بسم الله الرحمن الرحيم .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .
. كتاب الكفالة
واختلف العلماء في نوعها وفي وقتها ، وفي الحكم اللازم عنها ، وفي شروطها ، وفي صفة لزومها ، وفي محلها .
ولها أسماء : كفالة ، وحمالة ، وضمانة ، وزعامة .
فأما أنواعها : فنوعان : حمالة بالنفس ، وحمالة بالمال .
أما : فثابتة بالسنة ، ومجمع عليها من الصدر الأول ومن فقهاء الأمصار . وحكي عن قوم أنها ليست لازمة تشبيها بالعدة وهو شاذ . والسنة التي صار إليها الجمهور في ذلك هي قوله عليه الصلاة والسلام : " الحمالة بالمال " . الزعيم غارم
وأما ( وهي التي تعرف بضمان الوجه ) : فجمهور فقهاء الأمصار على جواز وقوعها شرعا إذا كانت بسبب المال . وحكي عن الحمالة بالنفس في الجديد أنها لا تجوز ، وبه قال الشافعي داود ، وحجتهما قوله تعالى : ( معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ) [ يوسف : 79 ] . ولأنها كفالة بنفس; فأشبهت [ ص: 636 ] الكفالة في الحدود . وحجة من أجازها عموم قوله عليه الصلاة والسلام : " " . وتعلقوا بأن في ذلك مصلحة ، وأنه مروي عن الصدر الأول . الزعيم غارم
وأما : فجمهور القائلين بحمالة النفس متفقون على أن المتحمل عنه إذا مات لم يلزم الكفيل بالوجه شيء . وحكي عن بعضهم لزوم ذلك . وفرق الحكم اللازم عنها ابن القاسم بين أن يموت الرجل حاضرا أو غائبا ، فقال : إن مات حاضرا لم يلزم الكفيل شيء ، وإن مات غائبا نظر ، فإن كانت المسافة التي بين البلدين مسافة يمكن الحميل فيها إحضاره في الأجل المضروب له في إحضاره ( وذلك في نحو اليومين إلى الثلاثة ) ، ففرط : غرم ، وإلا لم يغرم .
واختلفوا إذا على ثلاثة أقوال : غاب المتحمل عنه ما حكم الحميل بالوجه
القول الأول : إنه يلزمه أن يحضره أو يغرم ، وهو قول مالك ، وأصحابه ، وأهل المدينة .
والقول الثاني : إنه يحبس الحميل إلى أن يأتي به أو يعلم موته ، وهو قول أبي حنيفة ، وأهل العراق .
والقول الثالث : إنه ليس عليه إلا أن يأتي به إذا علم موضعه ، ومعنى ذلك أن لا يكلف إحضاره إلا مع العلم بالقدرة على إحضاره ، فإن ادعى الطالب معرفة موضعه على الحميل ، وأنكر الحميل ؛ كلف الطالب بيان ذلك . قالوا : ولا يحبس الحميل إلا إذا كان المتحمل عنه معلوم الموضع ، فيكلف حينئذ إحضاره ، وهذا القول حكاه في كتابه في الفقه عن جماعة من الناس واختاره . أبو عبيد القاسم بن سلام
وعمدة مالك : أن المتحمل بالوجه غارم لصاحب الحق فوجب عليه الغرم إذا غاب ، وربما احتج لهم بما روي عن : " ابن عباس أن رجلا سأل غريمه أن يؤدي إليه ماله أو يعطيه حميلا ، فلم يقدر حتى حاكمه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، فتحمل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أدى المال إليه " . قالوا : فهذا غرم في الحمالة المطلقة .
وأما أهل العراق فقالوا : إنما يجب عليه إحضار ما تحمل به وهو النفس ، فليس يجب أن يعدى ذلك إلى المال إلا لو شرطه على نفسه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " المؤمنون عند شروطهم " . فإنما عليه أن يحضره أو يحبس فيه ، فكما أنه إذا ضمن المال فإنما عليه أن يحضر المال ، أو يحبس فيه ، كذلك الأمر في ضمان الوجه .
وعمدة الفريق الثالث : أنه إنما يلزمه إحضاره إذا كان إحضاره له مما يمكن ، وحينئذ يحبس إذا لم يحضره ، وأما إذا علم أن إحضاره له غير ممكن فليس يجب عليه إحضاره كما أنه إذا مات ليس عليه إحضاره . قالوا : ومن ضمن الوجه فأغرم المال فهو أحرى أن يكون مغرورا من أن يكون غارا .
فأما إذا اشترط الوجه دون المال وصرح بالشرط فقد قال مالك : إن المال لا يلزمه ، ولا خلاف في هذا فيما أحسب; لأنه كان يكون قد ألزم ضد ما اشترط ، فهذا هو حكم ضمان الوجه .
وأما : فإن الفقهاء متفقون على أنه إذا عدم المضمون أو غاب أن الضامن غارم . حكم ضمان المال
واختلفوا إذا حضر الضامن والمضمون وكلاهما موسر : فقال ، الشافعي وأبو حنيفة ، وأصحابهما ، ، والثوري ، والأوزاعي وأحمد ، وإسحاق : للطالب أن يؤاخذ من شاء من الكفيل ، أو المكفول . وقال مالك في أحد قوليه : ليس له أن يأخذ الكفيل مع وجود المتكفل عنه . وله قول آخر مثل قول الجمهور . وقال : [ ص: 637 ] الحمالة ، والكفالة واحدة ، ومن ضمن عن رجل مالا لزمه وبرئ المضمون ، ولا يجوز أن يكون مال واحد على اثنين ، وبه قال أبو ثور ، ابن أبي ليلى . وابن شبرمة
ومن الحجة لما رأى أن الطالب يجوز له مطالبة الضامن; كان المضمون عنه غائبا ، أو حاضرا ، غنيا ، أو عديما : حديث قبيصة بن المخارقي قال : " قبيصة ، إن المسألة لا تحل إلا في ثلاث ، وذكر رجلا تحمل حمالة رجل حتى يؤديها " . ووجه الدليل من هذا النبي صلى الله عليه وسلم أباح المسألة للمتحمل دون اعتبار حال المتحمل عنه . تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عنها ، فقال : تخرجها عنك من إبل الصدقة يا
وأما : فهي الأموال عند جمهور أهل العلم لقوله عليه الصلاة والسلام : " محل الكفالة " ( أعني : كفالة المال وكفالة الوجه ) ، وسواء تعلقت الأموال من قبل أموال ، أو من قبل حدود ، مثل المال الواجب في قتل الخطإ ، أو الصلح في قتل العمد ، أو السرقة التي ليس يتعلق بها قطع ، وهي ما دون النصاب ، أو من غير ذلك . وروي عن الزعيم غارم أبي حنيفة إجازة الكفالة في الحدود والقصاص ، أو في القصاص دون الحدود وهو قول ( أعني كفالة النفس ) . عثمان البتي
وأما ( أعني مطالبته بالكفيل ) : فأجمع العلماء على أن ذلك بعد ثبوت الحق على المكفول إما بإقرار وإما ببينة . وقت وجوب الكفالة بالمال
وأما : فاختلفوا هل تلزم قبل إثبات الحق أم لا ؟ فقال قوم : إنها لا تلزم قبل إثبات الحق بوجه من الوجوه ، وهو قول وقت وجوب الكفالة بالوجه ، شريح القاضي ، وبه قال والشعبي من أصحاب سحنون مالك . وقال قوم : بل يجب أخذ الكفيل بالوجه على إثبات الحق ، وهؤلاء اختلفوا متى يلزم ذلك ؟ وإلى كم من المدة يلزم ؟
فقال قوم : إن أتى بشبهة قوية مثل شاهد واحد لزمه أن يعطي ضامنا بوجهه حتى يلوح حقه ، وإلا لم يلزمه الكفيل إلا أن يذكر بينة حاضرة في المصر ، فيعطيه حميلا من الخمسة الأيام إلى الجمعة ، وهو قول ابن القاسم من أصحاب مالك ، وقال أهل العراق : لا يؤخذ عليهم حميل قبل ثبوت الحق إلا أن يدعي بينة حاضرة في المصر نحو قول ابن القاسم ، إلا أنهم حدوا ذلك بالثلاثة الأيام يقولون : إنه : من أتى بشبهة لزمه أن يعطيه حميلا حتى يثبت دعواه أو تبطل ، وقد أنكروا الفرق في ذلك والفرق بين الذي يدعي البينة الحاضرة والغائبة ، وقالوا : لا يؤخذ حميل على أحد إلا ببينة ، وذلك إلى بيان صدق دعواه أو إبطالها .
وسبب هذا الاختلاف : تعارض وجه العدل بين الخصمين في ذلك ، فإنه إذا لم يؤخذ عليه ضامن بمجرد الدعوى لم يؤمن أن يغيب بوجهه فيعنت طالبه ، وإذا أخذ عليه لم يؤمن أن تكون الدعوى باطلة فيعنت المطلوب ، ولهذا فرق من فرق بين دعوى البينة الحاضرة والغائبة .
وروي عن قال : " عراك بن مالك أقبل نفر من الأعراب معهم ظهر ، فصحبهم رجلان فباتا معهم ، فأصبح القوم وقد فقدوا كذا وكذا من إبلهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الرجلين : اذهب واطلب ، وحبس الآخر ، فجاء بما ذهب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الرجلين : استغفر لي ، فقال : غفر الله لك ، قال : وأنت فغفر الله لك وقتلك في سبيله " خرج هذا الحديث أبو عبيد في كتابه بالفقه ، قال : وحمله بعض العلماء على أن ذلك كان من رسول الله حبسا قال : ولا يعجبني ذلك; لأنه لا يجب الحبس بمجرد الدعوى ، [ ص: 638 ] وإنما هو عندي من باب الكفالة بالحق الذي لم يجب إذا كانت هنالك شبهة لمكان صحبتهما لهم .
فأما أصناف المضمونين : فليس يلحق من قبل ذلك اختلاف مشهور لاختلافهم في إذا كان عليه دين ولم يترك وفاء بدينه ، فأجازه ضمان الميت مالك ، ، وقال والشافعي أبو حنيفة : لا يجوز .
واستدل أبو حنيفة من قبل أن الضمان لا يتعلق بمعلوم قطعا ، وليس كذلك المفلس . واستدل من رأى أن الضمان يلزمه بما روي : " " . والجمهور يصح عندهم كفالة المحبوس والغائب ، ولا يصح عند أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في صدر الإسلام لا يصلي على من مات وعليه دين حتى يضمن عنه أبي حنيفة .
وأما : فإن شروط الكفالة أبا حنيفة يشترطان في وجوب رجوع الضامن على المضمون بما أدى عنه أن يكون الضمان بإذنه ، والشافعي ومالك لا يشترط ذلك .
ولا تجوز عند كفالة المجهول ، ولا الحق الذي لم يجب بعد ، وكل ذلك لازم وجائز عند الشافعي مالك ، وأصحابه .
وأما ما تجوز فيه الحمالة بالمال مما لا تجوز : فإنها لا تجوز عند مالك بكل مال ثابت في الذمة إلا الكتابة ، وما لا يجوز فيه التأخير ، وما يستحق شيئا فشيئا مثل النفقات على الأزواج ، وما شاكلها .