الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 8454 ) مسألة ; قال : ( ومن حكم بشهادتهما بجرح أو قتل ، ثم رجعا ، فقالا : عمدنا ، اقتص منهما . وإن قالا : أخطأنا . غرما الدية ، أو أرش الجرح ) وجملة الأمر أن الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم بعد أدائها ، لم يخل من ثلاثة أحوال ; أحدها ، أن يرجعوا قبل الحكم بها ، فلا يجوز الحكم بها . في قول عامة أهل العلم .

                                                                                                                                            وحكي عن أبي ثور ، أنه شذ عن أهل العلم ، وقال : يحكم بها ; لأن الشهادة قد أديت ، فلا تبطل برجوع من شهد بها ، كما لو رجعا بعد الحكم . وهذا فاسد ; لأن الشهادة شرط الحكم ، فإذا زالت قبله ، لم يجز ، كما لو فسقا ; ولأن رجوعهما يظهر به كذبهما ، فلم يجز الحكم بها ، كما لو شهدا بقتل رجل ، ثم علم حياته ، ولأنه زال ظنه في أن ما شهد به حق ، فلم يجز له الحكم به ، كما لو تغير اجتهاده ، وفارق ما بعد الحكم ، فإنه تم بشرطه ; ولأن الشك لا يزيل ما حكم به ، كما لو تغير اجتهاده .

                                                                                                                                            الحال الثاني ، أن يرجعا بعد الحكم وقبل الاستيفاء ، فينظر ; فإن كان المحكوم به عقوبة ، كالحد والقصاص ، لم يجز استيفاؤه ; لأن الحدود تدرأ بالشبهات ، ورجوعهما من أعظم الشبهات ، ولأن المحكوم به عقوبة ، ولم يتعين استحقاقها ، ولا سبيل إلى جبرها ، فلم يجز استيفاؤها ، كما لو رجعا قبل الحكم . وفارق المال ; فإنه يمكن جبره ، بإلزام الشاهدين عوضه ، والحد والقصاص لا ينجبر بإيجاب مثله على الشاهدين ; لأن ذلك ليس بجبر ، ولا يحصل لمن وجب له منه عوض ، وإنما شرع للزجر والتشفي والانتقام ، لا للجبر . فإن قيل : فقد قلتم : إنه إذا حكم بالقصاص ، ثم فسق الشاهدان ، استوفي . في أحد الوجهين .

                                                                                                                                            قلنا : الرجوع أعظم في الشبهة من طريان الفسق لأنهما يقران أن شهادتهما زور ، وأنهما كانا فاسقين حين شهدا ، وحين حكم الحاكم بشهادتهما ، وهذا الذي طرأ فسقه لا يتحقق كون شهادته كذبا ، ولا أنه كان فاسقا حين أدى الشهادة ، ولا حين الحكم بها ، ولهذا لو فسق بعد الاستيفاء ، لم يلزمه شيء ، والراجعان تلزمهما غرامة ما شهدا به فافترقا . وإن كان المشهود به مالا ، استوفي ، ولم ينقض حكمه . في قول أهل الفتيا من علماء الأمصار .

                                                                                                                                            وحكي عن سعيد بن المسيب [ ص: 224 ] والأوزاعي ، أنهما قالا : ينقض الحكم ، وإن استوفي الحق ثبت بشهادتهما ، فإذا رجعا ، زال ما ثبت به الحكم ، فنقض الحكم ، كما لو تبين أنهما كانا كافرين .

                                                                                                                                            ولنا ، أن حق المشهود له وجب له ، فلا يسقط بقولهما ، كما لو ادعياه لأنفسهما ، يحقق هذا أن حق الإنسان لا يزول إلا ببينة أو إقرار ، ورجوعهما ليس بشهادة ، ولهذا لا يفتقر إلى لفظ الشهادة ، ولا هو إقرار من صاحب الحق . وفارق ما إذا تبين أنهما كانا كافرين ; لأننا تبينا أنه لم يوجد شرط الحكم ، وهو شهادة العدول ، وفي مسألتنا لم يتبين ذلك ; بجواز أن يكونا عدلين صادقين في شهادتهما ، وإنما كذبا في رجوعهما ، ويفارق العقوبات ، حيث لا تستوفى ; فإنها تدرأ بالشبهات .

