الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1255 75 - حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : نعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه النجاشي ، ثم تقدم فصفوا خلفه فكبر أربعا .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " فصفوا خلفه " لأنه يدل على الصفوف ; إذ الغالب أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع كثرة الملازمة للرسول صلى الله عليه وسلم لا يسعون صفا أو صفين . فإن قلت : الحديث لا يدل على الجنازة قلت : المراد من الجنازة الميت سواء كان مدفونا أو غير مدفون . فإن قلت : أحاديث الباب ليس فيها صلاة على جنازة ، وإنما فيها الصلاة على الغائب أو على من في القبر . قلت : الاصطفاف إذا شرع والجنازة غائبة ففي الحاضرة أولى .

                                                                                                                                                                                  ويزيد من الزيادة ، وزريع بضم الزاي وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف ومعمر بفتح الميمين ابن راشد ، والزهري محمد بن مسلم وسعيد بن المسيب .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الترمذي أيضا في الجنائز عن أحمد بن منيع ، وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن رافع ، وأخرجه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة . وقال ابن بطال : أومأ المصنف إلى الرد على عطاء حيث ذهب إلى أنه لا يشرع فيها تسوية الصفوف كما رواه عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أحق على الناس أن يسووا صفوفهم على الجنائز كما يسوونها في الصلاة ؟ قال : لا إنما يكبرون ويستغفرون وقال الطبري : ينبغي لأهل الميت إذا لم يخشوا عليه التغير أن ينتظروا به اجتماع قوم حتى يقوم منهم ثلاثة صفوف لهذا الحديث . قلت : لأجل ذلك ذكر البخاري باب الصفوف بصيغة الجمع ، وجعل الصفوف ثلاثة مستحب لما رواه أبو داود وغيره من حديث مالك بن هبيرة مرفوعا " من صلى عليه ثلاثة صفوف [ ص: 116 ] فقد أوجب " . ورواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم وفي رواية " إلا غفر له " وروى الترمذي من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يموت أحد من المسلمين فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغوا أن يكونوا مائة يشفعوا له إلا شفعوا فيه " . ورواه أيضا مسلم والنسائي ، وروى ابن ماجه بسند صحيح عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صلى عليه مائة من المسلمين غفر له " وروى النسائي من حديث أبي المليح حدثني عبد الله ، عن إحدى أمهات المؤمنين وهي ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : أخبرني النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من ميت يصلي عليه أمة من الناس إلا شفعوا فيه ، فسألت أبا المليح عن الأمة قال أربعون " .

                                                                                                                                                                                  وروى مسلم وأبو داود وابن ماجه من رواية شريك بن عبد الله ، عن كريب قال : مات ابن لابن عباس بقديد أو بعسفان فقال : يا كريب انظر ما اجتمعوا له من الناس فخرجت فإذا الناس قد اجتمعوا له فأخبرته فقال : أتقول هم أربعون ؟ قلت : نعم قال : أخرجوه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه " .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : كيف الجمع بين هذه الأحاديث ؟ قلت : قال القاضي عياض : إن هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا عن ذلك فأجاب كل واحد عن سؤاله . وقال النووي : يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بقبول شفاعة مائة فأخبر به ، ثم بقبول شفاعة أربعين ، ثم ثلاثة صفوف وإن قل عددهم فأخبر به ، ويحتمل أن يقال : هذا مفهوم عدد ولا يحتج به جماهير الأصوليين فلا يلزم من الإخبار عن قبول شفاعة مائة منع قبول ما دون ذلك ، وكذا في الأربعين مع ثلاثة صفوف .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فكبر أربعا " يدل على أن تكبيرات الجنازة أربع ، وبه احتج جماهير العلماء منهم محمد بن الحنفية وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن سيرين ، والنخعي وسويد بن غفلة والثوري ، وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، ويحكى ذلك عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وزيد بن ثابت وجابر ، وابن أبي أوفى والحسن بن علي والبراء بن عازب ، وأبي هريرة وعقبة بن عامر رضي الله تعالى عنهم .

