وفي هذه السنة هاجت بدمشق بين المضرية واليمانية ، وكان رأس المضرية الفتنة أبو الهيذام ، واسمه عامر بن عمارة بن خزيم الناعم بن عمرو بن الحارث بن خارجة بن [ ص: 293 ] سنان بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان المري ، أحد فرسان العرب المشهورين .
وكان سبب الفتنة أن عاملا للرشيد بسجستان قتل أخا لأبي الهيذام ، فخرج أبو الهيذام بالشام ، وجمع جمعا عظيما ، وقال يرثي أخاه :
سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا فإن بها ما يدرك الطالب الوترا ولسنا كمن ينعى أخاه بغيره
يعصرها من ماء مقلته عصرا وإنا أناس ما تفيض دموعنا
على هالك منا وإن قصم الظهرا ولكنني أشفي الفؤاد بغارة
ألهب في قطري كتائبها جمرا
ثم إن الرشيد احتال عليه بأخ له كتب إليه فأرغبه ، ثم شد عليه فكتفه ، وأتى به الرشيد ، فمن عليه وأطلقه .
وقيل : كان أول ما هاجت الفتنة في الشام أن رجلا من [ بني ] القين خرج بطعام له يطحنه في الرحا بالبلقاء ، فمر بحائط رجل من لخم أو جذام ، وفيه بطيخ وقثاء ، فتناول منه ، فشتمه صاحبه ، وتضاربا ، وسار القيني ، فجمع صاحب البطيخ قوما من أهل اليمن ليضربوه إذا عاد ، فلما عاد ضربوه وأعانه قوم آخرون ، فقتل رجل من اليمانية ، وطلبوا بدمه ، فاجتمعوا لذلك .
وكان على دمشق حينئذ ، فلما خاف الناس أن يتفاقم ذلك اجتمع أهل الفضل والرؤساء ليصلحوا بينهم ، فأتوا عبد الصمد بن علي بني القين فكلموهم ، فأجابوهم إلى ما طلبوا ، فأتوا اليمانية فكلموهم ، فقالوا : انصرفوا عنا حتى ننظر ، ثم ساروا ، فبيتوا [ بني ] [ ص: 294 ] القين ، فقتلوا منهم ستمائة ، وقيل ثلاثمائة ، فاستنجدت القين قضاعة وسليحا ، فلم ينجدوهم ، فاستنجدت قيسا فأجابوهم ، وساروا معهم إلى الصواليك من أرض البلقاء ، فقتلوا من اليمانية ثمانمائة ، وكثر القتال بينهم فالتقوا مرات .
وعزل عبد الصمد عن دمشق ، واستعمل عليها ، فدام ذلك الشر بينهم نحو سنتين ، والتقوا إبراهيم بن صالح بن علي بالبثنية ، فقتل من اليمانية نحو ثمانمائة ، ثم اصطلحوا بعد شر طويل .
ووفد على إبراهيم بن صالح الرشيد ، وكان ميله مع اليمانية ، فوقع في قيس عند الرشيد ، فاعتذر عنهم عبد الواحد بن بشر النصري من بني نصر ، فقبل عذرهم ، ورجعوا .
واستخلف على إبراهيم بن صالح دمشق ابنه إسحاق ، وكان ميله أيضا مع اليمانية ، فأخذ جماعة من قيس ، فحبسهم ، وضربهم وحلق لحاهم ، فنفر الناس ، ووثب غسان برجل من ولد قيس بن العبسي فقتلوه ، فجاء أخوه إلى ناس من الزواقيل بحوران ، فاستنجدهم فأنجدوه وقتلوا من اليمانية نفرا .
ثم ثارت اليمانية بكليب بن عمرو بن الجنيد بن عبد الرحمن ، وعنده ضيف له ، فقتلوه ، فجاءت أم الغلام بثيابه إلى أبي الهيذام ، فألقتها بين يديه ، فقال : انصرفي حتى ننظر ، فإني لا أخبط خبط العشواء ، حتى يأتي الأمير ونرفع إليه دماءنا ، فإن نظر فيها وإلا فأمير المؤمنين ينظر فيها .
