الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي

الدكتور / عبد المجيد السوسوه الشرفي

الاتجاه الرابع [1]

ذهب إلى أن الاجتهاد الجماعي هـو الإجماع الواقعي، الذي يختلف عن الإجماع الأصولي في أمرين:

أولا: أن الإجماع بالمعنى الأصولي هـو اتفاق كل المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي بعد وفاة الرسول في أي عصر من العصور، أما الإجماع الواقعي فهو يتم باتفاق أكثرية المجتهدين، ولا يشترط فيه اتفاق الجميع.. والاجتهاد بالمعنى الأصولي هـو الاجتهاد الكامل، ولم يتحقق في [ ص: 99 ] واقع الأمر إلا في القضايا والأمور التي هـي معلومة من الدين بالضرورة، والتي لا تلقـى أحدا من المسلمين إلا وافق عليها ونقلهـا عمن قبله، كالإجماع على أن الجد يرث مع وجود الإخوة، وأن الجدة يحرم التزوج بها كالأم، وترث السدس إذا لم يكن هـناك أم، والإجماع على عدم بيع أم الولد [2] .

أما الإجماع الواقعي فهو الإجماع الناقص باعتباره يتم باتفاق الأكثرية، وهذا النوع من الإجماع يمكن تحققه في كل العصور، ويتم في الغالب في المستجدات الدنيوية التي لم ينص على حكمها كتاب أو سنة، مما هـو مجال للرأي من مصالح الأمة الدنيوية التي تختلف باختلاف الزمان أو المكان، كالإجماع على إمامة شخص بعينه، أو على إعلان حرب على عدو [3] .

وقد استدل أصحاب هـذا الاتجاه على ما ذهبوا إليه من أن الاجتهاد الجماعي هـو الإجماع الواقعي، بفعل الصحابة، حيث إن الإجماع الذي روي عنهم لم يكن في حقيقته إلا اجتهاد جماعي [4] ، ولم يكن إجماعا بالمعنى الأصولي الذي اصطلح عليه في الأجيال من بعدهم.

يقول عبد الوهاب خلاف : فمن رجع إلى الوقائع التي حكم فيها الصحابة واعتبر حكمهم فيها كالإجماع، يتبين أنه ما وقع إجماع بهذا المعنى [المعنى الأصولي] وأن ما وقع إنما كان اتفاقا من الحاضرين من أولي العلم والرأي على حكم في الحادثة المعروضة، فهو في الحقيقة حكم صادر [ ص: 100 ] عن شورى الجماعة، لا عن رأي الفرد، فقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه ، كان إذا ورد عليه الخصوم، ولم يجد في كتاب الله ولا سنة رسوله ما يقضي [به] بينهم، جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمعوا على رأي أمضاه، وكذلك كان يفعل عمر رضي الله عنه .. ومما لا ريب فيه أن رءوس الناس وخيارهم الذين كان يجمعهم أبو بكر وقت عرض الخصومة، ما كانوا جميع رءوس المسلمين وخيارهم، لأنه كان منهم عدد كثير في مكة والشام واليمن في ميادين الجهاد، وما ورد أن أبا بكر أجل الفصل في خصومة حتى يقف على رأي جميع مجتهدي الصحابة في مختلف البلدان، بل كان يمضي ما اتفق عليه الحاضرون، لأنهم جماعة، ورأي الجماعة أقرب إلى الحق من رأي الفرد.. وكذلك كان يفعل عمر رضي الله عنه ، وهذا ما سماه الفقهاء الإجماع، فهو في الحقيقة تشريع الجماعة لا الفرد) [5] .

ثانيا: الإجماع بالمعنى الأصولي [الإجماع الكامل]، حجة يجب على الجميع العمل به، وتحرم مخالفته، ولا يقبل النسخ، لأنه لا يعقل ولا يقبل أن يجمع المتأخرون على خلافه، لعدم الحاجة إلى تغيير ما لا يستقل العقل بإدراكه من أمور الدين.

أما الإجماع الواقعي [الإجماع الناقص]، فإنه يجوز أن ينسخ بإجماع لاحق إذا كان معارضا له [6] .

. والإجماع الواقعي يجب اتباعه ويكون له [ ص: 101 ] صيغة قانونية واجبة النفاذ إذا ما صدر من ولي الأمر أو نائبه [7] .

