الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8090 ) مسألة ; قال : ( ولو حلف لا يدخل دارا ، فأدخل يده أو رجله أو رأسه أو شيئا منه ، حنث . ولو حلف أن يدخل ، لم يبر حتى يدخل بجميعه ، أما إذا حلف ليدخلن أو يفعل شيئا ، لم يبر إلا بفعل جميعه ، والدخول إليها بجملته ) لا يختلف المذهب في شيء من ذلك ، ولا نعلم بين أهل العلم فيه اختلافا ; لأن اليمين تناولت فعل الجميع ، كما لو أمره الله - تعالى بفعل شيء لم يخرج من عهدة الأمر إلا بفعل الجميع ، ولأن اليمين على فعل شيء إخبار بفعله في المستقبل مؤكد بالقسم ، والخبر بفعل شيء يقتضي فعله كله ، فأما إن حلف لا يدخل ، فأدخل بعضه ، ولا يفعل شيئا ، ففعل بعضه ، ففيه روايتان ; إحداهما ، لا يحنث .

                                                                                                                                            حكي عن مالك ; لأن اليمين يقتضي المنع من فعل المحلوف عليه ، فاقتضت المنع من فعل شيء منه ، كالنهي ، فنظير الحالف على الدخول قوله تعالى : { وادخلوا الباب سجدا } . { ادخلوا عليهم الباب } . فلا يكون المأمور ممتثلا إلا بدخول جملته ، ونظير الحلف على ترك الدخول قوله سبحانه : { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم } .

                                                                                                                                            وقوله : { لا تدخلوا بيوت النبي } . لا يكون المنهي ممتثلا إلا بترك الدخول كله ، فكذلك الحالف على [ ص: 32 ] ترك الدخول ، لا يبرأ إلا بتركه كله ، فمتى أدخل بعضه لم يكن تاركا لما حلف عليه ، فكان مخالفا ، كالمنهي عن الدخول .

                                                                                                                                            ووجه الجمع بينهما ، أن الآمر والناهي يقصد الحمل على فعل الشيء أو المنع منه ، والحالف يقصد بيمينه ذلك ، فكانا سواء ، يحققه أن الآمر بالفعل أو الحالف عليه ، يقصد فعل الجميع ، فلا يكون ممتثلا ولا بارا إلا بفعله كله ، والناهي والحالف على الترك ، يقصد ترك الجميع ، فلا يكون ممتثلا ولا بارا إلا بترك الجميع ، وفاعل البعض ما فعل الجميع ، ولا ترك الجميع ، فلا يكون ممتثلا للأمر ولا النهي ، ولا بارا بالحلف على الفعل ولا الترك .

                                                                                                                                            والرواية ، الثانية لا يحنث إلا بأن يدخل كله . قال أحمد ، في رواية صالح ، وحنبل ، فيمن حلف على امرأته لا تدخل بيت أخيها : لم تطلق حتى تدخل كلها ، ألا ترى أن عوف بن مالك ، قال : كلي أو بعضي ؟ لأن الكل لا يكون بعضا ، والبعض لا يكون كلا . وهذا اختيار أبي الخطاب ، ومذهب أبي حنيفة ، والشافعي .

                                                                                                                                            وهكذا كل شيء حلف أن لا يفعله ، ففعل بعضه ، لا يحنث حتى يفعله كله ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه إلى عائشة وهو معتكف ، فترجله وهي حائض . والمعتكف ممنوع من الخروج من المسجد ، والحائض ممنوعة من اللبث فيه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي بن كعب : " إني لا أخرج من المسجد حتى أعلمك سورة " ، فلما أخرج رجله من المسجد علمه إياها . ولأن يمينه تعلقت بالجميع ، فلم تنحل بالبعض ، كالإثبات .

                                                                                                                                            وهذا الخلاف في اليمين المطلقة ، فأما إن نوى الجميع أو البعض فيمينه على ما نوى . وكذلك إن اقترنت به قرينة تقتضي أحد الأمرين ، تعلقت يمينه به ، فلو قال : والله لا شربت هذا النهر ، أو هذه البركة . تعلقت يمينه ببعضه ، وجها واحدا ; لأن فعل الجميع ممتنع ، فلا ينصرف يمينه إليه ، وكذلك لو قال : والله لا آكل الخبز ، ولا أشرب الماء . وما أشبهه مما علق على اسم جنس ، أو علقه على اسم جمع ، كالمسلمين ، والمشركين ، والفقراء ، والمساكين ، فإنما يحنث بالبعض .

                                                                                                                                            وبهذا قال أبو حنيفة : وسلمه أصحاب الشافعي في اسم الجنس دون الجمع . وإن علقه على اسم جنس مضاف ، كماء النهر ، حنث أيضا بفعل البعض ، إذا كان مما لا يمكن شربه كله . وهو قول أبي حنيفة ، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي ، والآخر ، لا يحنث ; لأن لفظه يقتضي جميعه ، فلم يتعلق ببعضه ، كماء الإداوة . ولنا ; أنه لا يمكن شرب جميعه ، فتعلقت اليمين ببعضه ، كما لو حلف لا يكلم الناس ، فكلم بعضهم ، وبهذا فارق ماء الإداوة ، وإن نوى بيمينه فعل الجميع ، أو كان في لفظه ما يقتضي ذلك ، لم يحنث إلا بفعل الجميع ، وإن قال : والله لا صمت يوما . لم يحنث حتى يكمله .

                                                                                                                                            وإن حلف : لا صليت صلاة ، ولا أكلت أكلة . لم يحنث حتى يكمل الصلاة والأكلة . وإن قال لامرأته : إن حضت حيضة ، فأنت طالق . لم تطلق حتى تطهر من حيضة مستقبلة . وإن قال لامرأتيه : إن حضتما ، فأنتما طالقتان . لم تطلق واحدة منهما حتى تحيضا كلتاهما فهذا وأشباهه مما يدل على إرادته فعل الجميع ، فوجب تعلق اليمين به .

                                                                                                                                            وقال أحمد في رجل قال لامرأته : إذا صمت يوما ، فأنت طالق : إذا غابت الشمس من ذلك اليوم طلقت . وقال القاضي : إذا حلف : لا صليت صلاة . لم يحنث حتى يفرغ مما يسمى صلاة . ولو حلف لا يصلي ، ولا يصوم ، حنث في الصلاة بتكبيرة الإحرام ، وفي الصيام بطلوع الفجر إذا نوى الصيام . وبهذا قال الشافعي . ووافق أبو حنيفة في [ ص: 33 ] الصيام ، وقال في الصلاة : لا يحنث حتى يسجد سجدة .

                                                                                                                                            ولنا ، أنه يسمى مصليا بدخوله في الصلاة ، فحنث به ، كما لو سجد سجدة ، ولأنه شرع فيما حلف عليه ، أشبه الصيام يشرع فيه . واختار أبو الخطاب أنه لا يحنث حتى يصلي ركعة بسجدتيها ، ولا يحنث في الصيام حتى يصوم يوما كاملا ; لأن ما دون ذلك لا يكون بمفرده صوما ولا صلاة . والأول أولى ; فإن كل جزء من ذلك صلاة وصيام ، لكن يشترط لصحته إتمامه ، وكذلك يقال لمن أفسد ذلك : بطل صومه وصلاته .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية