ثم إن الأمين أمر علي بن عيسى بن ماهان بالمسير لحرب . المأمون
وكان سبب مسيره ، دون غيره ، أن ذا الرياستين كان له عين عند يرجع إلى قوله ورأيه ، فكتب الفضل بن الربيع ذو الرياستين إلى ذلك الرجل يأمره أن يشير بإنفاذ لحربهم ، وكان مقصوده أن ابن ماهان لما ولي ابن ماهان خراسان أيام الرشيد ، أساء السيرة في أهلها فظلمهم ، فعزله الرشيد لذلك ، ونفر أهل خراسان عنه ، وأبغضوه ، فأراد ذو الرياستين أن يزداد أهل خراسان جدا في محاربة الأمين وأصحابه .
ففعل ذلك الرجل ما أمر ذو الرياستين ، فأمر الأمين بالمسير . ابن ماهان
وقيل : كان سببه أن عليا قال للأمين : إن أهل خراسان كتبوا إليه يذكرون أنه إن قصدهم هو أطاعوه ، وانقادوا له ، وإن كان غيره فلا ! فأمره بالمسير ، وأقطعه كور الجبل كلها : نهاوند ، وهمذان ، وقم ، وأصبهان ، وغير ذلك ، وولاه حربها وخراجها ، وأعطاه الأموال ، وحكمه في الخزائن ، وجهز معه خمسين ألف فارس .
[ ص: 412 ] وكتب إلى أبي دلف القاسم بن ( إدريس بن عيسى ) العجلي ، وهلال بن عبد الله الحضرمي بالانضمام إليه ، وأمده بالأموال والرجال شيئا بعد شيء .
فلما عزم على المسير من بغداذ ركب إلى باب زبيدة أم الأمين ليودعها ، فقالت له : يا علي ! إن أمير المؤمنين [ و ] إن كان ولدي وإليه انتهت شفقتي ، فإني على عبد الله منعطفة مشفقة ، لما يحدث عليه من مكروه وأذى ، وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه [ وغاره على ما في يده ] ، والكريم يأكل لحمه ويميقه غيره ، فاعرف لعبد الله حق ولادته وأخوته ، ولاتجبهه بالكلام ، فإنك لست [ له ] بنظير ، ولا تقتسره اقتسار العبيد ، ولا توهنه بقيد ولا غل ، ولا تمنع عنه جارية ولا خادما ، ولا تعنف عليه في السير ، ولا تساوه في المسير ، ولا تركب قبله ، وخذ بركابه [ إذا ركب ] ، وإن شتمك فاحتمل منه .
ثم دفعت إليه قيدا من فضة ، وقالت : إن صار إليك فقيده بهذا القيد ! فقال لها : سأفعل ( مثل ) ما أمرت .
ثم خرج علي بن عيسى في شعبان ، وركب الأمين يشيعه ، ومعه القواد والجنود ، وذكر مشايخ بغداذ أنهم لم يروا عسكرا أكثر رجالا ، وأفره كراعا ، وأتم عدة وسلاحا - من عسكره . ووصاه الأمين ، وأمره إن قاتله أن يحرص على أسره . المأمون
ثم سار فلقيه القوافل عند جلولاء ، فسألهم فقالوا له : إن طاهرا مقيم بالري يعرض أصحابه ، ويرم آلته ، والأمداد تأتيه من خراسان ، وهو يستعد للقتال ، فيقول : إنما طاهر شوكة من أغصاني ، وما مثل طاهر يتولى الجيوش ، ثم قال لأصحابه : ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح ، والريح العاصف - إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان ، فإن السخال لا تقوى على النطاح ، والبغال لا صبر لها على لقاء الأسد ، وإن [ ص: 413 ] أقام تعرض لحد السيف وأسنة الرماح ، وإذا ( قاربنا الري ودنونا منهم ) فت ذلك في أعضادهم .
ثم أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وطبرستان ، وما والاها من الملوك ، يعدهم الصلات ، وأهدى لهم التيجان والأسورة وغيرها ، وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان ، فأجابوه إلى ذلك ، وسار حتى أتى أول أعمال الري ، وهو قليل الاحتيال ، فقال له جماعة من أصحابه : لو أركبت العيون ، وعملت خندقا لأصحابك ، وبعثت الطلائع لأمنت البيات ، وفعلت الرأي ، فقال : مثل طاهر لا يستعد له ، وإن حاله يئول إلى أمرين : إما [ أن ] يتحصن بالري فيبيته أهلها ، فيكفونا أمره ، وإما أن يرجع ويتركها ، إذا قربت خيلنا منه ، فقالوا له : لو كان عزمه تركها والرجوع لفعل ، فإننا قد قربنا منه فلم يفعل .
