وكذلك ما ذكره من الوجه الثاني على فإنه قال : "الوجه الثاني -في امتناع كونه مركبا من الأجزاء- أن تلك الأجزاء إما أن تكون واجبة الوجود لذاتها ، أو ممكنة ، أو البعض واجبا والبعض ممكنا ، لا جائز أن يقال بالأول ، على ما سيأتي تحقيقه في إثبات الوحدانية ، وإن كان الثاني أو الثالث ، فلا يخفى أن المفتقر إلى الممكن المحتاج إلى الغير أولى بالإمكان والاحتياج ، والممكن المحتاج لا يكون واجبا لذاته ، ومالا يكون واجبا لذاته لا يكون إلها" . [ ص: 246 ] إبطال التركيب،
قلت : ولقائل أن يقول : هذا الوجه أيضا فاسد من وجوه :
أحدها : أن يقال : لم لا يجوز أن تكون تلك الأجزاء كلها واجبة .
قوله : "على ما سيأتي تحقيقه في مسألة التوحيد" .
يقال له : الذي ذكرته فيما بعد في مسألة التوحيد هي الطريقة المعروفة لابن سينا وأتباعه من الفلاسفة ، وهي وجهان : أحدهما : مبناه على أن المركب يفتقر إلى أجزائه ، وهذا هو الوجه [الأول] الذي ذكرته هنا ، فصار مدار هذا الوجه الثاني على الأول ، فلم يذكر إلا الأول ، وقد تبين فساده .
الوجه الثاني الذي ذكرته في التوحيد : مبناه على كون الوجوب يصير معلولا ، وهذا هو الذي ذكرته في كون الوجود الواجب لا يزيد على الماهية ، لئلا يكون معلولا للماهية . وأنت قد أفسدت هذا الوجه وبما أفسدته به يفسد الآخر أيضا .
فتبين أن ما ذكرته في مسألة التوحيد يعود إلى وجه واحد . وأنت قد قدمت فساده ، فالحوالة على ما سيأتي، وما سيأتي منه ما هو مكرر ، فكلاهما فاسد .
وهو دائما في كلامه يذكر فساد هذه الطريقة ، حتى أنه لما استدلت الفلاسفة -أتباع وغيرهم- على أن الأجسام ممكنة بهذه [ ص: 247 ] الطريقة واستدل بها طائفة على حدوث العالم ، وهذا أول طريقة ذكرها في حدوث العالم فقال : "قد احتج الأصحاب بمسالك : الأول:قولهم : العالم ممكن الوجود بذاته،وكل ممكن بذاته فهو محدث" . ابن سينا
وقرر الإمكان بأن قال:"أجسام العالم مؤلفة ومركبة، لما سبق بيانه في الأجسام ، وكل ما كان مؤلفا مركبا فهو مفتقر إلى أجزائه ، وكل مفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بذاته ، فالأجسام ممكنة لذواتها ، والأعراض قائمة بالأجسام ومفتقرة إليها ، والمفتقر إلى الممكن أولى أن يكون ممكنا" .
ثم ضعف هذا المسلك : قال:"وقولهم : إن العالم مركب مسلم ، ولكن ما المانع أن تكون أجزاؤه واجبة ؟ وما ذكروه من [ ص: 248 ] الدلالة فقد بينا ضعفها في مسألة الوحدانية". فهنا لما احتجوا بهذه الدلالة على حدوث العالم ذكر ضعفها ، وأحال على ما ذكره في الوحدانية ، فكيف يحتج بها بعينها في مثل هذا المطلوب بعينه ، وهو كون الأجسام ممكنة لأنها مركبة، ويحيل على ما ذكره في التوحيد .
ومعلوم أنه لو أبطلها حيث تعارض نصوص الكتاب والسنة، واعتمد عليها حيث لا تناقض ذلك ، لكان -مع ما فيه من التناقض- أقرب إلى العقل والدين من أن يحتج بها في نفي لوازم نصوص الكتاب والسنة، ويبطلها حيث لا تخالف نصوص الأنبياء .