ثم أرسل إسحاق فأحضر أبا الهيذام ، فحضر ، فلم يأذن له ، ثم إن ناسا من الزواقيل قتلوا رجلا من اليمانية ، وقتلت اليمانية رجلا من سليم ، ونهبت أهل تلفياثا ، وهم جيران محارب ، فجاءت محارب إلى أبي الهيذام ، فركب معهم إلى إسحاق في ذلك ، فوعدهم الجميل فرضي .
فلما انصرف أرسل إسحاق إلى اليمانية يغريهم بأبي الهيذام ، فاجتمعوا ، وأتوا أبا الهيذام من باب الجابية ، فخرج إليهم في نفر يسير ، فهزمهم ، واستولى على دمشق ، وأخرج أهل السجون عامة .
ثم إن أهل اليمانية استجمعت ، واستنجدت كلبا وغيرهم فأمدوهم ، وبلغ الخبر أبا الهيذام ، فأرسل إلى المضرية ، فأتته الأمداد وهو يقاتل اليمانية عند باب توما ، فانهزمت اليمانية .
[ ص: 295 ] ( ثم إن اليمانية أتت قرية لقيس عند دمشق ، فأرسل أبو الهيذام إليهم الزواقيل ، فقاتلوهم ، فانهزمت اليمانية ) أيضا ، ثم لقيهم جمع آخر
فانهزموا أيضا ، ثم أتاهم الصريخ : أدركوا باب توما ، فأتوه فقاتلوا اليمانية فانهزمت أيضا ، فهزموهم في يوم واحد أربع مرات ، ثم رجعوا إلى أبي الهيذام .
ثم أرسل إسحاق إلى أبي الهيذام يأمره بالكف ، ففعل ، وأرسل إلى اليمانية : قد كففته عنكم ، فدونكم الرجل فهو غار ، فأتوه من باب شرقي متسللين ، فأتى الصريخ أبا الهيذام ، فركب في فوارس من أهله ، فقاتلهم ، فهزمهم .
ثم بلغه خبر جمع آخر لهم على باب توما ، فأتاهم ، فهزمهم أيضا ، ثم جمعت اليمانية أهل الأردن والخولان وكلبا وغيرهم ، وأتى الخبر أبا الهيذام ، فأرسل من يأتيه بخبرهم ، فلم يقف لهم على خبر في ذلك ، وجاءوا من جهة أخرى كان آمنا منها لبناء فيها .
فلما انتصف النهار ولم ير شيئا فرق أصحابه ، فدخلوا المدينة ، ودخلها معهم ، وخلف طليعة ، فلما رآه إسحاق قد دخل أرسل إلى ذلك البناء فهدمه ، وأمر اليمانية بالعبور ، ففعلوا ، فجاءت الطليعة إلى أبي الهيذام ، فأخبروه الخبر ، وهو عند باب الصغير .
ودخلت اليمانية المدينة وحملوا على أبي الهيذام ، فلم يبرح ، وأمر بعض أصحابه أن يأتي اليمانية من ورائهم ، ففعلوا ، فلما رأتهم اليمانية تنادوا : الكمين الكمين ، وانهزموا ، وأخذ منهم سلاحا وخيلا .
فلما كان مستهل صفر جمع إسحاق الجنود ، فعسكروا عند قصر الحجاج ، وأعلم أبو الهيذام أصحابه ، فجاءته القين وغيرهم ، واجتمعت اليمن إلى إسحاق ، فالتقى بعض العسكر فاقتتلوا ، فانهزمت اليمانية وقتل منهم ونهب أصحاب أبي الهيذام بعض داريا ، وأحرقوا فيها ورجعوا ، وأغار هؤلاء ، فنهبوا وأحرقوا ، واقتتلوا غير مرة ، فانهزمت اليمانية أيضا .
فأرسلت ابنة الضحاك بن رمل السكسكي ، وهي يمانية ، إلى أبي الهيذام تطلب منه الأمان ، فأجابها ، وكتب لها ، ونهب القرى التي لليمانية بنواحي دمشق وأحرقها ، فلما رأت اليمانية ذلك أرسل إليه ابن خارجة الحرشي ، وابن عزة الخشني ، وأتاه الأوزاع والأوصاب ، ومقرا ، وأهل كفر سوسية ، والحميريون ، وغيرهم يطلبون الأمان ، [ ص: 296 ] فآمنهم ، فسكن الناس وأمنوا .
وفرق أبو الهيذام أصحابه ، وبقي في نفر يسير من أهل دمشق ، فطمع فيه إسحاق ، فبذل الأموال للجنود ليواقع أبا الهيذام ، فأرسل العذافر السكسكي في جمع إلى أبي الهيذام ، فقاتلوهم ، فانهزم العذافر .
ودامت الحرب بين أبي الهيذام وبين الجنود من الظهر إلى المساء ، وحملت خيل أبي الهيذام على الجند ، فجالوا ثم تراجعوا وانصرفوا ، وقد جرح منهم أربعمائة ، ولم يقتل منهم أحد ، وذلك نصف صفر .
فلما كان الغد لم يقتتلوا إلى المساء ، فلما كان آخر النهار تقدم إسحاق في الجند ، فقاتلهم عامة الليل ، وهم بالمدينة ، واستمد أبو الهيذام أصحابه ، وأصبحوا من الغد فاقتتلوا والجند في اثني عشر ألفا ، وجاءتهم اليمانية ، وخرج أبو الهيذام من المدينة ، فقال لأصحابه ، وهم قليلون : انزلوا ، فنزلوا ، وقاتلوهم على باب الجابية ، حتى أزالوهم عنه .
ثم إن جمعا من أهل حمص أغاروا على قرية لأبي الهيذام ، فأرسل طائفة من أصحابه إليهم ، فقاتلوهم فانهزم أهل حمص ، وقتل منهم بشر كثير ، وأحرقوا قرى في الغوطة لليمانية ، وأحرقوا داريا ، ثم بقوا نيفا وسبعين يوما لم تكن حرب .
فقدم السندي ، مستهل ربيع الآخر ، في الجنود من عند الرشيد فأتته اليمانية تغريه بأبي الهيذام ، وأرسل أبو الهيذام إليه يخبره أنه على الطاعة ، فأقبل حتى دخل دمشق ، وإسحاق بدار الحجاج .
فلما كان الغد أرسل السندي قائدا في ثلاثة آلاف ، وأخرج إليهم أبو الهيذام ألفا ، فلما رآهم القائد رجع إلى السندي ، فقال : أعط هؤلاء ما أرادوا ، فقد رأيت قوما الموت أحب إليهم من الحياة ، فصالح أبو الهيذام ، وأمن أهل دمشق والناس .
وسار أبو الهيذام إلى حوران ، وأقام السندي بدمشق ثلاثة أيام ، وقدم موسى بن عيسى واليا عليها ، فلما دخلها أقام بها عشرين يوما ، واغتنم غرة أبي الهيذام فأرسل من يأتيه به ، فكبسوا داره ، فخرج هو وابنه خريم وعبد له ، فقاتلوهم ، ونجا منهم وانهزم الجند .
[ ص: 297 ] وسمعت خيل أبي الهيذام ، فجاءته من كل ناحية ، وقصد بصرى ، وقاتل جنود موسى بطرف اللجاة ، فقتل منهم ، وانهزموا ، ومضى أبو الهيذام ، فلما أصبح أتاه خمس فوارس فكلموه ، فأوصى أصحابه بما أراد ، وتركهم ومضى ، وذلك لعشر بقين من رمضان سنة سبع وسبعين ومائة .
( وكان أولئك النفر قد أتوه من عند أخيه يأمره بالكف ، ففعل ، ومضى معهم ، وأمر أصحابه بالتفرق ، وكان آخر الفتنة ، ومات أبو الهيذام سنة اثنتين وثمانين ومائة ) .
هذا ما أردنا ذكره على سبيل الاختصار .
( خريم بضم الخاء المعجمة ، وفتح الراء . وحارثة بالحاء المهملة ، والثاء المثلثة . ونشبة بضم النون ، وسكون الشين المعجمة وبعدها باء موحدة ، وبغيض بالباء الموحدة ، وكسر الغين المعجمة ، وآخره ضاد معجمة . وريث بالراء ، والياء تحتها نقطتان ، وآخره ثاء مثلثة .