ولما صار بينه وبين الري عشرة فراسخ استشار طاهر أصحابه ، وأشاروا عليه أن يقيم بالري ، ويدافع القتال إلى أن يأتيه من خراسان المدد ، وقائد يتولى الأمور دونه ، وقالوا له : إن مقامك [ بمدينة الري ] أرفق بأصحابك [ وبك ] ، وأقدر لهم على الميرة ، وأكن من البرد ، وتعتصم بالبيوت ، وتقدر على المماطلة ، فقال طاهر : إن الرأي ليس ما رأيتم ، إن أهل الري لعلي هائبون ، ومن سطوته مشفقون ، ومعه من أعراب البوادي وصعاليك الجبال والقرايا كثير ، ولست آمن إن أقمت بالري ، أن يثب أهلها بنا خوفا من علي ، وما الرأي إلا أن نسير إليه ، فإن ظفرنا ، وإلا عولنا عليها ، فقاتلناه فيها إلى أن يأتينا مدد .
فنادى طاهر في أصحابه فخرج من الري في أقل من أربعة آلاف فارس ، وعسكر على خمسة فراسخ ، فأتاه أحمد بن هشام ، وكان على شرطة طاهر ، فقال له : إن أتانا علي بن عيسى فقال : أنا عامل أمير المؤمنين ، وأقررنا له بذلك ، فليس لنا أن نحاربه ، فقال طاهر : لم يأتني في ذلك شيء . فقال : دعني وما أريد ، فقال : افعل ! فصعد المنبر ، فخلع محمدا ، ودعا للمأمون بالخلافة ، وساروا عنها ، وقال له بعض أصحابه : إن جندك [ ص: 414 ] قد هابوا هذا الجيش ، فلو أخرت القتال إلى أن يشامهم أصحابك ، ويأنسوا بهم ، ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم ، قال : إني لا أوتى من قلة تجربة وحزم ، إن أصحابي قليل ، والقوم عظيم سوادهم ، كثير عددهم ، فإن أخرت القتال اطلعوا على قلتنا ، واستمالوا من معي برهبة أو رغبة ، فيخذلني أهل الصبر والحفاظ ، ولكن ألف الرجال بالرجال ، وأقحم الخيل على الخيل ، وأعتمد على الطاعة والوفاء ، وأصبر صبر محتسب للخير ، حريص على الفوز بالشهادة ، فإن نصرنا الله فذلك الذي نريده ونرجوه ، وإن يكن الأخرى فلست بأول من قاتل ( وقتل ، وما عند الله أجزل وأفضل .
وقال علي لأصحابه : بادروهم ، فإنهم قليلون ) ، ولو وجدوا حرارة السيوف وطعن الرماح لم يصبروا عليها .
وعبى جنده ميمنة وميسرة وقلبا ، وعبى عشر رايات ، مع كل راية مائة رجل ، وقدمها راية راية ، وجعل بين كل رايتين غلوة سهم ، وأمر أمراءها إذا قاتلت الراية الأولى وطال قتالهم أن تتقدم التي تليها ، وتتأخر هي حتى تستريح ، وجعل أصحاب الجواشن أمام الرايات ، ووقف في شجعان أصحابه .
وعبى طاهر أصحابه كراديس ، وسار بهم يحرضهم ، ويوصيهم ، ويرجيهم .
وهرب من أصحاب طاهر نفر إلى علي ، فجلد بعضهم ، وأهان الباقين ، فكان ذلك مما ألب الباقين على قتاله ، وزحف الناس بعضهم إلى بعض ، فقال أحمد بن هشام لطاهر : ألا تذكر علي بن عيسى البيعة التي أخذها هو علينا للمأمون خاصة معاشر أهل خراسان ؟ قال : أفعل . فأخذ البيعة فعلقها على رمح ، وقام بين الصفين ، وطلب الأمان فأمنه علي بن عيسى ، فقال له : ألا تتقي الله - عز وجل - أليس هذه نسخة البيعة التي [ ص: 415 ] أخذتها أنت خاصة ؟ اتق الله ، فقد بلغت باب قبرك ! فقال علي : من أتاني به فله ألف درهم ، فشتمه أصحاب أحمد ، وخرج من أصحاب علي رجل يقال له حاتم الطائي ، فحمل عليه طاهر ، وأخذ السيف بيديه وضربه ، فصرعه ، فلذلك سمي طاهر ذا اليمينين .
ووثب أهل الري فأغلقوا باب المدينة ، فقال طاهر لأصحابه : اشتغلوا بمن أمامكم عمن خلفكم ، فإنه لا ينجيكم إلا الجد والصدق . ثم اقتتلوا قتالا شديدا ، وحملت ميمنة علي على ميسرة طاهر ، فانهزمت هزيمة منكرة ، وميسرته على ميمنة طاهر ، فأزالتها عن موضعها ، فقال طاهر : اجعلوا جدكم وبأسكم على القلب ، واحملوا حملة خارجية ، فإنكم متى فضضتم منها راية واحدة رجعت أوائلها على أواخرها . فصبر أصحابه صبرا صادقا ، وحملوا على أول رايات القلب ، فهزموهم ، وأكثروا فيهم القتل ، ورجعت الرايات بعضها على بعض ، فانتفضت ميمنة علي .
ورأى ميمنة طاهر وميسرته ما فعل أصحابهم ، فرجعوا على من بإزائهم ، فهزموهم ، وانتهت الهزيمة إلى علي ، فجعل ينادي أصحابه : أين أصحاب الخواص ، والجوائز ، والأسورة ، والأكاليل ، إلى الكرة بعد الفرة ! فرماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله ، قيل كان داود سياه ، وحمل رأسه إلى طاهر ، وشدت يداه إلى رجليه ، وحمل على خشبة إلى طاهر ، فأمر به فألقي في بئر ، فأعتق طاهر من كان عنده من غلمانه شكرا لله - تعالى - وتمت الهزيمة ، ووضع أصحاب طاهر فيهم السيوف ، وتبعوهم فرسخين واقعوهم فيها اثنتي عشرة مرة ، في كل ذلك ينهزم عسكر الأمين ، وأصحاب طاهر يقتلون ويأسرون حتى حال الليل بينهم ، وغنموا غنيمة عظيمة .
ونادى طاهر : من ألقى سلاحه فهو آمن . وطرحوا أسلحتهم ونزلوا عن دوابهم ، ورجع طاهر إلى الري ، وكتب إلى المأمون وذي الرياستين : " بسم الله الرحمن الرحيم ، كتابي إلى أمير المؤمنين ، ورأس علي بن عيسى بين يدي ، وخاتمه في إصبعي ، وجنده مصرفون تحت أمري ، والسلام " .
[ ص: 416 ] فورد الكتاب مع البريد في ثلاثة أيام ، وبينهما نحو من خمسين ومائتي فرسخ ، فدخل ذو الرياستين على ، فهنأه بالفتح ، وأمر الناس ، فدخلوا عليه ، فسلموا عليه بالخلافة ، ثم وصل رأس المأمون علي بعد الكتاب بيومين ، فطيف به في خراسان .
ولما وصل الكتاب بالفتح كان قد جهز المأمون هرثمة في جيش كثير ليسيره نجدة لطاهر ، فأتاه الخبر بالفتح .
وأما الأمين فإنه أتاه نعي علي بن عيسى وهو يصطاد السمك ، فقال للذي أخبره : ويلك دعني ، فإن كوثرا قد اصطاد سمكتين ، وأنا ما صدت شيئا بعد .
ثم بعث الفضل إلى نوفل الخادم ، وهو وكيل على المأمون مكة بالسواد ، والناظر في أمر أولاده ببغداذ ، وكان للمأمون معه ألف ألف درهم كان قد وصله بها الرشيد ، فأخذ جميع ما عنده ، وقبض ضياعه وغلاته ، فقال بعض شعراء بغداذ في ذلك :
أضاع الخلافة غش الوزير وفسق الأمير وجهل المشير ففضل وزير ، وبكر مشير
يريدان ما فيه حتف الأمير وما ذاك إلا طريق غرور
وشر المسالك طرق الغرور
في عدة أبيات تركتها لما فيها من القذف الفاحش ، ولقد عجبت لأبي جعفر حيث ذكرها مع ورعه .
وندم الأمين على نكثه وغدره ، ومشى القواد بعضهم إلى بعض في النصف من شوال ، فاتفقوا على طلب الأرزاق والشغب ، ففعلوا ذلك ، ففرق فيهم مالا كثيرا بعد أن قاتلهم عبد الله بن خازم ، فمنعه الأمين .