المسألة الثالثة
[ لمس النساء ]
اختلف العلماء في إيجاب باليد أو بغير ذلك من الأعضاء الحساسة ، فذهب قوم إلى أن من لمس امرأة بيده مفضيا إليها ليس بينه وبينها حجاب ولا ستر فعليه الوضوء ، وكذلك من قبلها ; لأن القبلة عندهم لمس ما ، سواء التذ أم لم يلتذ وبهذا القول قال الوضوء من لمس النساء وأصحابه ، إلا أنه مرة فرق بين اللامس والملموس ، فأوجب الوضوء على اللامس دون الملموس ، ومرة سوى بينهما ، ومرة أيضا فرق بين ذوات المحارم والزوجة ، فأوجب الوضوء من لمس الزوجة دون ذوات المحارم ، ومرة سوى بينهما . الشافعي
وذهب آخرون إلى إيجاب الوضوء من اللمس إذا قارنته اللذة أو قصد اللذة . في تفصيل لهم في ذلك ، وقع بحائل أو بغير حائل بأي عضو اتفق ما عدا القبلة ، فإنهم لم يشترطوا لذة في ذلك ، وهو مذهب مالك وجمهور أصحابه ، ونفى قوم إيجاب الوضوء من لمس النساء وهو مذهب أبي حنيفة ، ولكل سلف من الصحابة ، إلا اشتراط اللذة فإني لا أذكر أحدا من الصحابة اشترطها .
[ ص: 36 ] وسبب اختلافهم في هذه المسألة : اشتراك اسم اللمس في كلام العرب ، فإن العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو باليد ، ومرة تكني به عن الجماع .
فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب للطهارة في آية الوضوء هو الجماع في قوله تعالى : ( أو لامستم النساء ) وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد ، ومن هؤلاء من رآه من باب العام أريد به الخاص ، فاشترط فيه اللذة ، ومنهم من رآه من باب العام أريد به العام فلم يشترط اللذة فيه ، ومن اشترط اللذة فإنما دعاه إلى ذلك ما عارض عموم الآية من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلمس عائشة عند سجوده بيده وربما لمسته . وخرج أهل الحديث حديث عن حبيب بن أبي ثابت عروة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " قال أنه قبل بعض نسائه ، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ، فقلت : من هي إلا أنت ؟ فضحكت أبو عمر : هذا الحديث وهنه الحجازيون وصححه الكوفيون ، وإلى تصحيحه مال ، قال : وروي هذا الحديث أيضا من طريق أبو عمر بن عبد البر معبد بن نباتة ، وقال إن ثبت حديث الشافعي معبد بن نباتة في القبلة لم أر فيها ولا في اللمس وضوءا .
وقد احتج من أوجب الوضوء من اللمس باليد بأن اللمس ينطلق حقيقة على اللمس باليد ، وينطلق مجازا على الجماع ، وأنه إذا تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز ، فالأولى أن يحمل على الحقيقة حتى يدل الدليل على المجاز . ولأولئك أن يقولوا : إن المجاز إذا كثر استعماله كان أدل على المجاز منه على الحقيقة كالحال في اسم الغائط الذي هو أدل على الحدث الذي هو فيه مجاز منه على المطمئن من الأرض الذي هو فيه حقيقة .
والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت دلالته على المعنيين بالسواء أو قريبا من السواء أنه أظهر عندي في الجماع وإن كان مجازا ; لأن الله - تبارك وتعالى - قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع وهما في معنى اللمس ، وعلى هذا التأويل في الآية يحتج بها في إجازة التيمم للجنب دون تقدير تقديم فيها ولا تأخير على ما سيأتي بعد ، وترتفع المعارضة التي بين الآثار والآية على التأويل الآخر .
وأما من فهم من الآية اللمسين معا فضعيف ، فإن العرب إذا خاطبت بالاسم المشترك إنما تقصد به معنى واحدا من المعاني التي يدل عليها الاسم لا جميع المعاني التي يدل عليها ، وهذا بين بنفسه في كلامهم .