الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي

الدكتور / عبد المجيد السوسوه الشرفي

المبحث الأول: الاجتهاد الجماعي في المستجدات

إن الله عز وجل أكمل دينه،

فقال: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) (المائدة: 3) ،

فقد أكمل دينه من حيث قواعده الكلية ومبادئه العامة التي يقوم عليها، ويحتاج إليها الناس في كل زمان ومكان، أما الجزئيات فبعضها قد تضمنته نصوص الكتاب والسنة، وبعضها ترك للاجتهاد على ضوء نصوص الكتاب والسنة، لأن الجزئيات التي تتولد عن الحوادث المستجدة لا تتناهى، بينما النصوص تتناهى، ولو ألزم الناس في كل قضية جزئية أن يحكمها نص لوقع الناس في حرج.. وأيضا فإن القضايا قد تتغير صورها وملابساتها وأنواعها من زمن إلى آخر.. فلو وضعت لها نصوص تشريعية، فسيقيد ذلك من حركة الأمة ويجمدها، ولكن ما عمله الشارع هـو أن جعل لما يستجد في حياة الناس وما هـو قابل للتغير، جعل له قواعد كلية ومبادئ عامة يعود الناس إليها ليجدوا فيها الحكم عن طريق الاجتهاد بالقياس أو غيره من مسالك الاجتهاد بالرأي، كالاستحسان والمصلحة المرسلة والعرف وسد الذرائع وغيرها.

يقول الشاطبي : فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بينت غاية البيان، نعم يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولا إلى نظر المجتهد، فإن قاعدة الاجتهاد أيضا ثابتة في الكتاب والسنة، فلا بد من عملها، ولا يسع تركها، وإذا ثبتت في الشريعة أشعرت بأن ثم مجالا للاجتهاد، ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه. [1] . [ ص: 108 ]

وإذا كان الاجتهاد للمستجدات أمرا ضروريا في حياة أسلافنا [2] ، فهو أكثر ضرورة في حياتنا اليوم، ذلك أن أوضاعنا الحياتية قد تغيرت عما كان عليه الماضي تغيرا كبيرا، وتطورت تطورا مذهلا خاصة فيما يتعلق بالمعاملات، ونتج عن ذلك ظهور قضايا جديدة لم تكن من قبل، ونشوء علاقات جديدة لم تكن من قبل، وكل يوم والمستجدات تتوالى، مما يوجب مواجهتها باجتهادات يبين فيها حكم الله، حتى يكون المسلم على بينة من أمره فيما يدع وفيما يذر، اتباعا لشرع الله وامتثالا لأمره.

وإذا كانت المستجدات اليوم كثيرة، فإنها أيضا ذات تعقيدات وملابسات وتداخلات بعلوم ومعارف أخرى، مما جعل الاجتهاد فيها يحتاج إلى علم موسوعي في التشريع الإسلامي والمعارف الإنسانية الأخرى، حتى يكون الاجتهاد في تلك القضايا متكاملا وناضجا ومستوعبا كل جوانب القضية المجتهد فيها، ويكون حكمه عليها صحيحا. وهذا القدر الكبير من العلوم والمعارف لا يمكن توفره في عصرنا في عالم واحد، وإنما يحتاج إلى عدد من العلماء ليكمل بعضهم بعضا.. فالعالم المجتهد في العلوم الشرعية يكمله عالم متخصص متبحر في العلوم الإنسانية، وحتى لو افترضنا أن رجلا لديه إلمام بكل العلوم، فإن تعرضه للخطأ أكثر احتمالا من [ ص: 109 ] تعرض الجمع الكثير، لذلك فالاجتهاد الجماعي يكون أكثر إصابة للحق وأقل خطأ من الاجتهاد الفردي، كما سبق توضيح ذلك في مبحث أهمية الاجتهاد.

وكذلك تجد الأمر نفسه فيما يتعلق بالشركات، وأنواعها وأنظمة التأمين وأنواعها، والسياسات الشرعية في المستجدات، والقواعد الأساسية للحكم الإسلامي المعاصر، والقوانين الإدارية، والعلاقات الاقتصادية داخل العالم الإسلامي وخارجه، وما جد في المجتمعات المتطورة من قضايا جديدة، مثل وسائل العلاج المتقدمة، وأجهزة الإنعاش، وأطفال الأنابيب وبنوك الحليب، والبنوك المنوية، وأيضا الكثير من القضايا والأحكام المدنية والتجارية وقوانين البحار والعمل.

وهكذا نجد أن ميادين الاجتهاد الجماعي في المستجدات متعددة وتتسع لتشمل الكثير من القضايا الاقتصادية والطبية والعلمية، والأخلاقية والمدنية والحربية والسياسية وكل ما له صلة بالحياة اليومية.. هـذه الأمور منفردة ومجتمعة، مبسطة ومعقدة، متشابهة ومتباينة، تتمثل فيها حياة المسلم العملية اليومية، ولا بد للبحث فيها ودراستها دراسة علمية مفيدة، من تصور صحيح، واستيفاء كامل لكافة جوانبها الواقعية والعلمية أولا، ثم الشرعية ثانيا [3] ، ولن يتم ذلك على الوجه الأكمل إلا عبر الاجتهاد الجماعي. [ ص: 110 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية