الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي

الدكتور / عبد المجيد السوسوه الشرفي

وبناء على ما سبق، فالتغير قد يكون إما لتغير مصلحة، وإما لتغير العرف، وإما لتغير الزمان أو المكان، ولتوضيح هـذه الأسباب سنعرض لها بشيء من التفصيل، وذلك على النحو الآتي:

أولا: الاجتهاد الجماعي فيما يتغير الحكم فيه لتغير المصلحة

من المعلوم أن الأحكام الشرعية التي تعلقت بأمور تعبدنا الله بها، تعتبر أمورا توقيفية يجب علينا القيام بها، علمنا وجه المصلحة فيها أو لم نعلم [1] ، ولكن هـناك من الأحكام ما بني على أساس تحقيق مصلحة معينة، فإذا ما تغيرت المصلحة أو انعدمت، تغير ذلك الحكم أو توقف لتوقف سببه، وهذا التوقف أو التغير ليس من قبيل النسخ للحكم، لأنه لا نسخ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالحكم الأول باق، وإنما لكون محله لم تتوفر فيه [ ص: 117 ] الأسباب الموجبة لذلك الحكم، فتعذر تطبيق ذلك الحكم، فإذا ما توفرت أسبابه مرة ثانية وجب تطبيقه [2] ، فمثلا إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة قصد به تكثير سواد المسلمين بالمؤلفة قلوبهم، فلما كثر سواد المسلمين وقويت شوكتهم، لم يعد لمن كانت تؤلف قلوبهم أي تأثير وحاجة، فأوقف عمر رضي الله عنه ذلك السهم، ولم يكن ذلك منه نسخا أو تعطيلا، وإنما لم ينزل الحكم لعدم توفر سببه، فلو عاد دور المؤلفة قلوبهم لنفس الهدف الذي من أجله شرع سهمهم وجب أن يعود لهم السهم [3] .

والأحكام التي تتغير لتغير مصلحتها لا يجوز أن يقوم بالنظر والاجتهاد فيها إلا من بلغ درجة الاجتهاد.. وضمانة لعدم استغلال هـذه القاعدة في تعطيل شرع الله بذريعة تغير المصلحة، يجب أن يكون الاجتهاد في هـذا النوع من الأحكام اجتهادا جماعيا، لكونه أكثر ضمانة في التحري عن المصلحة وتغيرها، وأكثر دقة في الابتعاد عن الهوى، وأكثر إصابة للحق وعدم الأخذ بمجرد توهم التغير، بينما في الاجتهاد الفردي قد يستغله من يريد تعطيل شرع الله، أو من يسيطر عليه هـواه في التخلص والتمرد على أحكام الشريعة بذريعة تغيرها لتغير المصلحة التي جاءت لعلاجها.. وتغير الحكم لتغير مصلحته، له أمثلة كثيرة في الفقه الإسلامي [4] . [ ص: 118 ]

من ذلك ما روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أمر بالتقاط ضوال الإبل وبيعها، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها [5] ، مع أن الرسـول صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: سئل عن ضالة الإبل، هـل يلتقطها من يراها، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التقاطها، لأنه لا يخشى عليها، وأمر بتركها ترد الماء وترعى الكلأ [6] ، وكان الحكم على ذلك حتى خلافة عثمان، فلما رأى الناس قد دب إليهم الفساد، وامتدت أيديهم إلى الحرام عدل الحكم [7] ، وهو في الحقيقة لم يترك النص، وإنما أعمله حسب المصلحة المتجددة التي تغيرت فأصبحت التقاط ضوال الإبل وليس تسيبها، لأنه لو أبقى الحكم على ما كان، مع ما لاحظه من فساد أخلاق الناس، لآل الأمر إلى عكس المقصود من النص الذي بني على رعاية أحوال الناس، واختلافهم في ذلك الوقت [8] .

التالي السابق


الخدمات العلمية