الفصل الثاني: أهمية الاجتهاد الجماعي
للاجتهاد الجماعي أهمية بالغة في التشريع الإسلامي، وتتجلى أهميته من خلال مجموعة الأمور التي يحققها، وأبرز تلك الأمور: أنه يحقق مبدأ الشورى في الاجتهاد، كما أنه يكون أكثر دقة وإصابة من الاجتهاد الفردي، وهو في الوقت نفسه يعوض عما قد يتعذر علينا اليوم من قيام الإجماع، ويسد إلى حد كبير الفراغ الذي يحدثه غياب المجتهد المطلق.. والاجتهاد الجماعي ييسر للأمة استمرار الاجتهاد، ويمنع أسباب توقفه أو إغلاق بابه، كما أنه يقي الأمة من الأخطاء والأخطار التي قد تنتج عن الاجتهاد الفردي، وهو أفضل نوعي الاجتهاد لمعالجة المستجدات في حياة الأمة، وهو من أنجع السبل إلى توحيد النظم التشريعية للأمة.. وأيضا فإن الجماعية في الاجتهاد، يتحقق بها التكامل بين الساعين للاجتهاد، ويتحقق بها التكامل في النظر للقضايا محل الاجتهاد. وسنعرض لكل هـذه العوامل بالتفصيل وذلك على النحو الآتي:
أولا: يحقق مبدأ الشورى
يتحقق في الاجتهاد الجماعي مبدأ الشورى في الاجتهاد، وذلك أن أعضاء المجلس الاجتهادي يمارسون الشورى بتبادل الآراء، وتمحيص الأفكار وتقليبها على كل الوجوه، حتى يصلوا إلى رأي يتفقون عليه أو ترجحه [ ص: 77 ] الأغلبية [1] ، وفي هـذا تطبيق لمبدأ الشـورى الذي أمـرنا الله به [2] فـي قولـه تعالـى: ( وأمرهم شورى بينهم ) (الشورى: 38) ،
وقوله تعالى: ( وشاورهم في الأمر ) (آل عمران: 159) .
وقد أرشدنا إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه سعيد بن المسيب ( عن علي رضي الله عنه ، قال: قلت: يا رسول الله! الأمر ينزل بنا، لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض فيه منك سنة؟ قال: اجمعوا له العالمين - أو قال: العابدين من المؤمنين- فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد ) [3] ، ولذلك كان منهج الخلفاء الراشدين إذا لم يجدوا الحكم في الكتاب أو السنة أن يدعوا رءوس الناس وخيارهم إلى التشاور والنظر، فما اجتمع عليه أمرهم كان حكما شرعيا [4] .
. وقد اقتفى أثرهم في ذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، حيث حرص على تطبيق مبدأ الشورى في الاجتهاد، فأنشأ مجلسا من فقهاء المدينة وصلحائها، ليستعين بهم في استنباط الأحكام والاستفادة برأيهم، وذلك عندما كان واليا على المدينة قبل أن يصير خليفة [5] ، وهذا ما سار عليه العمل في بعض عصور الدولة الأموية بالأندلس ، أيـام يحيـى بن يحيى الليثي قاضي قضاتها، فقد أنشأ مجلسا للشورى، للنظر في المشاكل الفقهية [6] . [ ص: 78 ]
ولا شك أن تطبيق مبدأ الشورى في الاجتهاد، يحقق الكثير من الفوائد، من أهمها: ذلك التمحيص للآراء والتلاقح للأفكار عبر مناقشات علمية تجعل الحكم النابع عن ذلك الاجتهاد أكثر دقة في النظر، وأكثر إصابة في الرأي، ويجنب الاجتهاد ما قد يكون في الاجتهاد الفردي من القصور، أو التأثر ببعض النزعات الخاصة، كما أن الشورى في الاجتهاد تقرب وجهات النظر، وتقلل مساحة الخلاف، وتعزز ثقة الأمة بالأحكام النابعة من الاجتهاد الجماعي [7]