الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
الفصل الأول: تعريف الاجتهاد الجماعي وتاريخه وشروطه

المبحث الأول: تعريف الاجتهاد الجماعي

سنعرض في هـذا المبحث لتعريف الاجتهاد في اللغة، ثم التعريف العام للاجتهاد في اصطلاح الأصوليين، ثم التعريف الخاص بالاجتهاد الجماعي.

تعريف الاجتهاد لغة الاجتهاد في اللغة: مأخوذ من الجهد، والجهد بفتح الجيم وضمها: وهو الطاقة [1] ، ورد في لسان العرب: الجهد الطاقة، وجهد يجهد جهدا أي جد، والاجتهاد والتجاهد بذل الوسع والمجهود [2] ، والاجتهاد: بذل الوسع في طلب الأمر، وهو افتعال من الجهد [3] ، وصيغة (الافتعال) تدل على المبالغة في الفعل، ولهذا كانت صيغة (اكتسب) أدل على المبالغة من صيغة (كسب) . ويفهم من هـذا أن الاجتهاد لغة: بذل الجهد واستفراغ الوسع في تحصيل أمر من الأمـور التي تستلزم كلفـة ومشقة فقط، ولا يستعمـل [ ص: 43 ] فيما ليس كذلك، فيقال: اجتهد في حمل حجر الرحاء، ولا يقال: اجتهد في حمل حصا [4] .

التعريف العام للاجتهاد في اصطلاح الأصوليين

ذكر الأصوليون تعريفات كثيرة للاجتهاد، ليس لنا حاجة هـنا إلى ذكرها ومناقشتها



[5] ، وإنما نكتفي بالتعريف الذي نراه أقرب إلى التعريف الجامع المانع، ونجعل هـذا التعريف هـو المختار.

التعريف الاصطلاحي للاجتهاد: (استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي) [6] . [ ص: 44 ]

شرح التعريف

(استفراغ الوسع) ، المراد به أن يبذل الوسع في طلب الحكم، بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب [7] .

والاستفراغ جنس، يشمل استفراغ الفقيه [8] وغير الفقيه، فقيد الاستفراغ بالفقيه ليخرج غير الفقيه، فإنه وإن استفرغ جهده لا يسمى اجتهادا [9] ، ولم يقل في التعريف (استفراغ المجتهد الوسع) ، لأنه يلزم منه الدور، إذ تكون معرفة الاجتهاد متوقفة على المجتهد، ومعرفة المجتهد متوقفة على الاجتهاد في هـذا التعريف.

وقوله: (لتحصيل ظن) ، إنما هـو لبيان أن المجتهد فيه إنما هـو الظنيات، أما القطعيات فلا اجتهاد فيها، ويدخل في الظني ما كان مستفادا من دليل ظني الثبوت، أو ظني الدلالة، أو ظني الثبوت والدلالة معا.

وقوله: (بحكم شرعي) ، ليخرج غيره من الحسيات والعقليات، لأن الكلام هـنا إنما هـو عن الاجتهاد في الشرعيات

[10] . [ ص: 45 ]

تعريف الاجتهاد الجماعي

ما أسلفناه من تعريف للاجتهاد يعتبر تعريفا عاما للاجتهاد بنوعيه الفردي والجماعي، إلا أن ظاهر صيغة التعريف قد يفهم منها على أنها تعريف للاجتهاد الفردي، لذلك كان لا بد من وضع تعريف يكون خاصا في دلالته على تعريف الاجتهاد الجماعي، وتمييزه عن الاجتهاد الفردي، وذلك على النحو الآتي: الاجتهاد الجماعي هـو: (استفراغ أغلب الفقهاء الجهد لتحصيل ظن بحكم شرعي بطريق الاستنباط، واتفاقهم جميعا أو أغلبهم على الحكم بعد التشاور) . وفي شرحنا لهذا التعريف نكتفي بما قلناه في شرح التعريف المختار، إلا ما كان من ألفاظ زائدة في هـذا التعريف، فسنحاول شرحها كما يلي:

قوله: (أغلب الفقهاء) ، قيد لبيان أن الاجتهاد الجماعي يختلف عن الاجتهاد الفردي في كونه جهد جماعة وليس جهد فرد، وإن هـذه الجماعة تكون أغلب العلماء المجتهدين أو أكثرهم.

قوله: (واتفاقهم جميعا أو أغلبهم على الحكم) ، قيد لبيان أن الاجتهاد الصادر من جماعة لا يكون جماعيا بالمعنى المقصود، إلا إذا نتج عنه حكم متفق عليه من جميع أولئك المجتهدين أو من أغلبهم [11] . أما إذا [ ص: 46 ] لم يتفقوا، وظل كل مجتهد محتفظ برأيه واجتهاده، فلا يتحقق الاجتهاد الجماعي، وإنما تكون النتيجة مجموعة من الاجتهادات الفردية المختلفة.

وأيضا في قوله: (اتفاقهم جميعا أو أغلبهم) ، فيه بيان للفرق بين الاجتهاد الجماعي والإجماع، فالإجماع يشترط فيه اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي، بينما الاجتهاد الجماعي يكفي فيه اتفاق مجموعة من العلماء المجتهدين أو أكثر العلماء المجتهدين، ولا يشترط فيه اتفاق جميع المجتهدين، إذ لو تم هـذا كان ذلك إجماعا، وأيضا يكفي في الاجتهاد الجماعي اتفاق أغلب المشاركين في الاجتهاد.

وقوله: بعد تشاورهم، فيه بيان بأن الاجتهاد الجماعي لا بد أن يكون الحكم الصادر عنه قد أتى بعد تشاور أولئك العلماء وتبادلهم للآراء، وتمحيصهم للأفكار، ومناقشتهم للأقوال بطريقة شورية، من خلال وسيلة يحددونها (كالمجالس أو المجامع أو المؤتمرات أو غير ذلك) ، أما إذا حدث توافق بين آراء مجموعة من العلماء في حكم شرعي، وكان ذلك دون سابق تشاور بينهم حول ذلك الحكم، فإن هـذا ليس اجتهادا جماعيا، وإنما هـو توافق في الاجتهاد.

وأيضا في قوله: (بعد تشاورهم) ، وصف يتبين منه الفرق بين الاجتهاد الجماعي والإجماع ، فالجماعي يلزم أن يكون مبنيا على الشورى، أما الإجماع فلا يشترط فيه تشاور المجتهدين، إذ لو حدث اتفاق جميع المجتهدين على حكم شرعي دون أن يسبق ذلك تشاور، صح الإجماع. [ ص: 47 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية