتهم فيها بل إعانتهم ومساعدتهم على أهلها من العرب وأكثرهم مسلمون ، وكما خلقت في العراق أقلية من بقايا الأشوريين ، وإن تم لها الاستيلاء على منطقة العقبة ومعان من أرض الحجاز فستجعل جل مالكي رقبة الأرض فيها من الإنكليز وغيرهم من اليهود والنصارى ; ليكون لها من حق الحكم فيها [ ص: 280 ] والحماية لها حماية هؤلاء السكان فوق حماية الأرض وسكة الحديد ، وما يتعلق بذلك من المنافع الاقتصادية ، والمصالح السياسية - أعني أن هذه البقعة العظيمة من وطن الحجاز الإسلامي العربي يخشى أن يخرج بها الحجاز كله عن كونه عربيا أو إسلاميا ، كما يدعون الآن في فلسطين .

                          أقول : إن تم لهذه الدولة ما ذكر ; لأنه لما يتم لها ذلك ( ولن يتم إن شاء الله ) فإن ملك الحجاز ونجد عارضها في دعوى إلحاق هذه المنطقة بحكومة شرقي الأردن ، ولكنهما اتفقا على إرجاء البت النهائي في أمرها بضع سنين ، وقد أجمعت كلمة المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد في مكة المكرمة سنة 1344 على إنكار إلحاق هذه المنطقة بشرقي الأردن ووجوب جعلها تابعة للحجاز ، وتكليف الملك عبد العزيز بمطالبة هذه الدولة بإعادتها إلى الحجاز ، واتخاذ كل الوسائل الممكنة لذلك ، ويجب على كل العالم الإسلامي أن يطالبه بذلك ويؤيده فيه .

                          هذا مجمل ما يدور فيه البحث بين بعض أهل العلم والرأي من المسلمين في الأحكام الشرعية والآراء السياسية في دار الإسلام ، والحكومة الإسلامية وما يتعلق بها في منصب الإمامة ( الخلافة ) وما يجب على العالم الإسلامي من السعي لذلك ، وإلا كان جميع المسلمين عصاة لله تعالى مستحقين لعقابه في الآخرة ، كما وقع عليهم عقابه في الدنيا بالذل والنكال ، بفقد السيادة والاستقلال ، الذي عم جميع الشعوب والأجيال ، إلا هذه البقية القليلة الفقيرة من العرب والعجم ، وهي مهددة في كل آن بالخطر ، وهذا السعي الواجب لا يرجى نجاحه إلا بنظام سري محكم يراعى فيه حال الزمان ، واختلاف استعداد الشعوب الإسلامية المختلفة الحكومات والمذاهب والمشارب ، تقوم به جمعيات دينية وسياسية وخيرية ، توجه جهودها كلها إلى غرض واحد لا يعرف حقيقته إلا أفراد قليلون من القائمين بها .

                          وأما الأمر الجهري الذي يجب على العالم الإسلامي في جملته ومختلف شعوبه السعي له قبل كل شيء فهو صيانة الحجاز من النفوذ الأجنبي الذي يهدده باستيلاء دولتي انكلتره وفرنسة على سكة الحديد الحجازية ، وبإلحاق منطقة العقبة ومعان شرقي الأردن الواقع تحت السيطرة الإنكليزية ، بل يجب على كل مسلم أن يفعل كل ما يقدر عليه في هذه السبيل من عمل إيجابي أو سلبي بالانفراد أو الاشتراك مع غيره ، ومنه المقاطعة التجارية وغيرها وبث الدعاية لذلك . أعني أنه يجب على كل مسلم [ ص: 281 ] البدء بالجهاد الديني بأنواعه الثلاثة التي تقدمت . من قول ، ومال ، ونفس بقدر الإمكان وبث الدعوة لذلك في كل مكان .

                          يقول بعض علماء الإحصاء البشري العام : إن عدد المسلمين قد بلغ أربعمائة مليون نسمة أو يزيدون ، فهل يرضون لأنفسهم وهم يملكون من بقاع الأرض ما يزيد على مساحة أوربة كلها أضعافا أن يكونوا أذل وأحقر وأجبن من اليهود الصهيونيين الذين لا يبلغون عشر عشرهم ، وهم يرونهم يقدمون على انتزاع فلسطين منهم ؟ ويرون مع هذا أن حرم الله تعالى وحرم الرسول صلوات الله وسلامه عليه مهددان بالخطر بعد ثالثهما وهو المسجد الأقصى ، قد انتقصا من أطرافهما ، واغتصبت السكة الحديدية الوحيدة الموصلة إليهما ، وهم ساكنون ساكتون ، ودينهم يوجب عليهم إعادة دار الإسلام وحكم الإسلام ، إلى ما كان عليه في سالف الأيام على اختلاف الدرجات التي بيناها في صدر هذا الفصل . فمم يخافون ؟ وعلى أي شيء يحرصون ؟ ولم يعيشون ؟ .

                          لقد دلت أفعال المسلمين في الحرب العامة الأخيرة إذ كانوا يقاتلون دفاعا عن مستذليهم ومستعبديهم ودلت الثورة العربية الحجازية أثناء الحرب ، والثورات المصرية فالعراقية فالسورية فالمغربية الريفية بعد الحرب العامة على أنهم لا يزالون أشجع الأمم وأشدها احتقارا لهذه الحياة الدنيا ، ولا سيما العرب منهم وإنما كان سبب كل ما أصابهم من البلاء والشقاء وفقد الاستقلال أولا وآخرا - فساد رؤسائهم وخيانة أمرائهم ، وجهل عامة دهمائهم ، وقد آن للجاهل أن يعلم ، وللفاسد أن يصلح وللخائن أن يتوب أو يقتل .

                          فيا أيها المسلمون تدبروا قول ربكم العزيز القدير ، الولي النصير ، العلي الكبير : وكان حقا علينا نصر المؤمنين ( 30 : 47 ) إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ( 47 : 7 ) و إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ( 40 : 51 ) و ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ( 4 : 141 ) و ولن يخلف الله وعده ( 22 : 47 ) ولكنكم نقضتم عهده وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ( 24 : 31 ) و ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ( 3 : 139 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية