فقال لمن راسله: (لما فقتم بجودة ذهنكم، وكرم طبعكم، كثيرا ممن يتعاطى هذه العلوم، وانتهى نظركم السديد إلى أن وقفتم على الشك العارض في العلم القديم، مع كونه متعلقا بالأشياء المحدثة، وجب علينا لمكان الحق، ولمكان إزالة الشك والشبهة عنكم، أن نحل هذا الشك بعد أن نقول في تقريره، فإن من لم يعرف الربط لم يقدر على [ ص: 384 ] الحل والشك يلزم هكذا إن كانت الأشياء كلها في علم الله تعالى قبل أن تكون، فهل هي في علمه في حال كونها كما كانت عليه قبل أن توجد؟.
فإن قلنا: إنها في علم الله تعالى في حال وجودها على غير ما كانت عليه في علمه قبل أن توجد، لزم أن يكون العلم القديم متغيرا، وأن تكون إذا خرجت من العدم إلى الوجود، فقد حدث هناك علم زائد، وذلك مستحيل على العلم القديم.
وإن قلنا: إن العلم القديم فيها واحد في الحالين.
قيل: فهل هي في نفسها -أعني الموجودات الحادثة قبل أن توجد- كما هي حين وجدت؟ فيجب أن يقال: ليست في نفسها قبل أن توجد كما هي حين وجدت، وإلا كان المعدوم والموجود واحدا.
فإذا سلم الخصم هذا، قيل له: أفليس العلم الحقيقي هو معرفة الوجود على ما هو عليه؟. [ ص: 385 ]
فإذا قال: نعم.
قيل: فيجب على هذا إذا اختلف الشيء في نفسه، أن يكون العلم به يختلف، وإلا فقد علم على غير ما هو عليه، فإذا يجب أحد الأمرين: إما أن يختلف العلم القديم في نفسه، أو تكون الحوادث غير معلومة، وكلا الأمرين مستحيل عليه سبحانه.
ويؤكد هذا الشك ما يظهر من حال الإنسان، أعني من تعلق علمه بالأشياء المعدومة على تقدير الوجود، وتعلق علمه بها إذا وجدت، فإنه من البين بنفسه أن العلمين يتغايران، وإلا كان جاهلا بوجودهما في الوقت الذي وجدت فيه، وليس ينجي من هذا ما جرت به عادة المتكلمين في الجواب عن هذا، بأنه سبحانه يعلم الأشياء قبل كونها، على ما تكون عليه في كونها، من زمان ومكان، وغير ذلك من الصفة المختصة به بوجود موجود.
فإنه يقال لهم: إذا وجدت فهل حدث هنالك تغير أو لم يحدث، وهو خروج الشيء من العدم إلى الوجود؟ [ ص: 386 ] فإن قالوا: لم يحدث، فقد كابروا.
وإن قالوا: حدث هنالك تغير.
قيل لهم: فهل حدوث هذا التغير معلوم للقديم أم لا؟ فيلزم الشك المتقدم.
وبالجملة فيعسر أن يتصور أن العلم بالشيء قبل أن يوجد، وأن العلم به بعد أن وجد علم واحد بعينه. فهذا هو تقرير هذا الشك.
قال: وقد رام الإمام حل هذا الشك في كتابه الموسوم بـ «تهافت الفلاسفة» بشيء ليس فيه منتفع. وذلك أنه قال قولا معناه هذا، وهو أنه زعم أن العلم والمعلوم من المضاف، وكما أنه قد يتغير أحد المتضايفين ولا يتغير هذا الآخر في نفسه، كذلك يشبه أن يعرض للأشياء في علم الله سبحانه وتعالى، أعني أن تتغير في أنفسها، ولا يتغير علمه سبحانه وتعالى بها. [ ص: 387 ] أبو حامد الغزالي
ومثال ذلك في المضاف: أنه قد تكون الأسطوانة الواحدة يمنة زيد ثم تعود يسرته، وزيد بعد لم يتغير في نفسه.
قال: وليس هذا بصادق، فإن الإضافة قد تغيرت في نفسها، وذلك أن الإضافة التي كانت يمنة قد عادت يسرة، وإنما الذي لم يتغير موضع الإضافة، أعني الحامل لها الذي هو زيد.
وإن كان كذلك، وكان العلم هو نفس إضافة، فقد يجب أن يتغير عند تغير المعلوم كما تتغير الإضافة: إضافته الأسطوانة إلى زيد عند تغيرها في نفسها، وذلك أنها عادت يسرة بعد أن كانت يمنة.
قال: والذي ينحل به هذا الشك عندنا، هو أن يعرف أن الحال في العلم القديم مع الموجود بخلاف الحال في العلم المحدث مع [ ص: 388 ] الموجود، وذلك أن وجود الموجود هو علة وسبب لعلمنا، والعلم القديم هو علة وسبب للموجود، فلو كان إذا وجد الموجود بعد أن لم يوجد فقد حدث في العلم القديم علم زائد كما يحدث ذلك في العلم المحدث، للزم أن يكون العلم القديم معلولا للموجود لا علة له، فإذا: وجب أن لا يحدث هنالك تغير، كما يحدث في العلم المحدث.
وإنما أتى هذا الغلط من قياس العلم القديم على العلم المحدث، وهو قياس الغائب على الشاهد، وقد عرف فساد هذا القياس.
وكما لا يحدث في الفاعل تغير عند وجود مفعول له، أعني تغيرا لم يكن قبل ذلك، كذلك لا يحدث في العلم القديم تغير عند حدوث مفعوله عنه.
فإذا قد انحل هذا الشك، ولم يلزمنا أنه إذا لم يحدث هنالك تغير، أعني في العلم القديم، فليس يعلم الموجود في حين حدوثه على ما هو عليه، وإنما لزم أنه لا يعلمه بعلم محدث، بل لا يعلمه إلا بعلم قديم، كما ظن أنه لازم من ذلك القول؛ لأن حدوث التغير في [ ص: 389 ] العلم عندنا بتغير الموجود إنما هو شرط في العلم المعلول عن الموجود، وهو العلم المحدث.