كما تم في عمل الخليفتين فإن الذي كان يجمع الرؤساء ويستشيرهم في المدينة هـو أبو بكر أو عمر، وكذا ما كان يعمله شريح في الكوفة حينما كان يجمع أهل العلم والصلاح ويستشيرهم باعتباره قاضيا أو نائبا عن عمر رضي الله عنه فيها، وكان يقوم بعمله هـذا بناء على أوامر وتوجيهات عمر الخليفة [8] .

والدليل على حجية هـذا النوع، ما أوجبه الله تعالى على المؤمنين من طاعة أولي الأمر في قوله تعـالى:

( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (النساء: 95) .

والمراد بأولي الأمر: من صاروا بعلمهم وحسن سيرتهم وخبرتهم بشؤون الأمة، موضع ثقة الناس، فولوهم أمورهم راضين مطمئنين، ووكلوا إليهم النظر في مصالحهم: من الحكام والرؤساء والعلماء، إلا أنه لا طاعة لهم إلا في المعروف لا في المعصية [9] ، ( لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : إنما الطاعة في المعروف ) [10] ، ( وقوله صلى الله عليه وسلم : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) [11] .

. وهذه الطاعة لولي الأمر إنما وجبت تنظيما [ ص: 102 ] لمصالح الأمة الدنيوية، وصونا لوحدتها من التفرق والشقاق، لا لأن أولي الأمـر معصومـون من الخطـأ، فإن العصمـة لا تكون إلا للرسل عليهم الصلاة والسلام [12] .

وإذا كان من المقررات الأصولية، أن حكم الحاكم يرفع الخلاف بين العلماء، فإن لولي الأمر أن يلزم الناس بالرأي الذي يتوصل إليه هـؤلاء المجتهدون، استنادا إلى أن طاعة ولي الأمر واجبة [13] ، إعمالا لقوله تعالى: ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) (النساء: 95) .

وقد قيد منح ولي الأمر سلطة إلزام الناس بأمر معين في موضوع اجتهادي بشرط هـام، وهو أن يكون ولي الأمر من المجتهدين، فإذا لم يكن من المجتهدين فإن أوامره لا يعتد بها إلا بعد مشورة أهل العلم في الشريعة وموافقتهم [14] ويمكننا مناقشة أصحاب هـذا الاتجاه في أن قولهم: بأن إجماع الصحابة ما كان في حقيقته إلا اجتهادا جماعيا، ولم يكن إجماعا بالمعنى الأصولي، فنقول: إجماع الصحابة كان يبدأ في شكل اجتهاد جماعي ثم ينتهي بعد ذلك إلى إجماع صريح أو سكوتي.. فالاجتهاد الجماعي الذي كان يتم في عصر الخلفاء كان ينتشر خبره بين الصحابة جميعا فيقرونه فيكون إجماعا [ ص: 103 ] صريحا) ، أو يعلمون به ويسكتون ولا يعرف لذلك معارض (فيكون إجماعا سكوتيا ) فلم يكن اجتهادهم الجماعي يتوقف عند مرحلة الاجتهاد، بل كان بعد ذلك ينتشر خبره فيحظى بالموافقة من بقية الصحابة أو السكوت عليه فيصير إجماعا.

ومن هـنا فإن جعل الاجتهاد الجماعي بمنزلة إجماع الصحابة لا يكون ذلك صحيحا، إلا إذا انتشر خبر الاجتهاد الجماعي اليوم بين جميع المجتهدين ووافقوا عليه صراحة أو علموا به ولم يعترضوا، فيكون في الأول صريحا وفي الثاني سكوتيا، وهذا أمر ممكن في عصرنا حيث كثرت وسائل النشر وتنوعت ما بين مقروء ومسموع ومرئي، وسهل الاتصال بين العلماء من خلال المؤتمرات أو الندوات أو المجالس أو الاتحادات أو المراسلات وغيرها مما يجعل انتشار خبر الاجتهاد الجماعي وعلم بقية المجتهدين به أمرا ميسورا واحتمال موافقتهم عليه أمرا معقولا.

ويميل الباحث إلى أن الاجتهاد الجماعي له حجة ظنية ظنا راجحا تجعل اتباعه أولى من الاجتهاد الفردي، إلا إذا صدر بتنظيم الاجتهاد الجماعي (مجمع الاجتهاد) ، قرار من ولي أمر المسلمين فتكون مقررات المجمع الاجتهادي أحكاما ملزمة للكافة، وقواعد قانونية عامة لكل الناس، يجب اتباعها ويحرم مخالفتها، لما سبق ذكره من أن حكم الحاكم يرفع الخلاف، ووجوب طاعة أولي الأمر.. وإذا اقتضى الأمر تغيير تلك الأحكام التي صدرت بالاجتهاد الجماعي فيمكن تغيير تلك الأحكام باجتهاد جماعي [ ص: 104 ] جديد يستند إلى أدلة قوية وراجحة تقتضي التغيير، وأن يكون الاجتهاد الجماعي الجديد في مستوى الاجتهاد الجماعي الأول من حيث صدور قرار ولي الأمر بتنظيمه.. وكما سبق لا بد أن يكون ولي الأمر مجتهدا تقيا حتى يكون لأوامره ذلك التأثير في الحجية، ووجوب الطاعة، فإن لم يكن مجتهدا فيعوض عنه بأن يكون مستشيرا في أوامره تلك العلماء المجتهدين والخبراء الصالحين.

ويؤكد ما ذهبنا إليه من أن الاجتهاد الجماعي إذا صدر قرار بتنظيمه من ولي الأمر يصير حجة على الكافة ما كان يتـم في عهـد الشيخين رضي الله عنهما ، حيث كانا هـما اللذان ينظمان الاجتهاد الجماعي.

أما إذا كان الاجتهاد الجماعي مجرد جهد من قبل العلماء دون أن يصدر بتنظيمه قرار من ولي الأمر، فيجوز للآخرين أن يجتهدوا بخلافه إلا أن اتباعه يكون هـو الأولى والأرجح من اتباع الاجتهادات الفردية، لأن الاجتهاد الجماعي أقوى حجة وأولى اتباعا من الاجتهاد الفردي، إذ إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرشدنا إلى اتباع هـذا الأسلوب في المستجدات، فقد روى سعيد بن المسيب ( عن علي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض فيه منك سنة، قال: اجمعوا له العالمين - أو قال: العابدين من المؤمنين - فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد ) [15] . [ ص: 105 ]

فكان هـذا دليلا على ما في الاجتهاد الجماعي من قوة وقرب من الصواب.. واتباع القريب من الصواب أولى من غيره.. إلا أنه لا يمكننا أن نجعل الاجتهاد الجماعي أداة لمنع الاجتهاد الفردي، فيظل باب الاجتهاد الفردي مفتوحا في الموضوعات نفسها، إلا إذا صدر بتنظيم ذلك الاجتهاد الجماعي قرار من ولي الأمر، فإن على الكافة - مجتهدين وغيرهم - الالتزام بذلك، قانونا ملزما للجميع، ويكون اتباعه واجبا لما سلف ذكره من الأدلة.

أما لو كان إجماعا كاملا فلا يحتاج إلى أن يصدر بتنظيمه قرار ولي الأمر، وإنما يكفي اتفاق جميع العلماء.. أما في الاجتهاد الجماعي فإنه لايحدث اتفاق من جميع العلماء وإنما من أكثرهم، فكان لبقية المجتهدين حق الاجتهاد بما يخالف الأكثرية، إلا إذا صدر قرار ولي الأمر بالجماعي فلم يعد من حق الأقلية أن تخالف، لما سبق ذكره من الأدلة.

وتجدر الإشارة إلى أن كلام العلماء حول حجية قول الأكثرية لم يذكروا فيه ما المقصود بالأكثرية، هـل أكثرية العلماء المجتهدين في العالم الإسلامي كله، أم الأكثرية في قطر معين؟ وأعتقد أنهم كانوا يقصدون الأول باعتبار أن العلماء لم يكن في أذهانهم المعنى القطري وإنما المعنى العالمي.. وأرى أن الاجتهاد الجماعي إن كان نابعا عن أكثرية قطرية فتكون حجيته على مستوى ذلك الإقليم، باعتبار أن علماء ذلك الإقليم غالبا ما يجتهدون في ضوء ظروف وملابسات ذلك الإقليم، وللأقاليم الأخرى أن تأخذ من ذلك الاجتهاد ما ليس متسما بصفة إقليمية. [ ص: 106 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية