الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وقعة الربض بقرطبة

في هذه السنة كانت بقرطبة الوقعة المعروفة بالربض ، وسببها أن الحكم بن هشام الأموي ، صاحبها ، كان كثير التشاغل باللهو والصيد والشرب ، وغير ذلك مما يجانسه ، وكان قد قتل جماعة من أعيان قرطبة ، فكرهه أهلها ، وصاروا يتعرضون لجنده بالأذى والسب ، إلى أن بلغ الأمر بالغوغاء أنهم كانوا ينادون عند انقضاء الأذان : " الصلاة يا مخمور الصلاة " ، وشافهه بعضهم بالقول ، وصفقوا عليه بالأكف ، فشرع في تحصين قرطبة وعمارة أسوارها ، وحفر خنادقها ، وارتبط الخيل على بابه ، واستكثر المماليك ، ورتب جمعا لا يفارقون باب قصره بالسلاح ، فزاد ذلك في حقد أهل قرطبة ، وتيقنوا أنه يفعل ذلك للانتقام منهم .

ثم وضع عليهم عشر الأطعمة كل سنة ، من غير حرص ، فكرهوا ذلك ، ثم عمد إلى عشرة من رؤساء سفهائهم ، فقتلهم وصلبهم ، فهاج لذلك أهل الربض ، وانضاف إلى ذلك أن مملوكا له سلم سيفا إلى صيقل ليصقله ، فمطله ، فأخذ المملوك السيف ، فلم يزل يضرب الصيقل به إلى أن قتله ، وذلك في رمضان من هذه السنة .

فكان أول من شهر السلاح أهل الربض ، واجتمع أهل الأرباض جميعهم بالسلاح ، واجتمع الجند والأمويون والعبيد بالقصر ، وفرق الحكم الخيل والأسلحة ، وجعل [ ص: 462 ] أصحابه كتائب ، ووقع القتال بين الطائفتين فغلبهم أهل الربض ، وأحاطوا بقصره ، فنزل الحكم من أعلى القصر ، ولبس سلاحه ، وركب وحرض الناس ، فقاتلوا بين يديه قتالا شديدا .

ثم أمر ابن عمه عبيد الله ، فثلم في السور ثلمة ، وخرج منها ومعه قطعة من الجيش ، وأتى أهل الربض من وراء ظهورهم ، ولم يعلموا بهم ، فأضرموا النار في الربض ، وانهزم أهله ، وقتلوا مقتلة عظيمة ، وأخرجوا من وجدوا في المنازل والدور ، فأسروهم ، فانتقى من الأسرى ثلاثمائة من وجوههم ، فقتلهم ، وصلبهم منكسين ، وأقام النهب والقتل والحريق والخراب في أرباض قرطبة ثلاثة أيام .

ثم استشار الحكم عبد الكريم بن عبد الواحد بن عبد المغيث ، ولم يكن عنده من يوازيه في قربه ، فأشار عليه بالصفح عنهم والعفو ، وأشار غيره بالقتل ، فقبل قوله ، وأمر فنودي بالأمان على أنه من بقي من أهل الربض بعد ثلاثة أيام قتلناه وصلبناه ، فخرج من بقي بعد ذلك منهم مستخفيا ، وتحملوا على الصعب والذلول خارجين من حضرة قرطبة بنسائهم وأولادهم ، وما خف من أموالهم ، وقعد لهم الجند والفسقة بالمراصد ينهبون ، ومن امتنع عليهم قتلوه .

فلما انقضت الأيام الثلاثة أمر الحكم بكف الأيدي عن حرم الناس ، وجمعهن إلى مكان ، وأمر بهدم الربض القبلي .

وكان بزيع مولى أمية ابن الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشام محبوسا في حبس الدم بقرطبة ، في رجليه قيد ثقيل ، فلما رأى أهل قرطبة قد غلبوا الجند ، سأل الحرس أن يفرجوا له ، فأخذوا عليه العهود إن سلم أن يعود إليهم ، وأطلقوه ، فخرج فقاتل قتالا شديدا لم يكن في الجيش مثله ، فلما انهزم أهل الربض عاد إلى السجن ، فانتهى خبره إلى الحكم ، فأطلقه وأحسن إليه ، ( وقد ذكر بعضهم هذه الوقعة سنة اثنتين ومائتين ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية