وقال في كتابه المعروف " بنقض عثمان بن سعيد الدارمي على عثمان بن سعيد، فما افترى على الله في التوحيد " قال: "وادعى المعارض أيضا: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " بشر المريسي الجهمي العنيد قال: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل فيقول: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من داع؟" وهو على العرش، [ ص: 50 ] وبكل مكان من غير زوال، لأنه الحي القيوم، والقيوم بزعمه من لا يزول". "فادعى أن الله لا ينزل بنفسه، إنما ينزل أمره ورحمته،
قال: "فيقال لهذا المعارض: وهذا أيضا من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان ؛ لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم يحد لنزوله الليل دون النهار، ويؤقت من الليل شطره أو الأسحار؟ أفأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار، أويقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا: هل من داع فأجيب؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطي؟ فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان إلى الإجابة والاستغفار بكلامهما دون الله، وهذا محال عند السفهاء، فكيف عند الفقهاء؟ قد علمتم ذلك، ولكن تكابرون، وما بال رحمته وأمره ينزلان من عنده شطر الليل، ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر، ثم يرفعان؟ لأن رفاعة يرويه يقول في حديثه " قد علمتم، إن شاء الله، أن هذا التأويل [ ص: 51 ] أبطل باطل، لا يقبله إلا كل جاهل. وأما دعواك أن تفسير "القيوم" الذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك، فلا يقبل منك هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن بعض أصحابه أو التابعين ؛ لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء، ويهبط ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط، ويقوم ويجلس إذا شاء ؛ لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك، كل حي متحرك لا محالة، وكل ميت غير متحرك لا محالة، ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة إذ فسر نزوله مشروحا منصوصا، ووقت لنزوله مخصوصا، لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبسا ولا عويصا". حتى ينفجر الفجر".
قال: "ثم أجمل المعارض جميع ما ينكر الجهمية من صفات الله تعالى وذاته المسماة في كتابه، وفي آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعد منها بضعا وثلاثين صفة نسقا واحدا، يحكم عليها ويفسرها بما حكم المريسي وفسرها وتأولها حرفا حرفا، خلاف ما عنى الله وخلاف [ ص: 52 ] ما تأولها الفقهاء الصالحون، لا يعتمد في أكثرها إلا على المريسي، فبدأ منها بالوجه، ثم بالسمع، والبصر، والغضب، والرضا، والحب، والبغض، والفرح، والكره، والضحك، والعجب، والسخط، والإرادة، والمشيئة، والأصابع، والكف، والقدمين.
وقوله: كل شيء هالك إلا وجهه [ سورة القصص: 88] فأينما تولوا فثم وجه الله [ سورة البقرة: 115] وهو السميع البصير [ سورة الشورى: 11] و خلقت بيدي [ سورة ص: 75] وقالت اليهود يد الله مغلولة [ سورة المائدة: 64] و يد الله فوق أيديهم [ سورة الفتح: 10] والسماوات مطويات بيمينه [ سورة الزمر: 67] وقوله: فإنك بأعيننا [ سورة الطور: 21] و هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة [ سورة البقرة: 210] وجاء ربك والملك صفا صفا [ سورة الفجر: 22] ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية [ سورة الحاقة: 17] و الرحمن على العرش استوى [ سورة طه: 5] و الذين يحملون العرش ومن حوله [ سورة غافر: 7].
وقوله ويحذركم الله نفسه [ سورة آل عمران: 28، 30 ] و ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم [ سورة آل عمران: 77] و كتب ربكم على نفسه الرحمة [ سورة الأنعام: 54] و تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك [ سورة المائدة: 116] و الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ سورة البقرة: 222]. [ ص: 53 ]
قال: "عمد المعارض إلى هذه الصفات والآيات فنسقها ونظم بعضها إلى بعض، كما نظمها شيئا بعد شيء، ثم فرقها أبوابا في كتابه، وتلطف بردها بالتأويل كتلطف الجهمية، معتمدا فيها على تفسير الزائغ دون من سواه، مستترا عند الجهال بالتشنع بها على قوم يؤمنون بها، ويصدقون الله ورسوله فيها، بغير تكييف ولا تمثال، فزعم أن هؤلاء المؤمنين بها يكيفونها ويشبهونها بذوات أنفسهم، وأن العلماء بزعمه قالوا: ليس في شيء منها اجتهاد رأي، ليدرك كيفية ذلك، أو يشبه شيء منها بشيء مما هو في الخلق موجود". الجهمي بشر بن غياث المريسي
قال: "وهذا خطأ، لما أن الله ليس كمثله شيء، فكذلك ليس ككيفيته شيء.
قال أبو سعيد: فقلنا لهذا المعارض المدلس بالتشنيع: أما قولك: إن كيفية هذه الصفات وتشبيهها بما هو في الخلق خطأ، فإنا لا نقول: إنه خطأ، كما قلت، بل هو عندنا كفر، ونحن لكيفيتها وتشبيهها بما [ ص: 54 ] هو في الخلق موجود أشد أنفا منكم، غير أنا - كما لا نشبهها ولا نكيفها - لا نكفر بها ولا نكذبها، ولا نبطلها بتأويل الضلال، كما أبطلها إمامك في أماكن من كتابك سنبينها لمن غفل عنها ممن حواليك من الأغمار. المريسي