الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هـداه.

أما بعد: فإن الله جل وعلا شرع الإسلام ليكون منهج البشرية، الذي ينظم أحوالها في مختلف البلدان والأزمان والبيئات، وفي كل شئون ومناحي الحياة، وناط باتباعه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وجعل الشريعة الإسلامية هـي خاتمة الشرائع والأديان، فاقتضى ذلك أن يكون نظامها شاملا في معالجاته وأحكامه لكل زمان ومكان.

وإذا كان الشمول من أبرز خصائص الشريعة، فإن تحققه واستمراره منوط بالاجتهاد في استنباط الأحكام، وذلك لأن نصوص القرآن والسنة متناهية ومحددة، وقضايا البشر ووقائعهم غير متناهية ولا محددة [1] فكان الاجتهاد هـو السبيل إلى فهم تلك النصوص، لتظل تمدنا بالأحكام لكل الوقائع والمستجدات، وهذا ما سار عليه فقهنا الإسلامي في استنباطه للأحكام، وبذلك أمد الحياة بحلوله الشرعية التي استوعبت كل قضايا الشعوب والمجتمعات، في كافة الأقطار التي فتحها الإسلام، وظل عطاؤه في [ ص: 39 ] نماء وازدياد يوم أن كان رائده الاجتهاد، ولكنه جمد عندما جمد المسلمون وقصروا في قيامهم بواجب الاجتهاد.

وما أحوج أمتنا اليوم إلى إحياء الاجتهاد، لتعود بذلك هـيمنة التشريع الإسلامي على واقع الحياة وأحكامها، وتسعد الأمة في دنياها وأخراها، ويحفظها من الذوبان أو الخضوع لهيمنة النظم الوضعية المخالفة للإسلام.

وقد أدرك علماؤنا أهمية موضوع الاجتهاد، فتناولوه بالدراسة وأشبعوه بالبحث من كل جوانبه، وصار لزاما على من يريد بحثه من جديد أن يتناوله من جوانب وزوايا جديدة، ليشكل إضافة يثري بها موضوع الاجتهاد، ولهذا فقد رأيت أن أتناول بحث الاجتهاد من زاوية أرى فيها جدة، ولها أهمية كبرى في هـذا العصر، ويتمثل ذلك في بحث موضوع (الاجتهاد الجماعي) ، والجديد في هـذا البحث هـو تناول الاجتهاد الجماعي بالدراسة والبحث الشامل، وصياغته في منهجية متكاملة، مستفيدا في ذلك من المسائل المتناثرة التي ذكرها العلماء عن الاجتهاد الجماعي، أثناء تناولهم للاجتهاد بشكل عام. ولم يفرد العلماء السابقون (الاجتهاد الجماعى) بالبحث، أو يجعلوا له بابا مستقلا في أبواب أصول الفقه، وإنما جاء حديثهم عنه ضمن مسائل متفرقة في أكثر من موضوع، فكان لا بد من جمع ذلك الشتات، وصياغته في قالب منهجي، يتناول الاجتهاد الجماعي كموضوع رئيس وبارز، ومستقل في الاجتهاد.

وقد اهتم علماؤنا المعاصرون [2] بالدعوة إلى الاجتهاد الجماعي، إلا أني لم أعثر على دراسة منهجية متكاملة لهذا الموضوع، وكل ما وجدته عنهم هـو الدعوة إلى الاجتهاد الجماعي، دون الخوض في تفاصيله وأحكامه [ ص: 40 ] ومجالاته [3] ، مما جعل موضوع الاجتهاد الجماعي بحاجة إلى دراسة مستفيضة تستوعب كل جوانبه، وتتقصى كل موضوعاته بدقة وتعمق، وقد حاولت أن أقدم شيئا من ذلك، مستمدا معلوماتي من مصادرنا العلمية ومراجعنا التراثية، مع نظرة إلى واقعنا المعاصر ومتطلباته، وهي محاولة قد يشوبها الكثير من القصور، ولكن ذلك جهدي.

وأما جانب الأهمية في هـذا البحث، فيتمثل في الأهمية البالغة للاجتهاد الجماعي وشدة حاجة أمتنا إليه، وسيلة لاستنباط الأحكام، وعلاجا للمشكلات.. وتفصيل هـذا في فصل: (أهمية الاجتهاد الجماعي) .

وقد جعلت خطتي لدراسة هـذا الموضوع على النحو الآتي:

الفصل الأول: أدرت البحث فيه حول: تعريف الاجتهاد الجماعي وتاريخه وشروطه، فتناولت تعريفه، وأظهرت الفروق بينه وبين الاجتهاد الفردي وبين الإجماع، كما بينت مراحل تاريخ الاجتهاد الجماعي في فتراته الأربع: عهد الصحابة، ثم عهد الأئمة، ثم عهد الجمود، ثم العصر الحديث، ثم تناولت الشروط التي يجب توفرها في المجتهد، وانتهيت بمناقشة ما يجب توفره من تلك الشروط في عضو المجمع الاجتهادي.

الفصل الثاني: خصصته لبيان أهمية الاجتهاد الجماعي، من حيث تحقيقه لمبدأ الشورى في الاجتهاد، وكونه أكثر دقة وإصابة من الاجتهاد الفردي، وما يقوم به من سد للفراغ الذي أحدثه غياب الإجماع والمجتهد المطلق، وكذا تيسيره للاجتهاد ومنعه للأسباب الداعية إلى توقيفه، وكذا [ ص: 41 ] منعه للمخاطر الناتجة عن الاجتهاد الفردي، وأنه أنجع وسيلة لمعالجة المستجدات في هـذا العصر الذي تشابكت فيه الأمور، وتعقدت القضايا، كما بينت دوره في تحقيق التكامل بين المجتهدين، ودوره في توحيد التشريعات للأمة الإسلامية.

أما الفصل الثالث: فقد تناولت فيه حجية الاجتهاد الجماعي، فناقشت أقوال العلماء في حجية رأي الأكثرية، هـل هـو بمنزلة الإجماع الأصولي، أم أنه حجة ظنية يكون الأخذ بها أولى من غيرها؟ كما ناقشت اتجاه العلماء المعاصرين، الذين ذهبوا إلى أن الاجتهاد الجماعي هـو الإجماع الواقعي الذي تحقق في صدر الإسلام على يد الصحابة، وسمي بعد ذلك إجماعا، ثم أنهيت الفصل بما أميل إليه في الموضوع.

وأما الفصل الرابع: فقد عالجت فيه (المجالات الأساسية) ، التي ينبغي أن يتناولها الاجتهاد الجماعي، وركزتها في ثلاثة محاور: الاجتهاد الجماعي في المستجدات.. الاجتهاد الجماعي في انتقاء الراجح من أقوال السابقين، والأنسب لواقع الأمة في هـذا العصر.. الاجتهاد الجماعي فيما يتغير لتغير أساسه أو تغير زمانه ومكانه.. وذكرت أثناء ذلك الاعتبارات التي تجعل هـذه المجالات هـي أهم ما يجب أن يتناوله الاجتهاد الجماعي.

وجاء الفصل الخامس ختاما لهذا البحث، فعالج وسيلة الاجتهاد الجماعي في هـذا العصر، حيث تناولت فيه (المجمع الفقهي العالمي) من حيث أهميته، وأهدافه، والأسس العامة لتكوينه، ومدى استقلاله عن هـيمنة الآخرين، ثم تكلمت عن تقييم العلماء للمجامع الفقهية الموجودة، وأنهيت الفصل بما أراه مقترحا لتطوير المجامع الموجودة وتوحيدها، والنموذج الذي ينبغي أن يكون. [ ص: 42 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية