الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 229 ]

                لنا ، إن صح التكليف بالمحال لغيره ، صح بالمحال لذاته ، وقد صح ثم ، فليصح هنا .

                أما الملازمة ، فلأن المحال ، ما لا يتصور وقوعه ، وهو مشترك بين القسمين . أما الأولى فظاهرة ، إذ اشتقاق المحال من الحؤول عن جهة إمكان الوجود . أما الثانية ، فلأن خلاف معلوم الله تعالى محال ، وبه احتج آدم على موسى ، فلا يتصور وقوعه ، وإلا انقلب العلم الأزلي جهلا . . وقد جاز التكليف به إجماعا ، فليجز بالمحال لذاته ، بجامع الاستحالة ، ولا أثر للفرق بالإمكان الذاتي ، لانتساخه بالاستحالة بالغير العرضية . وأيضا فكل مكلف به ، إما أن يتعلق علم الله تعالى بوجوده ، فيجب . أو لا ، فيمتنع ، والتكليف بهما محال .

                التالي السابق


                قوله : " لنا ، إن صح التكليف بالمحال لغيره ، صح بالمحال لذاته ، وقد صح ثم ، فليصح هنا " .

                هذا حين الشروع في تقرير أدلة المسألة ، على ما هو المختار في " المختصر " ، وهو أن المحال لذاته يجوز التكليف به .

                وتقريره : إن صح التكليف بالمحال لغيره ، كإيمان من علم الله تعالى أنه لا يؤمن ، صح التكليف بالمحال لذاته ، كالجمع بين الضدين وقد صح التكليف بالمحال لغيره بالإجماع على تكليف كل كافر بالإيمان ، فيلزم أن يصح التكليف بالمحال لذاته ، هذا تقرير نظم الدليل .

                قوله : " أما الملازمة " إلى آخره . هذا تقرير مقدمات الدليل ، والملازمة ، هي كون أحد الشيئين ملازما للآخر ، لا ينفك عنه ، فيستدل بوجود الملزوم على وجود اللازم ، لاستحالة وجود ملزوم لا لازم له . وهو كقولنا : إن كان هذا إنسانا ، فهو [ ص: 230 ] حيوان ، لكنه إنسان ، فهو حيوان ، فالإنسان ملزوم للحيوان ، والحيوان لازم للإنسان فلا جرم لما وجد الإنسان الذي هو الملزوم ، لزم وجود الحيوان الذي هو اللازم ، عدنا إلى تقرير عبارة " المختصر " .

                فقولنا : إن صح التكليف بالمحال لغيره ، صح التكليف بالمحال لذاته ، هذا هو الملازمة التي نريد تقريرها .

                وتكليف المحال لغيره ملزوم لتكليف المحال لذاته . ومقصودنا ، أن الأول ملزوم للثاني ، فإذا تقرر ذلك ، لزم من صحة التكليف بالمحال لغيره ، صحة التكليف بالمحال لذاته ، لأن الأول ملزوم للثاني ، كما يلزم من وجود الإنسان وجود الحيوان ، لأنه ملزوم للحيوان .

                ووجه تقرير الملازمة المذكورة ، هو : أن " المحال ما لا يتصور وقوعه ، وهو مشترك بين القسمين " أي : عدم تصور الوقوع مشترك بين القسمين ، وهما المحال لذاته ولغيره : أي : كما لا يتصور وقوع المحال لذاته ، كذلك لا يتصور وقوع المحال لغيره .

                ونعني بعدم تصور وقوعه ، أنا لو فرضنا وقوعه ، لزم منه محال مطلقا ، سواء كان لذاته أو لغيره .

                قوله : " أما الأولى فظاهرة " إلى آخره . هذا إشارة إلى أن الدليل المذكور في تقرير الملازمة مركب من مقدمتين ، وقد سبق أن المقدمة قضية جعلت جزء قياس ، وهو الدليل ، وأقل ما يتركب منه الدليل مقدمتان : [ ص: 231 ]

                فالمقدمة الأولى في هذا الدليل قولنا : المحال : ما لا يتصور وقوعه .

                والمقدمة الثانية : قولنا : وهو مشترك بين القسمين ، فنحتاج أن ندل على صحة كل واحدة من المقدمتين ، لتكون الدعوى التي أقمنا الدليل عليها ، وهي لازمة عنه ، صحيحة ، وهي أن المحال لذاته يجوز التكليف به .

                وتقرير المقدمة الأولى : وهي قولنا : المحال ما لا يتصور وقوعه ، " إذ اشتقاق المحال من الحؤول عن جهة إمكان الوجود " وهذا تقرير اشتقاقي لغوي ، يقال : حال الشيء يحول حولا وحؤولا ، إذا تغير وانقلب عما كان عليه . وأصل مادة " ح و ل " يرجع إلى معنى التغير والانتقال والتحول من حال أو مكان إلى غيره .

                قال الجوهري : أرض وقوس مستحيلة ، أي : ليست بمستوية ، لأنها استحالت عن الاستواء إلى العوج .

                وقد تقرر في علم الاشتقاق ، أن أركانه مشتق ، ومشتق منه ، ومادة مشتركة ، وهي الحروف الأصول فيهما ، ولا بد من تغيير ما ، بحرف أو بحركة أو بهما ، بزيادة أو نقص ، أو بهما ، على ما تقرر في مواضعه ، فمتى وجد ذلك ، صح الاشتقاق ، وهذا كله موجود ههنا ، فالمشتق هو المحال ، والمشتق منه هو الحول والتحول ، [ ص: 232 ] ‌‌‌‌‌‌‌‌والحروف الأصول مشتركة بينهما ، وهي " ح و ل " ، فالمحال مفعل من ذلك ، وأصله محول ، مثل مكرم ، والميم زائدة ، وقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها في الأصل ، وهو حول الذي هو أصل حال . أو أن المحال أعل تبعا لأصله ، وهو حال والحؤول فعول ، مثل جلوس وقعود ، من حال يحول ، فالواو الثانية زائدة ، والتغيير بين المحال والحؤول ظاهر في البناء والحروف الزوائد فيهما ، إذ المحال وزنه مفعل ، والزائد فيه ميم ، والحؤول وزنه فعول ، والزائد فيه واو ، فثبت أن المحال مشتق من الحول ثم رأينا أهل اللغة والعرف يريدون بالمحال ما لا حقيقة له ولا وجود ، لتعذر ذلك فيه ، فعلمنا أن جهة اشتقاقه من الحؤول ، وهو كونه حال ، أي : انتقل وانقلب عن جهة الإمكان ، إلى جهة الامتناع ، وهو المطلوب .

                ولا نعني بقولنا : انتقل عن جهة الإمكان ، أنه كان ممكنا ثم صار محالا مطلقا ، بل ذلك في المحال لغيره ، وهو باعتبار ذاته ممكن ، وباعتبار ما عرض له من غيره صار محالا . وأما المحال لذاته فلم يزل كذلك .

                ومرادنا بانتقاله عن جهة الإمكان ، في الذهن ، لا في الخارج . يعني أنه قد كان في قدرة الله تعالى أن يجعل كل ما يتلفظ باسمه ممكنا ، إذ يجعل لنا قوة ندرك ذلك ، فانتقل مسمى المحال بإرادة الله تعالى عن هذه الجهة إلى الجهة التي هو عليها من الاستحالة ، وهذا موضع وقف أكثر الناس دونه ، فلنقف عنده ، ولعل بعض من [ ص: 233 ] يقف على ما أشرنا إليه ههنا ، يظن أنه سفسطة ، وما يعقلها إلا العالمون .

                هذا تقرير المقدمة الأولى ، وهي قولنا : " المحال ما لا يتصور وقوعه " بقولنا : " إذ اشتقاق المحال من الحؤول عن جهة إمكان الوجود " .

                " أما " تقرير " المقدمة الثانية " وهي قولنا : وهو ، أي : عدم تصور الوقوع مشترك بين القسمين " فلأن خلاف معلوم الله تعالى محال ، وبه احتج آدم على موسى " - صلوات الله عليهما - فيما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : احتج آدم وموسى ، فقال موسى : يا آدم ، أنت الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، أغويت الناس ، وأخرجتهم من الجنة ؟ ! فقال آدم : وأنت يا موسى الذي اصطفاك الله بكلامه ، أتلومني على عمل عملته ، كتبه الله علي قبل أن يخلق السماوات والأرض ؟ قال : فحج آدم موسى أخرجاه في " الصحيحين " وصححه الترمذي وهذا لفظه ، ولا خلاف بين الرواة أن آدم ههنا مرفوع على أنه فاعل حاج وموسى منصوب على أنه مفعول محجوج ، وإنما عكس ذلك القدرية تصحيحا لمذهبهم . [ ص: 234 ]

                وبيان أن خلاف معلوم الله تعالى محال ، هو أنه غير مقدور ، وكل ما كان غير مقدور ، محال ، فهو محال ، أما أنه غير مقدور ، أي : لا يقبل تأثير القدرة في إيجاده ، وهو مذهب عباد بن سليمان ، فلأنه لو كان مقدور الوجود ، مع أنه معلوم عدم الوجود ، ومراد عدم الوجود ، للزم تناقض مقتضى الصفات الإلهية الذاتية ، فإن تم مقتضى القدرة بالوجود ، تخلف مقتضى العلم ، وهو عدم الوجود بالوجود ، فانقلب العلم جهلا ، وإن تم مقتضى العلم بعدم الوجود ، تخلف مقتضى القدرة وهو الوجود ، فانقلبت القدرة عجزا ، وذلك محال ، فثبت أن خلاف معلوم الله تعالى غير مقدور ، فهو محال ، وأما أن ما كان غير مقدور ، فهو محال ، فلأن الموجودات كلها إنما تصدر بقدرة الله تعالى ، فلو فرض وجود ما ليس مقدورا له ، للزم إثبات خالق آخر معه ، وهو محال .

                والرد على المعتزلة في أن العبد خالق لأفعاله ، مستقصى مع هذه المسألة وغيرها في كتاب " إبطال التحسين والتقبيح " ، وقد بان بهذا التقرير معنى قولنا : " فلا يتصور وقوعه " أي : لا يتصور وقوع خلاف معلوم الله سبحانه وتعالى ، لاستحالته ، [ ص: 235 ] " وإلا انقلب العلم الأزلي جهلا " ، وثبت بهذا التقرير قولنا : " إن صح التكليف بالمحال لغيره ، صح بالمحال لذاته " .

                قوله : " وقد جاز التكليف به إجماعا " أي : بالمحال لغيره " فليجز بالمحال لذاته " .

                هذا تقرير لقولنا بعد الملازمة المذكورة : " وقد صح ثم ، فليصح هنا " وهو استثناء المقدم ، وتقريره : أن التكليف بالمحال لغيره ، قد صح بالإجماع ، فيلزم أن يصح التكليف بالمحال لذاته " بجامع الاستحالة " أي : أن الجامع بينهما كون كل واحد منهما محال الوقوع . أما المحال لذاته ، فبالاتفاق ، وأما المحال لغيره ، فبما قررناه ، وقد صح التكليف بأحدهما ، فليصح بالآخر ، عملا بالجامع المؤثر ، وهو الاستحالة المشتركة بينهما ، لأن حكم المثلين واحد .

                قوله : " ولا أثر للفرق بالإمكان الذاتي ، لانتساخه بالاستحالة بالغير العرضية " . هذا جواب سؤال مقدر ، وهو أن يقال : المحال لذاته ، والمحال لغيره ، وإن جمع بينهما استحالة الوقوع ، لكن الفرق بينهما من جهة أن المحال لغيره ممكن لذاته ، فله حظ في الإمكان ، وتعلق العلم بعدم وقوعه لا يسلبه هذا الإمكان الذاتي ، ولا يخرجه عن كونه ممكنا ، فوجب أن يصح التكليف به ، بخلاف المحال لذاته ، فإنه لا حظ له في الإمكان بوجه ما ، فالتكليف به يجب أن لا يصح .

                وتقرير الجواب : أن هذا الفرق لا أثر له ، لأن الإمكان الذاتي في المحال لغيره انتسخ بما عرض له من الاستحالة له بالغير ، فاستقر الأمر على أنه استحال وجوده ، فصار الحكم للاستحالة العرضية ، الناسخة لحكم الإمكان الذاتي ، فاستوى حينئذ المحال لذاته ولغيره في استحالة الوقوع ، وهو الجامع المؤثر ، فيجب أن يستويا في جواز التكليف بهما ، والفرق بالإمكان الذاتي في أحدهما دون الآخر ، بطل حكمه ، وعفا أثره ، لأن الشيء إذا كان لذاته ممكنا ثم تعلقت الصفات الأزلية الذاتية [ ص: 236 ] باستحالة وجوده ، كان مقتضى تعلقها العرضي - وهو الامتناع - ناسخا لمقتضى الإمكان الذاتي ، وهو الوجود .

                قوله : " وأيضا فكل مكلف به " إلى آخره . هذا دليل آخر في المسألة .

                وتقريره : أن كل فعل مكلف به " إما أن يتعلق علم الله تعالى بوجوده فيجب ، أو لا " يتعلق بوجوده " فيمتنع " . فإن تعلق بوجوده وجب وجوده في وقته المعين له ، وإن لم يتعلق بوجوده ، كان وجوده ممتنعا ، إذ لا موجد إلا الله تعالى ، ولا موجود إلا عن الله تعالى ، وإذا ثبت ذلك فـ " التكليف بهما " أي : بما وجب وجوده ، وبما امتنع وجوده " محال " ، أما التكليف بما وجب وجوده ، فلأنه تحصيل الحاصل ، وأما التكليف بما امتنع وجوده ، فلأنه إيجاد الممتنع ، والتكليف بالمحال لذاته له أسوة غيره من ذلك .




                الخدمات العلمية