قلت: هجران أحمد للحارث لم يكن لهذا السبب الذي ذكره وإنما هجره لأنه كان على قول أبو حامد، الذي وافق ابن كلاب، المعتزلة [ ص: 148 ] على صحة طريق الحركات وصحة طريق التركيب، ولم يوافقهم على نفي الصفات مطلقا، بل كان هو وأصحابه يثبتون أن موصوف بالصفات، ويقررون ذلك بالعقل، وإن كان مضمون مذهبه نفي ما يقوم بذات الله تعالى من الأفعال وغيرها مما يتعلق بمشيئته واختياره، وعلى ذلك بنى كلامه في مسألة القرآن. الله فوق الخلق، عال على العالم،
وهذا هو المعروف عند من له خبرة بكلام من أصحابه وغيرهم من علماء أهل الحديث والسنة، أحمد، ولأبي عبد الله الحسين والد أبي القاسم الخرقي صاحب المختصر المشهور - كتاب "في قصص من هجره سأل فيه أحمد" عن ذلك، فأجابه عن قصصهم واحدا واحدا. لأبي بكر المروذي
وقد ذكر ذلك أيضا في كتاب السنة، وقد ذكر ذلك أبو بكر الخلال وغيره ممن يعرف حقيقة هذه الأمور، وكذلك ابن خزيمة كان يحذر السري السقطي من شقاشق الجنيد بن محمد الحارث. ثم ذكر غير واحد أن الحارث رجع عن ذلك، كما ذكره معمر بن زياد في أخبار [ ص: 149 ] شيوخ أهل المعرفة والتصوف، وذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب "التعرف لمذاهب التصوف" عن أنه كان يقول: إن الله يتكلم بصوت، وهذا يناقض قول الحارث المحاسبي، ابن كلاب.
ليس له من الخبرة والآثار النبوية والسلفية ما لأهل المعرفة بذلك، الذين يميزون بين صحيحه وسقيمه. ولهذا يذكر في كتبه من الأحاديث والآثار الموضوعة والمكذوبة ما لو علم أنها موضوعة لم يذكرها. وأبو حامد
رضي الله عنه قد رد على وأحمد الجهمية وغيرهم بالأدلة السمعية والعقلية، وذكر من كلامهم وحججهم ما لم يذكره غيره، بل استوفى حكاية مذهبهم وحججهم أتم استيفاء، ثم أبطل ذلك بالشرع والعقل.
وقد نقل في كتابه ما ذكر أنه سمعه من بعض أبو حامد الحنابلة، وهو [ ص: 150 ] أن لم يتأول إلا ثلاث أحاديث، وهذا غلط على أحمد وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وتبين ما في هذا الكلام وتوابعه من الصواب والخطإ نقلا وتوجيها. ولو اقتصر أحمد، على ما نقله من كتاب أبو حامد عن الأئمة لم يكن فيه شيء من هذا الخطإ، فإن ابن عبد البر وأمثاله أعلم بالآثار من هؤلاء، ولكن لعله نقل ذلك من كلام ابن عبد البر أبي طالب أو غيره.