                                                                                                                                            الحال الثالث ، أن يرجعا بعد الاستيفاء ; فإنه لا يبطل الحكم ، ولا يلزم المشهود له شيء ، سواء كان المشهود به مالا أو عقوبة ; لأن الحكم قد تم باستيفاء المحكوم به ، ووصول الحق إلى مستحقه ، ويرجع به على الشاهدين ، ثم ينظر ; فإن كان المشهود به إتلافا في مثله القصاص ، كالقتل والجرح ، نظرنا في رجوعهما ، فإن قالا : عمدنا الشهادة عليه بالزور ; ليقتل أو يقطع . فعليهما القصاص . وبهذا قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد .

                                                                                                                                            وقال أصحاب الرأي : لا قود عليهما ; لأنهما لم يباشرا الإتلاف ، فأشبها حافر البئر ، وناصب السكين ، إذا تلف بهما شيء . ولنا ، أن عليا رضي الله عنه شهد عنده رجلان على رجل بالسرقة ، فقطعه ، ثم عادا ، فقالا : أخطأنا ، ليس هذا هو السارق . فقال علي : لو علمت أنكما تعمدتما ، لقطعتكما . ولا مخالف له في الصحابة ، فيكون إجماعا ، ولأنهما تسببا إلى قتله أو قطعه ، بما يفضي إليه غالبا ، فلزمهما القصاص ، كالمكره ، وفارق الحفر ونصب السكين ، فإنه لا يفضي إلى القتل غالبا .

                                                                                                                                            وقد ذكرنا هذه المسألة في القصاص . فأما إن قالا : عمدنا الشهادة عليه ، ولا نعلم أنه يقتل بهذا . وكانا ممن يجوز أن يجهلا ذلك ، وجبت الدية في أموالهما مغلظة ; لأنه شبه عمد ، ولم تحمله العاقلة ; لأنه ثبت باعترافهما ، والعاقلة لا تحمل اعترافا . وإن قال أحدهما عمدت قتله . وقال الآخر : أخطأت . فعلى العامد نصف دية مغلظة ، وعلى الآخر نصف دية مخففة ، ولا قصاص ، في الصحيح من المذهب ; لأنه قتل عمد وخطأ . وإن قال كل واحد منهما : عمدت ، وأخطأ صاحبي . احتمل أن يجب القصاص عليهما ; لاعتراف كل واحد منهما بعمد نفسه .

                                                                                                                                            واحتمل وجوب الدية ; لأن كل واحد منهما إنما اعترف بعمد شارك فيه مخطئا ، وهذا لا يوجب القصاص ، والإنسان إنما يؤاخذ بإقراره ، لا بإقرار غيره . فعلى هذا ، يجب عليهما دية مغلظة . وإن قال أحدهما : عمدنا جميعا . وقال الآخر : عمدت ، وأخطأ صاحبي . فعلى الأول القصاص ، وفي الثاني وجهان ، كالتي قبلها . [ ص: 225 ] وإن قالا جميعا : أخطأنا . فعليهما الدية مخففة في أموالهما ; لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف . وإن قال أحدهما : عمدنا معا .

                                                                                                                                            وقال الآخر : أخطأنا معا . فعلى الأول القصاص ، وعلى الثاني نصف دية مخففة ; لأن كلا منهما يؤاخذ بحكم إقراره . وإن قال كل واحد منهما : عمدت ، ولا أدري ما فعل صاحبي فعليهما القصاص ; لإقرار كل واحد منهما بالعمد . ويحتمل أن لا يجب عليهما القصاص ; لأن إقرار كل واحد منهما لو انفرد ، لم يجب عليه قصاص ، وإنما يؤاخذ الإنسان بإقراره ، لا بإقرار صاحبه .

                                                                                                                                            وإن قال أحدهما : عمدت ، ولا أدري ما قصد صاحبي . سئل صاحبه ، فإذا قال : عمدت ، ولا أدري ما قصد صاحبي فهي كالتي قبلها . وإن قال : عمدنا . فعليه القصاص ، وفي الأول وجهان . وإن قال : أخطأت ، أو أخطأنا . فلا قصاص على واحد منهما . وإن جهل حال الآخر ، بأن يجن ، أو يموت ، أو لا يقدر عليه ، فلا قصاص على المقر ، وعليه نصيبه من الدية المغلظة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية