الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : ولو قال : يا زينب ، فأجابته عمرة ; فقال : أنت طالق ثلاثا طلقت التي أجابته ، لأنه أتبع الإيقاع الجواب فيصير مخاطبا للمجيبة ، وإن قال : أردت زينب قلنا تطلق زينب بقصده ، ولكنه لا يصدق في صرف الكلام عن ظاهره فتطلق عمرة أيضا بالظاهر كما لو قال : زينب طالق ، وله امرأة معروفة بهذا الاسم تطلق ، فإن قال : لي امرأة أخرى بهذا الاسم تزوجتها سرا ، وإياها عنيت قلنا تطلق تلك بنيته ، والمعروفة بالظاهر ، ولو قال : يا زينب أنت طالق ولم يجبه أحد طلقت زينب ; لأنه أتبع الإيقاع النداء فيكون خطابا للمنادى وهي زينب .

وإن قال لامرأته يشير إليها : يا زينب أنت طالق فإذا هي عمرة طلقت عمرة ، إن كانت امرأته ، وإن لم تكن امرأته ، لم تطلق زينب ; لأن التعريف بالإشارة أبلغ من التعريف بالاسم ، فإن التعريف بالإشارة يقطع الشركة من كل وجه ، وبالاسم لا ، فكان هذا أقوى ، ولا يظهر الضعيف في مقابلة القوي ; فكان هو مخاطبا بالإيقاع لمن أشار إليها خاصة ، وإن قال : يا زينب أنت طالق ، ولم يشر إلى شيء غير أنه رأى شخصا فظنها زينب ، وهي غيرها طلقت زينب في القضاء ; لأنه بنى الإيقاع على التعريف بالاسم هنا فإنما يقع على المسماة ، ولا معتبر بظنه ; لأن التعريف لا يحصل به في الظاهر ، والقاضي مأمور باتباع الظاهر .

فأما فيما بينه وبين الله تعالى لا تطلق هي ولا الأخرى ; لأنه عناها بقلبه ، والله تعالى مطلع على ما في ضميره فيمنع ذلك الإيقاع على زينب التي لم يعنها بقلبه ، وعلى التي عناها بقلبه ; لأنه لم يخاطبها بلسانه حين أتبع الخطاب النداء ، وإن قال : أنت طالق هكذا وأشار بأصبع واحدة فهي طالق واحدة ، وإن أشار بأصبعين فهي طالق اثنتين ، وإن أشار بثلاثة أصابع فهي طالق ثلاثا ; لأن الإشارة بالأصابع بمنزلة التصريح بالعدد بدليل قوله صلى الله عليه وسلم { : الشهر هكذا وهكذا وهكذا ، وخنس إبهامه [ ص: 122 ] في الثالثة } فيكون ذلك بيانا أن الشهر تسعة وعشرون يوما .

ثم الأصل في هذه الإشارة أنها تقع بالأصابع المنشورة لا بالأصابع المعقودة ، والعرف دليل على هذا ، وكذلك الشرع فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خنس إبهامه في الثالثة كان الاعتبار بما نشر من الأصابع دون ما عقد حتى لو قال : عنيت الإشارة بالأصبعين اللتين عقدت لم يدن في القضاء ، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى ; لكون ما قال محتملا ، وكذلك إذا قال : عنيت الإشارة بالكف دون الأصابع دين فيما بينه وبين الله تعالى ; لكونه محتملا ، ولا يدين في القضاء ; لأنه خلاف الظاهر فتطلق ثلاثا .

وبعض المتأخرين يقولون إن جعل ظهر الكف إليها ، والأصابع المنشورة إلى نفسه ، دين في القضاء ، وإن جعل الأصابع المنشورة إليها ، لم يدن في القضاء ، وإذا أشار بأصابعه فقال : أنت طالق ، ولم يقل هكذا فهي واحدة ; لأن كلامه لا يتصل بإشارته إلا بقوله : هكذا فإذا لم يقل كان وجود الإشارة كعدمها فتطلق واحدة بقوله : أنت طالق ، وإن قال : أنت طالق وهو يريد أن يقول ثلاثا فأمسك رجل على فيه ، فلم يقل شيئا بعد ذكر الطلاق فهي طالق واحدة ; لأن الوقوع بلفظه لا بقصده ، وهو ما تلفظ إلا بقوله : أنت طالق .

وكذلك لو مات الرجل بعد قوله : أنت طالق قبل قوله : ثلاثا فهي طالق واحدة بخلاف ما إذا ماتت المرأة بعد قوله : أنت طالق قبل قوله : ثلاثا فإنها لا تطلق شيئا ; لأن الزوج وصل لفظ الطلاق بذكر العدد ، فيكون العامل هو العدد ، ألا ترى أنه لو قال لها قبل الدخول : أنت طالق ثلاثا تطلق ثلاثا ; لأن ذكر العدد حصل بعد موتها ، فأما إذا مات الرجل ، فلفظ الطلاق هنا لم يتصل بذكر العدد فبقي قوله : أنت طالق ، ولو قال : أنت طالق ، أنت طالق فماتت المرأة قبل ذكر الثانية ، طلقت واحدة ; لما قلنا أن كلامه هنا إيقاع عامل في الوقوع ، فإنما يقع ما صادفها وهي حية دون ما صادفها بعد الموت ، وإن قال لها : أنت طالق ، وأنت طالق ، وأنت طالق إن دخلت الدار فماتت قبل فراغه من الكلام لم يقع عليها شيء ; لأن الكلام المعطوف بعضه على بعض إذا اتصل الشرط بآخره ; يخرج من أن يكون إيقاعا كما إذا اتصل الاستثناء به ، وقد تحقق اتصال الشرط بالكلام بعد موتها .

وإن قال : إحدى امرأتي طالق ثلاثا ، ولا نية له فذلك إليه يوقعها على أيتهما شاء فإن إيجاب الطلاق في المجهول صحيح بخلاف ما يقوله نفاة القياس ، وحجتنا عليهم الحديث { كل طلاق جائز } ، ثم الأصل أن الإيجاب في المجهول يصح فيما يحتمل التعليق بالشرط ; لأنه كالمعلق بخطر البيان في حق العين ولأن ما هو مبني على الضيق ، وهو [ ص: 123 ] البيع يصح إيجابه في المجهول إذا كان لا يؤدي إلى المنازعة ، وهو ما إذا باع قفيزا من صبرة ففيما يكون مبنيا على السعة ; لأن يصح إيجابه في المجهول كان أولى .

وهذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة هنا ; لأن الزوج ينفرد بالبيان كما ينفرد بالإيقاع فإن قال : أردت هذه حين تكلمت فالقول قوله ; لأنه مالك للإيقاع عليها فيصح بيانه أيضا ، وما في ضميره لا يوقف عليها إلا من جهته فيقبل قوله فيه ، وإن قال : ما نويت واحدة بعينها يقال له : أوقع الآن على أيتهما شئت ; لأن الإيقاع الأول كان على منكر ، وأحكام الطلاق تتقرر في المنكر فلا بد من تعيينه فلهذا يقال له : أوقع على أيتهما شئت .

وإن ماتت إحداهما قبل أن يبين طلقت الباقية ; لأنه إنما كان لا يتبين قبل الموت في إحداهما لمزاحمة الأخرى معها وقد زالت بالموت فإن التي ماتت خرجت من أن تكون محلا للطلاق ، وتعيين الطلاق المبهم في حق العين كابتداء الإيقاع ، فإذا خرجت إحداهما من أن تكون محلا للطلاق تعينت الأخرى ، وإن قال : عنيت الميتة حين تكلمت صدق في حق نفسه حتى يبطل ميراثه عنها ولا يصدق على إبطال الطلاق عن الحية ; لأن الطلاق تعين فيها شرعا فلا يملك صرف الطلاق عنها بقوله .

التالي السابق


الخدمات العلمية