ذكر وموته عبد الملك بن صالح بن علي
قد ذكرنا قبض الرشيد على عبد الملك بن صالح ، وحبسه إياه ، فلم يزل محبوسا حتى مات الرشيد ، فأخرجه الأمين من الحبس في ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين [ ومائة ] ، وأحسن إليه ، فشكر عبد الملك ذلك له .
فلما كان من طاهر ما كان دخل عبد الملك على الأمين ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، أرى الناس قد طمعوا فيك ، وجندك قد أعيتهم الهوام ، وأضعفتهم الحروب ، وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوهم ، فإن سيرتهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم ، وهزم بقوة نيته ضعف نصائحهم ونياتهم ، وأهل الشام قوم قد ضرستهم الحرب ، وأدبتهم الشدائد ، وكلهم منقاد ( إلي متنازع إلى طاعتي ) ، وإن وجهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم [ ص: 426 ] جندا يعظم نكايتهم في عدوه .
فولاه الأمين الشام والجزيرة ، وقواه بمال ورجال ، وسيره سيرا حثيثا .
فسار حتى نزل الرقة ، وكاتب رؤساء أهل الشام ، وأهل القوة والجلد والبأس ، فأتوه رئيسا بعد رئيس ، وجماعة بعد جماعة ، فأكرمهم ومناهم ، وخلع عليهم ، وكثر جمعه ، فمرض واشتد مرضه .
ثم إن بعض جنود خراسان المقيمين في عسكر الشام رأى دابة كانت أخذت منه في وقعة سليمان بن أبي جعفر تحت بعض الزواقيل من أهل الشام أيضا ، فتعلق بها ، واجتمع جماعة من الزواقيل والجند ، فتضاربوا ، واجتمعت الأبناء وتألبوا ، وأتوا الزواقيل وهم غارون ، فوضعوا فيهم السيوف ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وتنادى الزواقيل ، فركبوا خيولهم ، ونشبت الحرب بينهم .
وبلغ ذلك عبد الملك ، فوجه إليهم يأمرهم بالكف ، فلم يفعلوا ، واقتتلوا يومهم ذلك قتالا شديدا ، وأكثرت الأبناء القتل في الزواقيل ، فأخبر عبد الملك بذلك ، وكان مريضا مدنفا ، فضرب بيده على يده ، وقال : واذلاه ! تستضام العرب في دورها وبلادها ! فغضب من كان أمسك عن الشر من الأبناء ، وتفاقم الأمر ، وقام بأمر الأبناء الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان ، وأصبح الزواقيل فاجتمعوا بالرقة ، واجتمع الأبناء وأهل خراسان بالرافقة .
وقام رجل من أهل حمص فقال : يا أهل حمص ! الهرب أهون من العطب ، والموت أهون من الذل ، إنكم قد بعدتم عن بلادكم ، ترجون الكثرة بعد القلة ، والعزة بعد الذلة ، ألا وفي الشر وقعتم ، وفي حومة الموت أنختم ، إن المنايا في شوارب المسودة وقلانسهم ، النفير النفير ، قبل أن ينقطع السبيل ، وينزل الأمر الجليل ، ويفوت المطلب ، ويعسر المهرب .
وقام رجل من كلب في غرز ناقته ، فقال نحوا من ذلك ، ثم قال : ألا وإني سائر ، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي ! ثم سار فسار معه عامة أهل الشام .
[ ص: 427 ] وأحرقت الزواقيل ما كان التجار قد جمعوه من الأعلاف ، وأقبل نصر بن شبث العقيلي ، ثم حمل وأصحابه ، فقاتل قتالا شديدا ، وصبر الجند لهم ، وكان أكثر القتل في الزواقيل لكثير بن قادرة ، وأبي الفيل ، وداود بن موسى بن عيسى الخراساني ، وانهزمت الزواقيل ، وكان على حاميتهم يومئذ نصر بن شبث ، وعمرو بن عبد العزيز السلمي ، والعباس بن زفر الكلابي .
ثم توفي عبد الملك بن صالح بالرقة في هذه السنة .