ثم قال عز وجل :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=34nindex.php?page=treesubj&link=28980_2650والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم مقتضى السياق أن تكون هذه الجملة في الكثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله وهو مروي عن
معاوية وسيأتي نصه ، وعن
الضحاك ، وعنه أنها عامة وخاصة ، ووجهه أن الكلام فيهم ، فهم الذين جمعوا بين أكل أموال الناس بالباطل ، وبين كنزها وجمعها والامتناع من إنفاقها في سبيل الله ، بل ينفقون كثيرا منها في صدهم الناس عن سبيل الله ، ويجوز أن تكون كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي في المؤمنين المخاطبين بالآية المبينة لحال أولئك الأحبار والرهبان ، الذين صار جمع الأموال والافتتان بكثرتها وخزنها في الصناديق واستغلالها في المصارف ( البنوك ) أعظم همهم في الحياة ; لأنهم فقدوا لذة الحياة الروحية بمعرفة الله تعالى وخشيته ومحبته وعبادته - تحذيرا للمؤمنين من الإخلاد إلى هذه السفالة . وسيأتي عن
أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أنها فينا وفي
أهل الكتاب جميعا ، وهو المختار عندنا ; فإن اللفظ مطلق فيجب جريانه على إطلاقه وعمومه ، وأولئك الأحبار والرهبان يدخلون فيه أولا وبالذات بدلالة السياق ; لأنهم هبطوا في المطامع المادية إلى أسفل الدركات .
والكنز في اللغة جمع الشيء ورصه بعضه على بعض ، ومنه كنيز اللحم ومكتنزه أي صلبه وشديده ، وكنزت الحب في الجراب فاكتنز فيه ، وكنزت الجراب إذا ملأته جدا قاله في الأساس ، وقال
الراغب : الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه وأصله من كنزت التمر في الوعاء إلخ .
والمراد بالكنز هنا خزن الدنانير والدراهم في الصناديق أو دفنها في التراب وإمساكها ، وما يلزمه من الامتناع عن إنفاقها فيما شرعه الله من البر والخير ، وسيأتي بيان مصارفها الشرعية في آية :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=60إنما الصدقات ( 60 ) من هذه السورة . وأنث الضمير في ينفقونها وما قبله مثنى ; لأن المراد بالذهب الدنانير وبالفضة الدراهم المضروبة من كل منهما لا جنس الذهب .
[ ص: 350 ] والفضة ومعدنهما الذي يصدق بالحلي المباح وغيره ؛ فإن الدراهم والدنانير هي المعدة للإنفاق ، والوسيلة للمنفعة والارتفاق ، ولا فائدة فيها إلا في إنفاقها ، فكنزها إبطال لمنافعها ، فهو من سخف العقل ، وعصيان الشرع ، وكل مثنى له أفراد لكل من نوعيه يجوز إرجاع الضمير بعده إلى جملة من الأفراد من نوعيه ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) ، ( 49 : 9 ) ، وقيل : إن المراد بضمير ينفقونها الأموال التي ذكر أنهم يأكلونها بالباطل ، ويترجح هذا على قول من يخص الكلام بهم ، والمختار خلافه . وظاهر قوله : ( ولا ينفقونها ) أن الواجب إنفاقها كلها ، وأن الوعيد موضعه إلى من يبقى عنده شيئا يزيد على حاجته منها ، وهذا لا يصح في قواعد الشرع الإسلامي ؛ فإن الله وصف المؤمنين في كتابه بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3ومما رزقناهم ينفقون ) ، و ( والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ) ، ( 70 : 24 ، 25 ) ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=267أنفقوا من طيبات ما كسبتم ) ، ( 2 : 267 ) ، ( وأنفقوا مما رزقناكم ) ( 63 : 10 ) ، وإنما قال بعض العلماء : إنه يجب التصدق بجميع ما أحرزه الإنسان من المال الحرام إذا تعذر رده إلى أصحابه ، دون إنفاق جميع ما يملك من الحل ، ولو كانت الآية فيمن ذكر من
أهل الكتاب كما قال معاوية لكان الأمر ظاهرا ، وأما على القولين الآخرين فلا بد من الجمع بينهما وبين الآيات المعارضة لهما ، وفي الروايات المأثورة ما يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم فهموا من الآية وجوب إنفاق جميع ما يملك الإنسان من نقد الذهب والفضة ، وأن جمهورهم رجعوا عن هذا وبقي عليه
أبو ذر رضي الله عنه . أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة في مسنده
وأبو داود وأبو يعلى nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم والحاكم وصححه
وابن مردويه ،
والبيهقي في سننه عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ـ رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=34والذين يكنزون الذهب والفضة ) ، كبر ذلك على المسلمين ، وقالوا : ما يستطيع أحد منا يدع لولده مالا يبقى بعده ، فقال
عمر : أنا أفرج عنكم ، فانطلق واتبعه
nindex.php?page=showalam&ids=99ثوبان ، فأتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا نبي الله ، إنه كبر على أصحابك هذه الآية ، فقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920291إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم " ، فكبر
عمر ـ رضي الله عنه ـ ثم قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920292ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته " وحديث المرأة الصالحة مروي عنه من طرق أخرى . وأخرج
أحمد في الزهد ،
nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ،
وابن مردويه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رضي الله عنه
[ ص: 351 ] قال : إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال ، ثم قال : ما أبالي لو كان عندي مثل أحد ذهبا ، أعلم عدده ، أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله . والمراد : أن هذا الحكم وهو وجوب إنفاق كل ما يملك المؤمن من النقدين ـ كان في أول الإسلام ، وقبل فرض الزكاة ، وليس معناه أن آية " براءة " هذه نزلت قبل إيجاب الزكاة ؛ لما عليه الجمهور من أن
nindex.php?page=treesubj&link=23844الزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة ، " وبراءة " نزلت سنة تسع كما تقدم ، وهي السنة التي عين فيها العمال لجمع الزكاة . وأخرج
مالك والشافعي
nindex.php?page=showalam&ids=12508وابن أبي شيبة وغيرهم عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر أيضا قال : ما أدي زكاته فليس بكنز ، وإن كان تحت سبع أرضين ، وما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا ، وأخرج
ابن مردويه عنه مرفوعا مثله . قال
البيهقي : والمحفوظ الموقوف . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي والخطيب عن
جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920293أي مال أديت زكاته فليس بكنز " وأخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة عنه موقوفا ، وهو المحفوظ ، كما قال
البيهقي . وأخرج غير واحد عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس مثل قول
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، وعن
عمر أيضا ، فجملة هذه الأخبار والآثار تدل على أن الكنز المتوعد عليه في هذه الآية هو ما لم تؤد زكاته كما نقله
nindex.php?page=showalam&ids=13332الحافظ ابن عبد البر عن الجمهور ، قال : ويشهد له حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة مرفوعا : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920294إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك " أقول : وكذا النفقات الواجبة التي لا تجب الزكاة إلا فيما زاد من المال عليها .
وقال الحافظ في شرح حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر المتقدم من الفتح عند قوله قبل أن تنزل الزكاة هذا مشعر بأن الوعيد على الاكتناز - وهو حبس ما فضل عن الحاجة عن المواساة به - فعلى هذا المراد بنزول الزكاة بيان نصابها ومقاديرها لا إنزال أصلها والله أعلم . وقول
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر : لا أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا ـ كأنه يشير إلى قول
أبي ذر الآتي آخر الباب ، والجمع بين كلام
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، وحديث
أبي ذر : أن يحمل حديث
أبي ذر على مال تحت يد الشخص لغيره فلا يجب أن يحبسه عنه ، أو يكون له لكنه ممن يرجى فضله ، وتطلب عائدته كالإمام الأعظم ، فلا يجب أن يدخر عن المحتاجين من رعيته شيئا ، ويحمل حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر على مال يملكه ، قد أدى زكاته ، فهو يجب أن يكون عنده ليصل به قرابته ، ويستغني عن مسألة الناس ، وكان
أبو ذر يحمل الحديث على إطلاقه ، فلا يرى ادخار شيء أصلا . ( قال ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : وردت عن
أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله ، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك ، وخالفه جمهور الصحابة ، ومن بعدهم ، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة ، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة ، وغيره في قصة الأعرابي حيث قال : هل علي غيرها ؟ ( يعني الزكاة ) ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920295إلا أن تطوع " ا هـ ، والظاهر أن هذا كان في أول الأمر ؛ كما
[ ص: 352 ] تقدم عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر . وقد استدل
nindex.php?page=showalam&ids=12997ابن بطال له بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ( 2 : 219 ) أي : ما فضل عن الكفاية فكان ذلك واجبا في أول الأمر ثم نسخ والله أعلم اهـ .
أقول : وأما
أبو ذر فأخبار مذهبه مشهورة ، منها ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري وغيره من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=15950زيد بن وهب قال : مررت
بالربذة ( وهي بالفتح مكان بين
مكة والمدينة ) فإذا أنا
بأبي ذر ـ رضي الله عنه ـ ، فقلت : ما أنزلك هذا ؟ قال : كنت
بالشام فاختلفت أنا
ومعاوية في
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=34والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فقال
معاوية نزلت في
أهل الكتاب ، فقلت : نزلت فينا وفيهم ، فكان بيني وبينه في ذلك وكتب إلى
عثمان ـ رضي الله عنه ـ يشكوني ، فكتب إلي
عثمان أن أقدم
المدينة ، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك
لعثمان فقال : إن شئت تنحيت فكنت قريبا ، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ، ولو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت . اهـ .
ذكر الحافظ في شرح هذا الحديث من الفتح أن
nindex.php?page=showalam&ids=15950زيد بن وهب إنما سأل
أبا ذر عن نزوله في ذلك المكان ؛ لأن مبغضي
عثمان كانوا يشنعون عليه بأنه نفى
أبا ذر ، وقد بين
أبو ذر أن نزوله فيه كان باختياره . ( قال ) نعم أمره
عثمان بالتنحي عن
المدينة لدفع المفسدة التي خافها على غيره من مذهبه المذكور فاختار
الربذة ، وقد كان يغدو إليها في زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما رواه أصحاب السنن من وجه آخر ( قال ) وفي طبقات
ابن سعد من وجه آخر أن ناسا من أهل
الكوفة قالوا
لأبي ذر وهو
بالربذة : إن هذا الرجل فعل بك وفعل ، فهل أنت ناصب لنا رأيه ؟ - يعني فنقاتله - فقال : لا ، لو أن
عثمان سيرني من المشرق إلى المغرب لسمعت وأطعت .
وذكر عن
أبي يعلى بإسناد فيه ضعف عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : استأذن
أبو ذر على
عثمان فقال : إنه يؤذينا - فلما دخل قال له
عثمان : أنت الذي تزعم أنك خير من
أبي بكر وعمر ؟ قال : لا ، ولكن سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920296إن أحبكم إلي وأقربكم مني من بقي على العهد الذي عاهدته عليه " وأنا باق على عهده . قال : فأمره أن يلحق
بالشام . وكان يحدثهم ويقول : لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريم ، فكتب
معاوية إلى
عثمان : إن كان لك
بالشام حاجة فابعث إلى
أبي ذر ، فكتب إليه
عثمان أن اقدم علي ، فقدم اهـ .
وأقول : إن في قصة
أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ عبرة بما كان من دسائس
الشيعة في الخروج على
عثمان ـ رضي الله عنه ـ وفيه حجة على أن حرية العلم والرأي واحترام العلماء كانتا على عهد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في أعلى درجات الكمال ، وقال الحافظ في فوائد حديث
أبي ذر في الفتح : وفيه ملاطفة الأئمة للعلماء فإن
معاوية لم يجسر على الإنكار عليه حتى كاتب
[ ص: 353 ] من هو أعلى منه في أمر ،
وعثمان لم يحنق على
أبي ذر مع كونه كان مخالفا له في تأويله . ( وفيه ) التحذير من الشقاق ، والخروج على الأئمة ، والترغيب في الطاعة لأولي الأمر - وأمر الأفضل بطاعة المفضول خشية المفسدة - وجواز
nindex.php?page=treesubj&link=22291الاختلاف في الاجتهاد - والأخذ بالشدة في الأمر بالمعروف ، وإن أدى ذلك إلى فراق الوطن - وتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة ؛ لأن في بقاء
أبي ذر بالمدينة مصلحة كبيرة من بث علمه في طالب العلم ، ومع ذلك رجح عند
عثمان دفع ما يتوهم من المفسدة من الأخذ بمذهبه الشديد في هذه المسألة ، ولم يأمره بالرجوع عنه ؛ لأن كلا منهما كان مجتهدا اهـ .
ومن أخباره ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=13669الأحنف بن قيس قال : جلست إلى ملأ من
قريش ، فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة ، حتى قام عليهم فسلم ثم قال : بشر الكافرين برضف يحمى عليهم في نار جهنم ، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل ، ثم ولى فتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو ، فقلت : لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت . قال : إنهم لا يعقلون شيئا : قال لي خليلي - قال قلت : ومن خليلك ؟ قال : النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920297يا أبا ذر أتبصر أحدا " ؟ قال : فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرسلني في حاجة له قلت - نعم ، قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920298ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير " وإن هؤلاء لا يعقلون إنما يجمعون الدنيا ، ولا والله ما أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عز وجل اهـ .
أقول : إن هذا الحديث لا يدل على وجوب إنفاق كل ما زاد على الحاجة ، وإنما هو في الزهد في المال - وإنما الزهد من صفات النفس . وتفضيل إنفاقه في وجوه البر على إمساك ما فضل عن الحاجة وهو عزيمة الخواص الذين ليس لهم عيال لا المشروع لكل الناس ، فإن نصوص الكتاب والسنة تنافي إنفاق كل ما يملك المرء كما تقدم ، وتأمر بالقصد والاعتدال ، فمن الآيات قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=67والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ( 25 : 67 ) و
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا [ ص: 354 ] ( 17 : 29 ) ، ومن الأحاديث الصحيحة المشهورة حديث نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
nindex.php?page=showalam&ids=37لسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ عن التصدق بجميع ماله وإجازته بالثلث مع قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919053والثلث كثير " . وقد أخرج
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني عن
nindex.php?page=showalam&ids=75شداد بن أوس قال : كان
أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ يسمع من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمر فيه الشدة ، ثم يخرج إلى باديته ، ثم يرخص فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد ذلك ، فيحفظ من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك الأمر الرخصة ، فلا يسمعها
أبو ذر ، فيأخذ
أبو ذر بالأمر الأول الذي سمع قبل ذلك . ا هـ . والسبب الحقيقي لتشدده استعداده الفطري للأخذ بالعزائم ، واحتمال الشدائد ، واحتقار التنعم ، والسعة في الدنيا ، وعرف هذا التشدد عن أفراد من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ونهاهم عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد اختبره
معاوية ، فأرسل إليه مالا كثيرا ، فلم يلبث أن تصدق به ، وأرسل إليه
صهيب بن سلمة ، وهو أمير
بالشام ثلاثمائة دينار ، وقال : استعن بها على حاجتك ، فردها ، وقال لرسوله : ارجع بها إليه ، أما وجد أحدا أغر بالله منا ؟ ما لنا إلا الظل نتوارى به ، وثلاثة من غنم تروح علينا ، ومولاة لنا تصدق علينا بخدمتها ، ثم إني لأنا أتخوف الفضل . قوله : تصدق علينا أصله تتصدق ، فحذفت إحدى التاءين للتخفيف ، وقد أطلت في هذه المسألة لما فيها من العبرة في هذا المقام ، والفصل بين اعتدال الشريعة ، وغلو بعض الزهاد ، والتذكير بأنه قد قل في المسلمين الزهاد والمقتصدون ، وكثر فيهم البخلاء والمسرفون ، الذين يفسدون في الأرض بمالهم ، ولا يصلحون .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=35يوم يحمى عليها في نار جهنم ) : الظرف هنا يتعلق بقوله ـ تعالى ـ قبله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=34بعذاب أليم ) ، وقد بينا من قبل أن الأصل في البشارة الخبر المؤثر يظهر تأثيره في بشرة الوجه بالسرور ، أو الكآبة ولكن غلب في الأول ، ولذلك يحمل في مثل هذا المقام على آلهتكم ، والمراد به الإنذار ، أي أخبرهم بعذاب أليم يصيبهم في ذلك اليوم الذي يحمى فيه على تلك الأموال المكنوزة في نار جهنم أي دار العذاب ، بأن توضع وتضرم عليها النار الحامية حتى تصير مثلها ؛ فهو كقوله ـ تعالى ـ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع ) ، ( 13 : 17 ) وهو أبلغ من " يوم تحمى " فتكون من الإحماء عليها كالميسم ، وظاهر العبارة أنه يحمى عليها بأعيانها والله قادر على إعادتها ، وإن كان المعنى المراد من الإنذار يحصل بالإحماء عليها ، وعلى مثلها ، وليس في أعيانها من المعنى ولا الحكمة ما في إعادة الأجساد ، وأمور الآخرة من عالم الغيب فلا ندرك كنهها وصفاتها من الألفاظ المعبرة عنها ، فمذهب السلف الحق : الإيمان بالنصوص مع تفويض أمر الكنه ، والصفة إلى عالم الغيب سبحانه ، والواجب علينا ـ مع الإيمان بالنص ـ العبرة المرادة منه في إصلاح النفس .
[ ص: 355 ] ويرد عليه أن هذه الأموال تفنى بخراب الدنيا ، وصيرورة الأرض بقيام الساعة هباء منبثا ، ويجاب عنه بما أجيب عن القول بإعادة الأجساد بأعيانها من قدرة الله ـ تعالى ـ على ذلك ، وأهون منه إيراد كون الدرهم أو الدينار الواحد قد يكنزه كثير من الناس بالتداول ، وقد يقال إنهم جسدا لكثير من الناس ، والحيتان والوحوش والأنعام ، وتقدم تفصيل هذا في الكلام على بعث الأجساد من سورة الأعراف . وفي بعض الآثار أن الدنانير والدراهم المكنوزة تحمى كلها وإن كثرت ويتسع جسده لها كلها حتى لا يوضع دينار مكان دينار ، ولم يصح هذا مرفوعا ، وإنما صح عند
مسلم من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة مرفوعا : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920299ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره " الحديث . والصفائح غير الدراهم والدنانير ، وهي بالرفع نائب الفاعل لجعل فيجوز أن تكون مما يخلقه الله يوم القيامة ، ورواية الرفع هي المشهورة . قال الشراح وفي رواية بالنصب ، وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي عنه مرفوعا أيضا : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920300من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل شجاع أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه ، يقول : أنا مالك أنا كنزك " ثم تلا ـ صلى الله عليه وسلم ـ آية : ( nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=180سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) ، وفي رواية
nindex.php?page=showalam&ids=15397للنسائي : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=918992إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يخيل إليه ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ، فيلزمه أو يطوقه ، يقول : أنا كنزك أنا كنزك " فهذا نص صحيح من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ذلك التعذيب بجعل المال صفائح يكوى بها مانع الزكاة أو شجاعا ( وهو ذكر الحيات ) يطوقه إنما هو ضرب من التمثيل ، أو التخييل ، لا نفس المال الذي كان يكنزه في الدنيا ، وبه يبطل كل إيراد ويزول كل إشكال ، والتعذيب حقيقي على كل حال .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=35فتكوى بها جباههم ) ، التي كانوا يستقبلون بها الناس منبسطة أساريرها من الاغتباط بعظمة الثروة ـ ويستقبلون بها الفقراء منقبضة متغضنة من العبوس والتقطيب في وجوههم ؛ لينفروا ويحجموا عن السؤال ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=35وجنوبهم وظهورهم ) التي كانوا يتقلبون بها على سرر النعمة اضطجاعا واستلقاء ، ويعرضون بها عن لقاء المساكين ، وطلاب الحاجات ازورارا وإدبارا ، فلا يكون لهم في جهنم ارتفاق ولا استراحة فيما سوى الوقوف إلا بالانكباب على وجوههم كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=48يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر ) ( 54 : 48 ) ، وكذلك قال هنا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=35هذا ما كنزتم لأنفسكم ) ، أي تقول لهم ملائكة العذاب الذين يتولون كيهم : هذا العذاب الأليم الواقع بكم هو جزاء ما كنتم تكنزون في الدنيا ، أو هذا الميسم الذي تكوون به هو المال الذي كنزتموه لأنفسكم لتتفردوا بالتمتع به .
[ ص: 356 ] nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=35فذوقوا ما كنتم تكنزون أي : ذوقوا وباله ونكاله ، أو وبال كنزكم له وإمساككم إياه عن النفقة في سبيل الله . وحاصل المعنى أن ما كنتم تظنون من منفعة كنزه لأنفسكم خاصة بها لا يشارككم فيها أحد قد كان لكم خلفا ، وعليكم ضدا ، فإنه صار في الدنيا لغيركم ، وكان عذابه في الآخرة هو الخاص بكم ، كدأب جميع أهل الباطل ، فيما زين لهم من الرذائل ، يرى البخلاء أن البخل حزم ، كما يرى الجبناء أن الجبن حزم ، وتلك خديعة الطبع اللئيم ، واجتهاد الرأي الأفين ، فالأولون من خوف الفقر في فقر ، والآخرون يعرضون أنفسهم للأذى أو الموت بهربهم من الموت ، فإن جبنهم هو الذي يغري المعتدين بإيذائهم ، ويمكن القائلين من الفتك بهم .
وإن أكبر أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر ، وتمكين أعدائهم من سلب ملكهم ، ومحاولة تحويلهم عن دينهم ، هو بخل أغنيائهم ، وجبن ملوكهم وأمرائهم ، وقوادهم وزعمائهم ، الذي جعلهم أعوانا لسالبي ملكهم على أنفسهم . وقد تقدم بيان هذا المعنى في تفسير قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ( 2 : 195 ) فلو أسس الأغنياء مدارس للجمع بين تعليم العلوم الدينية والدنيوية ، لاستغنوا بها عن مدارس دعاة النصرانية ، ولأمكن للمصلحين منهم إذا تولوا إدارتها أن يخرجوا لهم فيها رجالا يحفظون للأمة دينها وملكها ، ويعيدون إليها مجدها ، ويجذبون أقوام أولئك المعتدين عليها إلى الإسلام فيدخلون فيه أفواجا ، ويعود الأمر كما بدأ .
ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=34nindex.php?page=treesubj&link=28980_2650وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي الْكَثِيرِ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ
مُعَاوِيَةَ وَسَيَأْتِي نَصُّهُ ، وَعَنِ
الضَّحَّاكِ ، وَعَنْهُ أَنَّهَا عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمْ ، فَهُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ، وَبَيْنَ كَنْزِهَا وَجَمْعِهَا وَالِامْتِنَاعِ مِنْ إِنْفَاقِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، بَلْ يُنْفِقُونَ كَثِيرًا مِنْهَا فِي صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيُّ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِحَالِ أُولَئِكَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ ، الَّذِينَ صَارَ جَمْعُ الْأَمْوَالِ وَالِافْتِتَانُ بِكَثْرَتِهَا وَخَزْنِهَا فِي الصَّنَادِيقِ وَاسْتِغْلَالِهَا فِي الْمَصَارِفِ ( الْبُنُوكِ ) أَعْظَمَ هَمِّهِمْ فِي الْحَيَاةِ ; لِأَنَّهُمْ فَقَدُوا لَذَّةَ الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ - تَحْذِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِخْلَادِ إِلَى هَذِهِ السَّفَالَةِ . وَسَيَأْتِي عَنْ
أَبِي ذَرٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّهَا فِينَا وَفِي
أَهْلِ الْكِتَابِ جَمِيعًا ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا ; فَإِنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فَيَجِبُ جَرَيَانُهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ ، وَأُولَئِكَ الْأَحْبَارُ وَالرُّهْبَانُ يَدْخُلُونَ فِيهِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ بِدِلَالَةِ السِّيَاقِ ; لِأَنَّهُمْ هَبَطُوا فِي الْمَطَامِعِ الْمَادِّيَّةِ إِلَى أَسْفَلِ الدِّرَكَاتِ .
وَالْكَنْزُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ الشَّيْءِ وَرَصُّهُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ، وَمِنْهُ كَنِيزُ اللَّحْمِ وَمُكْتَنِزُهُ أَيْ صُلْبُهُ وَشَدِيدُهُ ، وَكَنَزْتُ الْحَبَّ فِي الْجِرَابِ فَاكْتَنَزَ فِيهِ ، وَكَنَزْتُ الْجِرَابَ إِذَا مَلَأْتُهُ جِدًّا قَالَهُ فِي الْأَسَاسِ ، وَقَالَ
الرَّاغِبُ : الْكَنْزُ جَعْلُ الْمَالِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَحِفْظُهُ وَأَصْلُهُ مِنْ كَنَزْتُ التَّمْرَ فِي الْوِعَاءِ إِلَخْ .
وَالْمُرَادُ بِالْكَنْزِ هُنَا خَزْنُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فِي الصَّنَادِيقِ أَوْ دَفْنُهَا فِي التُّرَابِ وَإِمْسَاكُهَا ، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الِامْتِنَاعِ عَنْ إِنْفَاقِهَا فِيمَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ فِي آيَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=60إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ ( 60 ) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ . وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي يُنْفِقُونَهَا وَمَا قَبْلَهُ مُثَنًّى ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذَّهَبِ الدَّنَانِيرُ وَبِالْفِضَّةِ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا جِنْسُ الذَّهَبِ .
[ ص: 350 ] وَالْفِضَّةِ وَمَعْدَنِهِمَا الَّذِي يَصْدُقُ بِالْحُلِيِّ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ هِيَ الْمُعَدَّةُ لِلْإِنْفَاقِ ، وَالْوَسِيلَةُ لِلْمَنْفَعَةِ وَالِارْتِفَاقِ ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا إِلَّا فِي إِنْفَاقِهَا ، فَكَنْزُهَا إِبْطَالٌ لِمَنَافِعِهَا ، فَهُوَ مِنْ سَخَفِ الْعَقْلِ ، وَعِصْيَانِ الشَّرْعِ ، وَكُلُّ مُثَنَّى لَهُ أَفْرَادٌ لِكُلٍّ مِنْ نَوْعَيْهِ يَجُوزُ إِرْجَاعُ الضَّمِيرِ بَعْدَهُ إِلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْأَفْرَادِ مِنْ نَوْعَيْهِ ؛ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى ـ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) ، ( 49 : 9 ) ، وَقِيلَ : إِنَّ الْمُرَادَ بِضَمِيرِ يُنْفِقُونَهَا الْأَمْوَالُ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَهَا بِالْبَاطِلِ ، وَيَتَرَجَّحُ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَخُصُّ الْكَلَامُ بِهِمْ ، وَالْمُخْتَارُ خِلَافُهُ . وَظَاهِرُ قَوْلِهِ : ( وَلَا يُنْفِقُونَهَا ) أَنَّ الْوَاجِبَ إِنْفَاقُهَا كُلُّهَا ، وَأَنَّ الْوَعِيدَ مَوْضِعُهُ إِلَى مَنْ يَبْقَى عِنْدَهُ شَيْئًا يَزِيدُ عَلَى حَاجَتِهِ مِنْهَا ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْإِسْلَامِيِّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) ، وَ ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ، ( 70 : 24 ، 25 ) ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=267أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) ، ( 2 : 267 ) ، ( وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ) ( 63 : 10 ) ، وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلُمَاءِ : إِنَّهُ يَجِبُ التُّصَدُّقُ بِجَمِيعِ مَا أَحْرَزَهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَالِ الْحَرَامِ إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ إِلَى أَصْحَابِهِ ، دُونَ إِنْفَاقِ جَمِيعِ مَا يَمْلِكُ مِنَ الْحِلِّ ، وَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ فِيمَنْ ذُكِرَ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ مُعَاوِيَةُ لَكَانَ الْأَمْرُ ظَاهِرًا ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْآيَاتِ الْمُعَارِضَةِ لَهُمَا ، وَفِي الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَهِمُوا مِنَ الْآيَةِ وُجُوبَ إِنْفَاقِ جَمِيعِ مَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَقْدِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَأَنَّ جُمْهُورَهُمْ رَجَعُوا عَنْ هَذَا وَبَقِيَ عَلَيْهِ
أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . أَخْرَجَ
nindex.php?page=showalam&ids=12508ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ
وَأَبُو دَاوُدَ وَأَبُو يَعْلَى nindex.php?page=showalam&ids=16328وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ ،
وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=34وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ) ، كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَقَالُوا : مَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَّا يَدَعُ لِوَلَدِهِ مَالًا يَبْقَى بَعْدَهُ ، فَقَالَ
عُمَرُ : أَنَا أُفَرِّجُ عَنْكُمْ ، فَانْطَلَقَ وَاتَّبَعَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=99ثَوْبَانُ ، فَأَتَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، إِنَّهُ كَبُرَ عَلَى أَصْحَابِكِ هَذِهِ الْآيَةُ ، فَقَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920291إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِيُطَيِّبَ بِهَا مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ ، وَإنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيثَ مِنْ أَمْوَالٍ تَبْقَى بَعْدَكُمْ " ، فَكَبَّرَ
عُمَرُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920292أَلَا أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ الَّتِي إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ " وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ مَرْوِيٌّ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى . وَأَخْرَجَ
أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=12070وَالْبُخَارِيُّ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وَابْنُ مَاجَهْ ،
وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
[ ص: 351 ] قَالَ : إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلْأَمْوَالِ ، ثُمَّ قَالَ : مَا أُبَالِي لَوْ كَانَ عِنْدِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا ، أَعْلَمُ عَدَدَهُ ، أُزَكِّيهِ وَأَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ . وَالْمُرَادُ : أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ وُجُوبُ إِنْفَاقِ كُلِّ مَا يَمْلِكُ الْمُؤْمِنُ مِنَ النَّقْدَيْنِ ـ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ، وَقَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ آيَةَ " بَرَاءَةٌ " هَذِهِ نَزَلَتْ قَبْلَ إِيجَابِ الزَّكَاةِ ؛ لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=23844الزَّكَاةَ فُرِضَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ ، " وَبَرَاءَةٌ " نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي عُيِّنَ فِيهَا الْعُمَّالُ لِجَمْعِ الزَّكَاةِ . وَأَخْرَجَ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
nindex.php?page=showalam&ids=12508وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُمْ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا قَالَ : مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ ، وَمَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا ، وَأَخْرَجَ
ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ . قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ : وَالْمَحْفُوظُ الْمَوْقُوفُ . وَأَخْرَجَ
nindex.php?page=showalam&ids=13357ابْنُ عَدِيٍّ وَالْخَطِيبُ عَنْ
جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920293أَيُّ مَالٍ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ " وَأَخْرَجَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12508ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ مَوْقُوفًا ، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ ، كَمَا قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ . وَأَخْرَجَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ قَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ ، وَعَنْ
عُمَرَ أَيْضًا ، فَجُمْلَةُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَنْزَ الْمُتَوَعَّدَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ كَمَا نَقَلَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13332الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْجُمْهُورِ ، قَالَ : وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920294إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ " أَقُولُ : وَكَذَا النَّفَقَاتُ الْوَاجِبَةُ الَّتِي لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إِلَّا فِيمَا زَادَ مِنَ الْمَالِ عَلَيْهَا .
وَقَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ مِنَ الْفَتْحِ عِنْدَ قَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ الزَّكَاةُ هَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْوَعِيدَ عَلَى الِاكْتِنَازِ - وَهُوَ حَبْسُ مَا فَضَلَ عَنِ الْحَاجَةِ عَنِ الْمُوَاسَاةِ بِهِ - فَعَلىَ هَذَا الْمُرَادُ بِنُزُولِ الزَّكَاةِ بَيَانُ نِصَابِهَا وَمَقَادِيرِهَا لَا إِنْزَالُ أَصْلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ : لَا أُبَالِي لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا ـ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ
أَبِي ذَرٍّ الْآتِي آخِرَ الْبَابِ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ كَلَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ ، وَحَدِيثِ
أَبِي ذَرٍّ : أَنْ يُحْمَلَ حَدِيثُ
أَبِي ذَرٍّ عَلَى مَالٍ تَحْتَ يَدِ الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَحْبِسَهُ عَنْهُ ، أَوْ يَكُونَ لَهُ لَكِنَّهُ مِمَّنْ يُرْجَى فَضْلُهُ ، وَتُطْلَبُ عَائِدَتُهُ كَالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَدَّخِرَ عَنِ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ رَعِيَّتِهِ شَيْئًا ، وَيُحْمَلُ حَدِيثُ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ عَلَى مَالٍ يَمْلِكُهُ ، قَدْ أَدَّى زَكَاتَهُ ، فَهُوَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ لِيَصِلَ بِهِ قَرَابَتَهُ ، وَيَسْتَغْنِيَ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ ، وَكَانَ
أَبُو ذَرٍّ يَحْمِلُ الْحَدِيثَ عَلَى إِطْلَاقِهِ ، فَلَا يَرَى ادِّخَارَ شَيْءٍ أَصْلًا . ( قَالَ ) قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَرَدَتْ عَنْ
أَبِي ذَرٍّ آثَارٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ مَجْمُوعٍ يَفْضُلُ عَنِ الْقُوتِ وَسَدَادِ الْعَيْشِ فَهُوَ كَنْزٌ يُذَمُّ فَاعِلُهُ ، وَأَنَّ آيَةَ الْوَعِيدِ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ ، وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَحَمَلُوا الْوَعِيدَ عَلَى مَانِعِي الزَّكَاةِ ، وَأَصَحُّ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ حَدِيثُ طَلْحَةَ ، وَغَيْرِهِ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟ ( يَعْنِي الزَّكَاةَ ) ، قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920295إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ " ا هـ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ؛ كَمَا
[ ص: 352 ] تَقَدَّمَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ . وَقَدِ اسْتَدَلَّ
nindex.php?page=showalam&ids=12997ابْنُ بَطَّالٍ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ( 2 : 219 ) أَيْ : مَا فَضَلَ عَنِ الْكِفَايَةِ فَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ .
أَقُولُ : وَأَمَّا
أَبُو ذَرٍّ فَأَخْبَارُ مَذْهَبِهِ مَشْهُورَةٌ ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=15950زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ : مَرَرْتُ
بِالْرَّبَذَةِ ( وَهِيَ بِالْفَتْحِ مَكَانٌ بَيْنَ
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ) فَإِذَا أَنَا
بِأَبِي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ ، فَقُلْتُ : مَا أَنْزَلَكَ هَذَا ؟ قَالَ : كُنْتُ
بِالشَّامِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا
وَمُعَاوِيَةُ فِي
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=34وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ نَزَلَتْ فِي
أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَقُلْتُ : نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ ، فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى
عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ يَشْكُونِي ، فَكَتَبَ إِلَيَّ
عُثْمَانُ أَنْ أَقْدَمَ
الْمَدِينَةَ ، فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ
لِعُثْمَانَ فَقَالَ : إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتَ قَرِيبًا ، فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ . اهـ .
ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَتْحِ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=15950زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ إِنَّمَا سَأَلَ
أَبَا ذَرٍّ عَنْ نُزُولِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ ؛ لِأَنَّ مُبْغِضِي
عُثْمَانَ كَانُوا يُشَنِّعُونَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ نَفَى
أَبَا ذَرٍّ ، وَقَدْ بَيَّنَ
أَبُو ذَرٍّ أَنَّ نُزُولَهُ فِيهِ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ . ( قَالَ ) نَعَمْ أَمَرَهُ
عُثْمَانُ بِالتَّنَحِّي عَنِ
الْمَدِينَةِ لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي خَافَهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَذْهَبِهِ الْمَذْكُورِ فَاخْتَارَ
الرَّبَذَةَ ، وَقَدْ كَانَ يَغْدُو إِلَيْهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ( قَالَ ) وَفِي طَبَقَاتِ
ابْنِ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ قَالُوا
لِأَبِي ذَرٍّ وَهُوَ
بِالرَّبَذَةِ : إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ فَعَلَ بِكَ وَفَعَلَ ، فَهَلْ أَنْتَ نَاصِبٌ لَنَا رَأْيَهُ ؟ - يَعْنِي فَنُقَاتِلَهُ - فَقَالَ : لَا ، لَوْ أَنَّ
عُثْمَانَ سَيَّرَنِي مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ .
وَذُكِرَ عَنْ
أَبِي يَعْلَى بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : اسْتَأْذَنَ
أَبُو ذَرٍّ عَلَى
عُثْمَانَ فَقَالَ : إِنَّهُ يُؤْذِينَا - فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ لَهُ
عُثْمَانُ : أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْ
أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ؟ قَالَ : لَا ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920296إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَنْ بَقِيَ عَلَى الْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدْتُهُ عَلَيْهِ " وَأَنَا بَاقٍ عَلَى عَهْدِهِ . قَالَ : فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ
بِالشَّامِ . وَكَانَ يُحَدِّثُهُمْ وَيَقُولُ : لَا يَبِيتَنَّ عِنْدَ أَحَدِكُمْ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِلَّا مَا يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ يُعِدُّهُ لِغَرِيمٍ ، فَكَتَبَ
مُعَاوِيَةُ إِلَى
عُثْمَانَ : إِنْ كَانَ لَكَ
بِالشَّامِ حَاجَةٌ فَابْعَثْ إِلَى
أَبِي ذَرٍّ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
عُثْمَانُ أَنِ اقْدَمْ عَلَيَّ ، فَقَدِمَ اهـ .
وَأَقُولُ : إِنَّ فِي قِصَّةِ
أَبِي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ عِبْرَةً بِمَا كَانَ مِنْ دَسَائِسِ
الشِّيعَةِ فِي الْخُرُوجِ عَلَى
عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ حُرِّيَّةَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ وَاحْتِرَامِ الْعُلَمَاءِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ ، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي فَوَائِدِ حَدِيثِ
أَبِي ذَرٍّ فِي الْفَتْحِ : وَفِيهِ مُلَاطَفَةُ الْأَئِمَّةِ لِلْعُلَمَاءِ فَإِنَّ
مُعَاوِيَةَ لَمْ يَجْسُرْ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ حَتَّى كَاتَبَ
[ ص: 353 ] مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فِي أَمْرٍ ،
وَعُثْمَانُ لَمْ يَحْنَقْ عَلَى
أَبِي ذَرٍّ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ فِي تَأْوِيلِهِ . ( وَفِيهِ ) التَّحْذِيرُ مِنَ الشِّقَاقِ ، وَالْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَةِ لِأُولِي الْأَمْرِ - وَأَمْرُ الْأَفْضَلِ بِطَاعَةِ الْمَفْضُولِ خَشْيَةَ الْمَفْسَدَةِ - وَجَوَازُ
nindex.php?page=treesubj&link=22291الِاخْتِلَافِ فِي الِاجْتِهَادِ - وَالْأَخْذُ بِالشِّدَّةِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى فِرَاقِ الْوَطَنِ - وَتَقْدِيمُ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ عَلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ ؛ لِأَنَّ فِي بَقَاءِ
أَبِي ذَرٍّ بِالْمَدِينَةِ مَصْلَحَةً كَبِيرَةً مِنْ بَثِّ عِلْمِهِ فِي طَالِبِ الْعِلْمِ ، وَمَعَ ذَلِكَ رَجُحَ عِنْدَ
عُثْمَانَ دَفْعُ مَا يُتَوَهَّمُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ مِنَ الْأَخْذِ بِمَذْهَبِهِ الشَّدِيدِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ مُجْتَهِدًا اهـ .
وَمِنْ أَخْبَارِهِ مَا رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13669الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : جَلَسْتُ إِلَى مَلَأٍ مِنْ
قُرَيْشٍ ، فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعْرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ ، حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : بَشِّرِ الْكَافِرِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ ، وَيُوضَعَ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ ، ثُمَّ وَلَّى فَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا لَا أَدْرِي مَنْ هُوَ ، فَقُلْتُ : لَا أَرَى الْقَوْمَ إِلَّا قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ . قَالَ : إِنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا : قَالَ لِي خَلِيلِي - قَالَ قُلْتُ : وَمَنْ خَلِيلُكَ ؟ قَالَ : النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920297يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أَحَدًا " ؟ قَالَ : فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ وَأَنَا أَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ قُلْتُ - نَعَمْ ، قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920298مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أَحَدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلُّهُ إِلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ " وَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا ، وَلَا وَاللَّهِ مَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اهـ .
أَقُولُ : إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِنْفَاقِ كُلِّ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الزُّهْدِ فِي الْمَالِ - وَإِنَّمَا الزُّهْدُ مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ . وَتَفْضِيلِ إِنْفَاقِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ عَلَى إِمْسَاكِ مَا فَضَلَ عَنِ الْحَاجَةِ وَهُوَ عَزِيمَةِ الْخَوَاصِّ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ عِيَالٌ لَا الْمَشْرُوعُ لِكُلِّ النَّاسِ ، فَإِنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تُنَافِي إِنْفَاقَ كُلِّ مَا يَمْلِكُ الْمَرْءَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَتَأْمُرُ بِالْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ ، فَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=67وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ( 25 : 67 ) و
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [ ص: 354 ] ( 17 : 29 ) ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ حَدِيثُ نَهْيِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
nindex.php?page=showalam&ids=37لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ عَنِ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَإِجَازَتِهِ بِالثُّلُثِ مَعَ قَوْلِهِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919053وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ " . وَقَدْ أَخْرَجَ
أَحْمَدُ nindex.php?page=showalam&ids=14687وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=75شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : كَانَ
أَبُو ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ يَسْمَعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْأَمْرَ فِيهِ الشِّدَّةُ ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى بَادِيَتِهِ ، ثُمَّ يُرَخِّصُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَيُحْفَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الرُّخْصَةَ ، فَلَا يَسْمَعُهَا
أَبُو ذَرٍّ ، فَيَأْخُذُ
أَبُو ذَرٍّ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي سَمِعَ قَبْلَ ذَلِكَ . ا هـ . وَالسَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ لِتَشَدُّدِهِ اسْتِعْدَادُهُ الْفِطْرِيُّ لِلْأَخْذِ بِالْعَزَائِمِ ، وَاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ ، وَاحْتِقَارِ التَّنَعُّمِ ، وَالسَّعَةِ فِي الدُّنْيَا ، وَعُرِفَ هَذَا التَّشَدُّدُ عَنْ أَفْرَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَدِ اخْتَبَرَهُ
مُعَاوِيَةُ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَالًا كَثِيرًا ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ تَصَدَّقَ بِهِ ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
صُهَيْبُ بْنُ سَلَمَةَ ، وَهُوَ أَمِيرٌ
بِالشَّامِ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ ، وَقَالَ : اسْتَعِنْ بِهَا عَلَى حَاجَتِكَ ، فَرَدَّهَا ، وَقَالَ لِرَسُولِهِ : ارْجِعْ بِهَا إِلَيْهِ ، أَمَا وَجَدَ أَحَدًا أَغَرَّ بِاللَّهِ مِنَّا ؟ مَا لَنَا إِلَّا الظِّلُّ نَتَوَارَى بِهِ ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ غَنَمٍ تَرُوحُ عَلَيْنَا ، وَمَوْلَاةٌ لَنَا تَصَّدَّقُ عَلَيْنَا بِخِدْمَتِهَا ، ثُمَّ إِنِّي لَأَنَا أَتَخَوَّفُ الْفَضْلَ . قَوْلُهُ : تَصَّدَّقُ عَلَيْنَا أَصْلُهُ تَتَصَدَّقُ ، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ ، وَقَدْ أَطَلْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ فِي هَذِا الْمَقَامِ ، وَالْفَصْلِ بَيْنَ اعْتِدَالِ الشَّرِيعَةِ ، وَغُلُوِّ بَعْضِ الزُّهَّادِ ، وَالتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ قَدْ قَلَّ فِي الْمُسْلِمِينَ الزُّهَّادُ وَالْمُقْتَصِدُونَ ، وَكَثُرَ فِيهِمُ الْبُخَلَاءُ وَالْمُسْرِفُونَ ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِمَالِهِمْ ، وَلَا يُصْلِحُونَ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=35يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ ) : الظَّرْفُ هُنَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى ـ قَبْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=34بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبِشَارَةِ الْخَبَرُ الْمُؤَثِّرُ يَظْهَرُ تَأْثِيرُهُ فِي بَشْرَةِ الْوَجْهِ بِالسُّرُورِ ، أَوِ الْكَآبَةِ وَلَكِنْ غَلَبَ فِي الْأَوَّلِ ، وَلِذَلِكَ يُحْمَلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى آلِهَتِكُمْ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِنْذَارُ ، أَيْ أَخْبِرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يُصِيبُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يُحْمَى فِيهِ عَلَى تِلْكَ الْأَمْوَالِ الْمَكْنُوزَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَيْ دَارِ الْعَذَابِ ، بِأَنْ تُوضَعَ وَتُضْرَمَ عَلَيْهَا النَّارُ الْحَامِيَةُ حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَهَا ؛ فَهُوَ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى ـ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ ) ، ( 13 : 17 ) وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ " يَوْمَ تُحْمَى " فَتَكُونُ مِنَ الْإِحْمَاءِ عَلَيْهَا كَالْمَيْسَمِ ، وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ يُحْمَى عَلَيْهَا بِأَعْيَانِهَا وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنَ الْإِنْذَارِ يَحْصُلُ بِالْإِحْمَاءِ عَلَيْهَا ، وَعَلَى مِثْلِهَا ، وَلَيْسَ فِي أَعْيَانِهَا مِنَ الْمَعْنَى وَلَا الْحِكْمَةِ مَا فِي إِعَادَةِ الْأَجْسَادِ ، وَأُمُورِ الْآخِرَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ فَلَا نُدْرِكُ كُنْهَهَا وَصِفَاتِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُعَبِّرَةِ عَنْهَا ، فَمَذْهَبُ السَّلَفِ الْحَقِّ : الْإِيمَانُ بِالنُّصُوصِ مَعَ تَفْوِيضِ أَمْرِ الْكُنْهِ ، وَالصِّفَةِ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ سُبْحَانَهُ ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا ـ مَعَ الْإِيمَانِ بِالنَّصِّ ـ الْعِبْرَةُ الْمُرَادَةُ مِنْهُ فِي إِصْلَاحِ النَّفْسِ .
[ ص: 355 ] وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ تَفْنَى بِخَرَابِ الدُّنْيَا ، وَصَيْرُورَةِ الْأَرْضِ بِقِيَامِ السَّاعَةِ هَبَاءً مُنْبَثًا ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا أُجِيبَ عَنِ الْقَوْلِ بِإِعَادَةِ الْأَجْسَادِ بِأَعْيَانِهَا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ ـ تَعَالَى ـ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَهْوَنُ مِنْهُ إِيرَادُ كَوْنِ الدِّرْهَمِ أَوِ الدِّينَارِ الْوَاحِدِ قَدْ يَكْنِزُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِالتَّدَاوُلِ ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُمْ جَسَدًا لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ، وَالْحِيتَانِ وَالْوُحُوشِ وَالْأَنْعَامِ ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذَا فِي الْكَلَامِ عَلَى بَعْثِ الْأَجْسَادِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ . وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ الْمَكْنُوزَةَ تُحْمَى كُلُّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ وَيَتَّسِعُ جَسَدُهُ لَهَا كُلِّهَا حَتَّى لَا يُوضَعَ دِينَارٌ مَكَانَ دِينَارٍ ، وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا مَرْفُوعًا ، وَإِنَّمَا صَحَّ عِنْدَ
مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920299مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا جُعِلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ " الْحَدِيثَ . وَالصَّفائِحُ غَيْرُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، وَهِيَ بِالرَّفْعِ نَائِبُ الْفَاعِلِ لِجُعِلَ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَخْلُقُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَرِوَايَةُ الرَّفْعِ هِيَ الْمَشْهُورَةُ . قَالَ الشُّرَّاحُ وَفِي رِوَايَةٍ بِالنَّصْبِ ، وَفِي
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=15397وَالنَّسَائِيِّ عَنْهُ مَرْفُوعًا أَيْضًا : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920300مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ شُجَاعٌ أَقْرَعُ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةَ فَيَأْخُذُ بِلَهْزَمَتَيْهِ ، يَقُولُ : أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ " ثُمَّ تَلَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ آيَةَ : ( nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=180سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ، وَفِي رِوَايَةٍ
nindex.php?page=showalam&ids=15397لِلنَّسَائِيِّ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=918992إِنَّ الَّذِي لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ ، فَيَلْزَمُهُ أَوْ يُطَوِّقُهُ ، يَقُولُ : أَنَا كَنْزُكَ أَنَا كَنْزُكَ " فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ ذَلِكَ التَّعْذِيبَ بِجَعْلِ الْمَالِ صَفَائِحَ يُكْوَى بِهَا مَانِعُ الزَّكَاةِ أَوْ شُجَاعًا ( وَهُوَ ذَكَرُ الْحَيَّاتِ ) يُطَوِّقُهُ إِنَّمَا هُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ ، أَوِ التَّخْيِيلِ ، لَا نَفْسُ الْمَالِ الَّذِي كَانَ يَكْنِزُهُ فِي الدُّنْيَا ، وَبِهِ يَبْطُلُ كُلُّ إِيرَادٍ وَيَزُولُ كُلُّ إِشْكَالٍ ، وَالتَّعْذِيبُ حَقِيقِيٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=35فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ ) ، الَّتِي كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بِهَا النَّاسَ مُنْبَسِطَةً أَسَارِيرُهَا مِنَ الِاغْتِبَاطِ بِعَظَمَةِ الثَّرْوَةِ ـ وَيَسْتَقْبِلُونَ بِهَا الْفُقَرَاءَ مُنْقَبِضَةً مُتَغَضِّنَةً مِنَ الْعُبُوسِ وَالتَّقْطِيبِ فِي وُجُوهِهِمْ ؛ لِيُنَفُرُوا وَيُحْجِمُوا عَنِ السُّؤَالِ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=35وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ) الَّتِي كَانُوا يَتَقَلَّبُونَ بِهَا عَلَى سُرُرِ النِّعْمَةِ اضْطِجَاعًا وَاسْتِلْقَاءً ، وَيُعْرِضُونَ بِهَا عَنْ لِقَاءِ الْمَسَاكِينِ ، وَطُلَّابِ الْحَاجَاتِ ازْوِرَارًا وَإِدْبَارًا ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي جَهَنَّمَ ارْتِفَاقٌ وَلَا اسْتِرَاحَةٌ فِيمَا سِوَى الْوُقُوفِ إِلَّا بِالِانْكِبَابِ عَلَى وُجُوهِهِمْ كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=48يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ) ( 54 : 48 ) ، وَكَذَلِكَ قَالَ هُنَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=35هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ) ، أَيْ تَقُولُ لَهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ كَيَّهُمْ : هَذَا الْعَذَابُ الْأَلِيمُ الْوَاقِعُ بِكُمْ هُوَ جَزَاءُ مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ فِي الدُّنْيَا ، أَوْ هَذَا الْمِيسَمُ الَّذِي تُكْوَوْنَ بِهِ هُوَ الْمَالُ الَّذِي كَنَزْتُمُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ لِتَتَفَرَّدُوا بِالتَّمَتُّعِ بِهِ .
[ ص: 356 ] nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=35فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أَيْ : ذُوقُوا وَبَالَهُ وَنَكَالَهُ ، أَوْ وَبَالَ كَنْزِكُمْ لَهُ وَإِمْسَاكِكُمْ إِيَّاهُ عَنِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ مَا كُنْتُمْ تَظُنُّونَ مِنْ مَنْفَعَةِ كَنْزِهِ لِأَنْفُسِكُمْ خَاصَّةً بِهَا لَا يُشَارِكُكُمْ فِيهَا أَحَدٌ قَدْ كَانَ لَكُمْ خَلَفًا ، وَعَلَيْكُمْ ضِدًّا ، فَإِنَّهُ صَارَ فِي الدُّنْيَا لِغَيْرِكُمْ ، وَكَانَ عَذَابُهُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ الْخَاصُّ بِكُمْ ، كَدَأْبِ جَمِيعِ أَهْلِ الْبَاطِلِ ، فِيمَا زَيَّنَ لَهُمْ مِنَ الرَّذَائِلِ ، يَرَى الْبُخَلَاءُ أَنَّ الْبُخْلَ حَزْمٌ ، كَمَا يَرَى الْجُبَنَاءُ أَنَّ الْجُبْنَ حَزْمٌ ، وَتِلْكَ خَدِيعَةُ الطَّبْعِ اللَّئِيمِ ، وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ الْأَفِينِ ، فَالْأَوَّلُونَ مِنْ خَوْفِ الْفَقْرِ فِي فَقْرٍ ، وَالْآخَرُونَ يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْأَذَى أَوِ الْمَوْتِ بِهَرَبِهِمْ مِنَ الْمَوْتِ ، فَإِنَّ جُبْنَهُمْ هُوَ الَّذِي يُغْرِي الْمُعْتَدِينَ بِإِيذَائِهِمْ ، وَيُمَكِّنُ الْقَائِلِينَ مِنَ الْفَتْكِ بِهِمْ .
وَإِنَّ أَكْبَرَ أَسْبَابِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ ، وَتَمْكِينِ أَعْدَائِهِمْ مِنْ سَلْبِ مُلْكِهِمْ ، وَمُحَاوَلَةِ تَحْوِيلِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ ، هُوَ بُخْلُ أَغْنِيَائِهِمْ ، وَجُبْنُ مُلُوكِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ ، وَقُوَّادِهِمْ وَزُعَمَائِهِمْ ، الَّذِي جَعَلَهُمْ أَعْوَانًا لِسَالِبِي مُلْكِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ( 2 : 195 ) فَلَوْ أَسَّسَ الْأَغْنِيَاءُ مَدَارِسَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ تَعْلِيمِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ ، لَاسْتَغْنَوْا بِهَا عَنْ مَدَارِسِ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ ، وَلَأَمْكَنَ لِلْمُصْلِحِينَ مِنْهُمْ إِذَا تَوَلَّوْا إِدَارَتَهَا أَنْ يُخْرِجُوا لَهُمْ فِيهَا رِجَالًا يَحْفَظُونَ لِلْأُمَّةِ دِينَهَا وَمُلْكَهَا ، وَيُعِيدُونَ إِلَيْهَا مَجْدَهَا ، وَيَجْذِبُونَ أَقْوَامَ أُولَئِكَ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهَا إِلَى الْإِسْلَامِ فَيَدْخُلُونَ فِيهِ أَفْوَاجًا ، وَيَعُودُ الْأَمْرُ كَمَا بَدَأَ .