وهذا الذي أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من أن ، مما تقوم الأدلة العقلية على صدقه، كما أخبر الصادق المصدوق، وتبين أن من خالف مدلول هذا الحديث فإنه مخطئ في ذلك. «كل مولود يولد على الفطرة»
وبيان ذلك من وجوه:
(الوجه الأول)
أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له تارة من [ ص: 457 ] الاعتقادات والإرادات ما يكون حقا، وتارة ما يكون باطلا، فإن اعتقاداته قد تكون مطابقة لمعتقدها وهو الحق، وقد تكون غير مطابقة وهو الباطل. والخبر عن هذا صدق وعن هذا كذب. والإرادات تنقسم إلى ما يوافق مصلحته، وهو جلب المنفعة له، وإلى ما لا يوافق مصلحته بل يضره.
فإن الإنسان حساس متحرك بالإرادة. ولهذا « قال -صلى الله عليه وسلم-: فإن الإنسان لا بد له من حرث وهو العمل والحركة الإرادية، ولا بد من أن يهم بالأمور: منها ما يهم به ويفعله، ومنها ما يهم به ولا يفعله، فإن كان المراد موافقا لمصلحته كانت الإرادة حسنة محمودة، وإن كان مخالفا لمصلحته كانت الإرادة سيئة مذمومة، كمن يريد ما يضر عقله ونفسه وبدنه. أصدق الأسماء: الحارث وهمام، وأحبها إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، وأقبحها: حرب ومرة»،
وإذا كان الإنسان تارة تكون تصديقاته وإراداته حسنة محمودة، وتارة تكون سيئة، فلا يخلو: إما أن تكون نسبة نفسه إلى النوعين نسبة [ ص: 458 ] واحدة بحيث لا يترجح أحد الصنفين على الآخر بمرجح من نفسه، أو لا بد أن تكون نفسه مرجحة لأحد النوعين.
فإن كان الأول، لزم أن لا يوجد أحد الصنفين إلا بمرجح منفصل عنه، ثم ذلك المرجح المنفصل إذا قدر مرجحان: أحدهما يرجح الصدق الذي ينفعه، والآخر يرجح الكذب الذي يضره، فإما أن يتكافأ المرجحان، أو يترجح أحدهما، فإن تكافأ المرجحان لزم أن لا يحصل واحد منهما، وهو خلاف المعلوم بالضرورة، فإنا نعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق، وأن ينتفع، وأن يكذب ويتضرر، مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع وإذا كان لا بد من ترجيح أحدهما فترجح الكذب الضار - مع فرض تساوى المرجحين - أولى بالامتناع من تكافيهما، فتعين أنه تكافأ المرجحان فلا بد أن يترجح عنده الصدق والنفع، وهو المراد باعتقاد الحق وإرادة الخير.
فعلم أن أو نقيضه؟ والثاني معلوم الفساد قطعا، فتعين الأول. وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به. في فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع، وحينئذ فالإقرار بوجود الصانع ومعرفته والإيمان به هو الحق