                                                                                                                                                                                  وذهب قوم إلى أن التكبير على الجنائز خمس منهم عبد الرحمن بن أبي ليلى وعيسى مولى حذيفة ، وأصحاب معاذ بن جبل وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة ، وهو مذهب الشيعة والظاهرية . وقال الحازمي : وممن رأى التكبير على الجنائز خمسا ابن مسعود وزيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان ، وقالت فرقة : يكبر سبعا روي ذلك عن زر بن حبيش ، وقالت فرقة : يكبر ثلاثا روي ذلك عن أنس وجابر بن زيد ، وحكاه ابن المنذر ، عن ابن عباس ، وقال ابن أبي شيبة في مصنفه : حدثنا ابن فضيل ، عن يزيد ، عن عبد الله بن الحارث قال : " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة فكبر عليه تسعا ، ثم جيء بأخرى فكبر عليها سبعا ، ثم جيء بأخرى فكبر عليها خمسا حتى فرغ منهن غير أنهن وترا " .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن قدامة : لا يختلف المذهب أنه لا تجوز الزيادة على سبع تكبيرات ولا النقص من أربع ، والأولى أربع لا يزاد عليها ، واختلفت الرواية فيما بين ذلك ، فظاهر كلام الخرقي أن الإمام إذا كبر خمسا تابعه المأموم ولا يتابعه في زيادة عليها ، ورواه الأثرم عن أحمد ، وروى حرب عن أحمد إذا كبر خمسا لا يكبر معه ولا يسلم إلا مع الإمام ، وممن لا يرى متابعة الإمام في زيادة على أربع الثوري ومالك وأبو حنيفة والشافعي ، واختاره ابن عقيل ، واحتج الذين ذهبوا إلى أن التكبير على الجنازة خمس بحديث زيد بن أرقم أخرجه مسلم من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا ، وإنه كبر على جنازة خمسا فسألته فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها . وأخرجه الأربعة أيضا والطحاوي ، وبحديث حذيفة بن اليمان أخرجه الطحاوي حدثنا ابن أبي داود قال : حدثنا عيسى بن إبراهيم قال : حدثنا عبد العزيز بن مسلم ، عن يحيى بن عبد الله التميمي قال : صليت مع عيسى مولى حذيفة بن اليمان على جنازة فكبر عليها خمسا ، ثم التفت إلينا فقال : ما وهمت ولا نسيت ولكني كبرت كما كبر مولاي وولي نعمتي يعني : حذيفة بن اليمان صلى على جنازة فكبر عليها خمسا ، ثم التفت إلينا فقال : ما وهمت ولا نسيت ولكني كبرت كما كبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم . وبحديث عمرو بن عوف أخرجه ابن ماجه من رواية كثير بن عبد الله ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر خمسا واسم جده عمرو بن عوف المزني ، والجواب عن الأحاديث التي فيها التكبير على الجنازة بأكثر من أربع أنها منسوخة وقال الطحاوي بإسناده عن إبراهيم قال : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس مختلفون في التكبير على الجنازة لا تشاء أن تسمع رجلا يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر سبعا ، وآخر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر خمسا ، وآخر يقول : سمعت رسول الله [ ص: 117 ] صلى الله عليه وسلم يكبر أربعا إلا سمعته فاختلفوا في ذلك ، فكانوا على ذلك حتى قبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، فلما ولي عمر رضي الله تعالى عنه ورأى اختلاف الناس في ذلك شق عليه جدا فأرسل إلى رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنكم معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تختلفون على الناس يختلفون من بعدكم ، ومتى تجتمعون على أمر يجتمع الناس عليه فانظروا أمرا تجتمعون عليه ، فكأنما أيقظهم فقالوا : نعم ما رأيت يا أمير المؤمنين فأشر علينا ، فقال عمر رضي الله تعالى عنه : بل أشيروا علي فإنما أنا بشر مثلكم فتراجعوا الأمر بينهم فأجمعوا أمرهم على أن يجعلوا التكبير على الجنائز مثل التكبير في الأضحى والفطر أربع تكبيرات فأجمع أمرهم على ذلك ، فهذا عمر رضي الله تعالى عنه قد رد الأمر في ذلك إلى أربع تكبيرات بمشورة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وهم حضروا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه حذيفة وزيد بن أرقم فكانوا ما فعلوا ، فمن ذلك عندهم هو أولى مما قد كانوا فذلك نسخ لما كانوا قد عملوا لأنهم مأمونون على ما قد فعلوا كما كانوا مأمونين على ما قد رووا ، فإن قلت : كيف ثبت النسخ بالإجماع ; لأن الإجماع لا يكون إلا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأوان النسخ حياة النبي صلى الله عليه وسلم للاتفاق على أن لا نسخ بعده ؟ قلت : قد جوز ذلك بعض مشايخنا بطريق أن الإجماع يوجب علم اليقين كالنص ، فيجوز أن يثبت النص به والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور ، فإذا كان النسخ يجوز بالخبر المشهور فجوازه بالإجماع أولى على أن ذلك الإجماع منهم إنما كان على ما استقر عليه آخر أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي قد رفع كل ما كان قبله مما يخالفه فصار الإجماع مظهرا لما قد كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فافهم حتى قال بعضهم : إن حديث النجاشي هو الناسخ لأنه مخرج في الصحيح من رواية أبي هريرة قالوا : وأبو هريرة متأخر الإسلام وموت النجاشي كان بعد إسلام أبي هريرة رضي الله عنه ، ومما يؤكد هذا ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة ، عن أبيه " قال : كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانيا حتى مات النجاشي ، فخرج إلى المصلى فصف الناس من ورائه فكبر عليه أربعا ، ثم ثبت النبي صلى الله عليه وسلم على أربع حتى توفاه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                  وفيه معجزة عظيمة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم حيث أعلم الصحابة بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه مع بعد عظيم ما بين أرض الحبشة والمدينة ، وفيه حجة للحنفية والمالكية في منع الصلاة على الميت في المسجد ; لأنه صلى الله عليه وسلم خرج بهم إلى المصلى فصف بهم وصلى عليه ، ولو ساغ أن يصلي عليه في المسجد لما خرج بهم إلى المصلى .

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : لا حجة فيه ; لأن الممتنع عند الحنفية إدخال الميت المسجد لا مجرد الصلاة عليه حتى لو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله . وقال ابن بزيزة وغيره : استدل به بعض المالكية وهو باطل ; لأنه ليس فيه صيغة نهي لاحتمال أن يكون خرج بهم إلى المصلى لأمر غير المعنى المذكور ، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد ، فكيف يترك هذا الصريح لأمر محتمل ، بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه ، ولإشاعة كونه مات على الإسلام فقد كان بعض الناس لم يدر بكونه أسلم فقد روى ابن أبي حاتم في التفسير من طريق ثابت والدارقطني في الأفراد ، والبزار من طريق حميد كلاهما عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على النجاشي قال بعض أصحابه : صلى على علج من الحبشة فنزلت وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم الآية .

                                                                                                                                                                                  وفي الأوسط للطبراني من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن الذي طعن بذلك فيه كان منافقا قلت : قول النووي لا حجة فيه غير صحيح ; لأن تعليله بقوله ; لأن الممتنع إلى آخره يرد قوله ويبطل ما قاله ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل مجرد الصلاة على النجاشي في المسجد مع كونه غائبا فدل على المنع وإن لم يكن الميت في المسجد ، وقوله : حتى لو كان الميت إلى آخره على تعليل من يعلل منع الصلاة على الميت في المسجد لخوف التلوث من الميت . وأما بالنظر إلى مطلق حديث أبي هريرة رضي الله عنه " من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له " فالمنع مطلق وقول ابن بزيزة ليس فيه صيغة النهي [ ص: 118 ] إلى آخره مردود أيضا ; لأن إثبات منع شيء غير مقتصر على الصيغة ، وتعليله بالاحتمال غير مفيد لدعواه ، وأما صلاته صلى الله عليه وسلم على سهيل فلا ننكرها غير أن حديث أبي هريرة الذي رواه أبو داود عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له " . وأخرجه ابن ماجه أيضا ولفظه " فليس له شيء " وقال الخطيب المحفوظ فلا شيء له ، ويروى " فلا شيء عليه " وروي " فلا أجر له " قد نسخ حديث عائشة رضي الله تعالى عنها بيانه أن حديث عائشة إخبار عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال الإباحة التي لم يتقدمها نهي ، وحديث أبي هريرة إخبار عن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قد تقدمته الإباحة فصار حديث أبي هريرة ناسخا ، ويؤيده إنكار الصحابة على عائشة رضي الله تعالى عنها لأنهم قد كانوا علموا في ذلك خلاف ما علمت ولولا ذلك ما أنكروا ذلك عليها .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : ما صورة الإنكار في ذلك ؟ قلت : في رواية مسلم " عن عائشة لما توفي سعد بن أبي وقاص قالت : ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه فأنكر ذلك عليها " الحديث . وفي رواية له " إن الناس عابوا ذلك وقالوا : ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد " الحديث . فإن قلت : لم لا يجعل الموجب للإباحة متأخرا ؟ قلت : يلزم من ذلك إثبات نسخين نسخ الإباحة الثابتة في الابتداء بالنص الموجب للحظر ، ثم نسخ الحظر بالنص الموجب للإباحة .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : من أي قبيل يكون هذا النسخ ؟ قلت : من قبيل النسخ بدلالة التاريخ ، وهو أن يكون أحد النصين موجبا للحظر ، ثم نسخ موجبا للإباحة ففي مثل هذا يتعين المصير إلى النص الموجب للحظر وإلى الأخذ به ، وذلك لأن الأصل في الأشياء الإباحة والحظر طارئ عليها فيكون متأخرا .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : ليس بين الحديثين مساواة ; لأن حديث عائشة أخرجه مسلم ، وحديث أبي هريرة قد ضعفوه بصالح مولى التوأمة فلا يحتاج إلى هذا التوفيق . وقال ابن عدي : هذا من منكرات صالح والأئمة طعنوا فيه بسببه ، وقالوا : إنه ضعيف . وقال ابن حبان في كتاب الضعفاء : اختلط صالح بآخر عمره ولم يتميز حديث حديثه من قديمه ، ثم ذكر له هذا الحديث وقال : إنه باطل وكيف يقول الرسول ذلك وقد صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد ؟

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : أجيب عن هذا بأجوبة : أحدها أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به ، وقال أحمد : هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوأمة وهو ضعيف . والثاني أن الذي في النسخ المشهورة المسموعة في سنن أبي داود فلا شيء عليه فلا صحة فيه . والثالث أن اللام فيه بمعنى على كقوله تعالى : وإن أسأتم فلها أي : فعليها . وقال البيهقي : كان مالك يخرجه .

                                                                                                                                                                                  قلت : رجال هذا ثقات يحتج بهم لا نزاع فيهم ، وأما صالح فإن العجلي قال : صالح ثقة وعن ابن معين أنه قال : صالح ثقة حجة ، قيل له : إن مالكا ترك السماع منه قال : إنما أدركه مالك بعدما كبر وخرف ، ومن سمع منه قبل أن يختلط فهو ثبت وقال ابن عدي : لا بأس به إذا سمعوا منه قديما مثل ابن أبي ذئب وابن جريج وزياد بن سعد وغيرهم انتهى ، فعن هذا علم أنه لا خلاف في عدالته ، وابن أبي ذئب سمع منه هذا الحديث قديما قبل اختلاطه ، فصار الحديث حجة وقول ابن حبان : إنه باطل كلام باطل ; لأن مثل أبي داود أخرج هذا الحديث وسكت عنه ، فأقل الأمر فيه أن يكون حسنا عنده لأنه رضي به . وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا وكيف يجوز له الحكم ببطلان هذا الحديث ، فإن كان تشنيعه بسبب اختلاط صالح فقد ذكرنا أنه كان قبل الاختلاط ممن أثني عليه بالثقة ، وأن من أخذ منه قبله لا يرد ما أخذه منه ، وأن ابن أبي ذئب أخذ عنه قبله وإلا فلا يظهر منه إلا التعصب المحض ، والعجب منه أنه يقول : وكيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وقد صلى على سهيل فكأنه نسي باب النسخ ومثل هذا كثير قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركه ، وبهذا يرد أيضا ما قاله النووي فإنه أيضا مال إلى ما قال ابن حبان . وقوله : إن اللام بمعنى على عدول عن الحقيقة من غير ضرورة ولا سيما على أصلهم ، فإن المجاز ضروري لا يصار إليه إلا عند الضرورة ولا ضرورة هاهنا ، ويرد عليه في ذلك أيضا رواية ابن أبي شيبة فلا صلاة له فإنه لا يمكن أن يقول : إن اللام هنا بمعنى على لفساد المعنى ، وأما قول البيهقي : كان مالك يخرجه فإن مراده فيما أخذ عنه بعد الاختلاط .

