ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين
[ ص: 201 ] قد علم مما تقدم أنه لما أعلن الله تعالى براءته وبراءة رسوله من المشركين ، وآذنهم بنبذ عهودهم وبعود حالة القتال بينهم وبين المؤمنين كما كانت ، بعد أن ثبت بالتجربة أنهم لا عهود لهم يوفى بها ، ولا أيمان يبرونها ، بل يعقدونها عند الخوف ، وينقضونها عند الشعور بالقدرة على الفتك - كما تقدم شرحه مفصلا - عز ذلك على بعض المسلمين ، وفتح به باب لدسائس المنافقين ، وتبرم ضعفاء الإيمان - وكان أكثرهما من الطلقاء الذين أعتقهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم فتح مكة ، كان هو السبب لما تقدم من تكرار الأمر بقتال المصرين على الشرك ، الناقضين للعهد ، وتأكيده ، وإقامة الدلائل على وجوبه ، وكونه مقتضى الحق والعدل والمصلحة ، وإنما كان موضع الضعف من بعض المسلمين في ذلك نعرة القرابة ، ورحمة الرحم ، وبقية عصبية النسب ; إذ كان لا يزال لكثير منهم أولو قربى من المشركين يكرهون قتالهم ، ويتمنون إيمانهم ، ويرجونه إذا تركوا وشأنهم ، بل كان لبعض ضعفاء الإيمان منهم بطانة ووليجة منهم ، فبعد أن بين الله تعالى لهم ما تقدم مما أشرنا إليه آنفا وقفى عليه بفضل الإيمان والجهاد والهجرة ، وحبوط أعمال المشركين حتى ما كان منها خيرا في نفسه كسقاية الحاج والعمارة الصورية للمسجد الحرام - بعد هذا - بين لهم أن ما ذكر من فضل الإيمان والهجرة والجهاد ، وما بشر به أهله من رحمته منه رضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ، لا يتم إلا بترك ولاية الكافرين ، وإيثار حب الله ورسوله ، والجهاد في سبيله على حب الوالد والولد ، والأخ والزوج والعشيرة والمال والسكن ، فقال : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء أي: لا يتخذ أحد منكم أحدا من أب أو أخ وليا له ينصره في القتال ، أو يظاهر لأجله الكفار ، بأن يتخذه بطانة ووليجة يخبره بأسرار المؤمنين ، وما يستعدون به لقتال المشركين ، كما علم في هذا السياق من آية : أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ( 16 ) إن استحبوا الكفر على الإيمان أي: إن أصروا على الكفر وآثروه على الإيمان بالحب وما يقتضيه هذا الحب من قتال المؤمنين وعداوتهم ، كما علم من شأنهم منذ ظهر الإسلام إلى نزول هذه السورة بعد فتح مكة ، ولا سيما جموعهم في حنين الآتي ذكرها . وقد علم من قبل فتحها أن وهو من حاطب بن أبي بلتعة أهل بدر قد استخفته نعرة القرابة فكتب إلى مشركي مكة سرا يعلمهم فيه بما عزم عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قتالهم ; ليتخذ له بذلك يدا عندهم يكافئونه عليها بحماية ما كان له عندهم من قرابة ، وفي ذلك نزلت سورة الممتحنة في ، فتراجع ، فكل ما فيها من تعليل وتقييد للنهي عن المودة والموالاة فهو هنا ، وقيل : إن هذه الآية نزلت في قصته ، وقيل : فيما تقدم من امتناع نهي المؤمنين عن موالاة أعداء الله وأعدائهم وعن موادتهم العباس من الهجرة لما دعي إليها ، وقيل : في كل من ثقلت عليه الهجرة عند ما دعوا إليها ، ولا يصح من ذلك شيء . وقيل : في الذين شكوا [ ص: 202 ] مما أوجبته هذه السورة من البراءة من المشركين ، وتحدثوا باستنكاره ، والصواب ما تقدم من نزولها مع ما قبلها وما بعدها ، وأنهم استثقلوا ذلك ، ولم يصح أنهم شكوا منه .
ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون أي: ومن يتولهم منكم والحال ما ذكر فأولئك المتولون لهم هم الظالمون لأنفسهم ولجماعتهم ، العريقون في الظلم الراسخون فيه بوضع الولاية في موضع البراءة ، والمودة في محل العداوة ، دون من لم تستخفه نعرة القرابة وحمية الجاهلية النسبية إلى أن تحمله على ولاية أعداء الله ورسوله والمؤمنين بنصرهم ومظاهرتهم في القتال وما يتعلق به . فهو بمعنى قوله تعالى في سورة الممتحنة : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ( 60 : 8 و9 ) فإنما النهي عن ولاية الحرب والنصرة للكافرين المحاربين لنا لأجل ديننا . ومثله النهي عن في سورة المائدة وقوله فيها : تولي أهل الكتاب ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( 5 : 51 ) فالظلم في الآيات الثلاثة واحد والولاية واحدة ، وذكر بعض المفسرين أن فسر الظلم في آية : " براءة " بالشرك; لأن متولي القوم منهم . كما قال ابن عباس في آية " المائدة " : وإنما يتحقق هذا في الولاية التامة دون مثل ما فعل ابن جرير حاطب متأولا .