                                                                                                                                                                                  وأما حديث مسلم في ذلك فإن أصله في موطأ مالك فإنه أخرجه فيه عن أبي النضر ، عن عائشة قال أبو عمر : هكذا هذا الحديث عند جمهور الرواة منقطعا إلا أن أبا النضر لم يسمع من عائشة شيئا ، وقال ابن وضاح : ولا أدركها وإنما يروى عن أبي سلمة عنها قال : وكذلك أسنده مسلم وعمد عليه الدارقطني قال : ولا يصح إلا مرسلا عن أبي النضر ، عن عائشة لأنه قد خالف في ذلك رجلان حافظان مالك والماجشون رواية عن أبي النضر ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها .

                                                                                                                                                                                  واستدل بهذا الحديث الشافعي وغيره في مشروعية الصلاة على الغائب قالوا : وهو سنة في حق من كان [ ص: 119 ] غائبا ، عن بلد الميت إذا كان في بلد وفاته قد أسقطوا فرض الصلاة عليه ، قال شيخنا زين الدين : وإليه ذهب الشافعي ، أما من لم يحصل فرض الصلاة عليه في بلد وفاته كالمسلم يموت في بلد المشركين وليس فيه مسلم فإنه يجب على أهل الإسلام الصلاة عليه كما في قصة النجاشي . وقال الخطابي : النجاشي رجل مسلم قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه على نبوته إلا أنه كان يكتم إيمانه ، والمسلم إذا مات يجب على المسلمين أن يصلوا عليه إلا أنه كان بين ظهراني أهل الكفر ولم يكن بحضرته من يقوم بحقه في الصلاة عليه فلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك إذ هو نبيه ووليه وأحق الناس به ، فهذا والله أعلم هو السبب الذي دعاه إلى الصلاة عليه بظهر الغيب ، فإذا صلوا عليه استقبلوا القبلة ولم يتوجهوا إلى بلد الميت إن كان في غير جهة القبلة .

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي : وقد ذهب بعض العلماء إلى كراهة الصلاة على الميت الغائب ، وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بهذا الفعل ; إذ كان في حكم المشاهد للنبي صلى الله عليه وسلم لما روي في بعض الأخبار أنه قد سويت له الأرض حتى يبصر مكانه ، وهذا تأويل فاسد ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئا من أفعال الشريعة كان علينا المتابعة والاتساء به ، والتخصيص لا يعلم إلا بدليل ، ومما يبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بالناس إلى الصلاة فصف بهم وصلوا معه فعلم أن هذا التأويل فاسد .

                                                                                                                                                                                  قلت : هذا التشيع كله على الحنفية من غير توجيه ولا تحقيق ، فنقول : ما يظهر لك فيه دفع كلامه وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع له سريره فرآه فتكون الصلاة عليه كميت رآه الإمام ولا يراه المأموم .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : هذا يحتاج إلى نقل بينة ولا يكتفى فيه بمجرد الاحتمال . قلت : ورد ما يدل على ذلك ، فروى ابن حبان في صحيحه من حديث عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أخاكم النجاشي توفي فقوموا صلوا عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوا خلفه فكبر أربعا وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه " أخرجه من طريق الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب عنه ، ولأبي عوانة من طريق أبان وغيره ، عن يحيى فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلا الجنازة قدامنا .

                                                                                                                                                                                  وذكر الواحدي في أسبابه عن ابن عباس قال : كشف للنبي صلى الله عليه وسلم عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه ، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على غائب غيره ، وقد مات من الصحابة خلق كثير وهم غائبون عنه وسمع بهم فلم يصل عليهم ، إلا غائبا واحدا ورد أنه طويت له الأرض حتى حضره وهو معاوية بن معاوية المزني روى حديث الطبراني في معجمه الأوسط وكتاب مسند الشاميين من حديث أبي أمامة قال : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال : يا رسول الله إن معاوية بن معاوية المزني مات بالمدينة أتحب أن تطوى لك الأرض فتصلي عليه ؟ قال : نعم فضرب بجناحه على الأرض ورفع له سريره فصلى عليه وخلفه صفان من الملائكة ، في كل صف سبعون ألف ملك ثم رجع " .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية