المبحث الثالث: العمل أساس قيمة المنتج
شغل الاقتصاديون بكيفية تحديد قيمة سلعة ما أو منتج ما، وقدمت نظريات متعددة عن ذلك عرفت باسم نظريات القيمة. ويمكن القول: إن نظرية القيمة تعتبر أول نظرية اقتصادية، أو على الأقل من أوائل النظريات الاقتصادية التي شغل بها الاقتصاديون.
بل يمكن القول بيقين أكبر: إنها أول نظرية اقتصادية اكتمل بناؤها، وإنها من أكثر النظريات في تطورها المستمر. نشير في هـذا السياق إلى آدم سميث الذي يعتبر المؤسس لعلم الاقتصاد الرأسمالي. فلقد أعطى أولوية لموضوع القيمة في كتابه ثروة الشعوب. وبعد آدم سميث جاء دافيد ريكاردو المؤسس الثاني لعلم الاقتصاد الرأسمالي فأعطى له نفس الأهمية. يرى آدم سميث أن قيمة السلعة تتحدد بالعمل الذي يبذل فيها
[1]
وجاء ريكاردو وتساءل هـل المقصود كمية العمل أو قيمة العمل؟ وكان رأيه أن قيمة أية سلعة [ ص: 93 ] تتحدد بالكمية النسبية من العمل الذي يكون ضروريا لإنتاجها [2]
ونقل كارل ماركس نظرية القيمة إلى بؤرة الصراع المذهبي بين الرأسمالية والاشتراكية، فأصبحت نظرية القيمة عنده مربوطة بنظرية التراكم الرأسمالي، وبنظرية الصراع الطبقي، وبنظرية التفسير الاقتصادي أو المادي للتاريخ، وبنظرية التطور الاقتصادي. يرى ماركس أن قيمة السلعة تتحدد بكمية العمل التي دخلت فيها، ويعبر عن ذلك بوقت العمل الضروري اجتماعيا.. وقد مد ماركس تحليله إلى قيمة العمل فرأى أن قيمة قوة العمل تتحدد بنفس الطريقة التي تتحدد بها قيمة أي سلعة أخرى، لذلك تتحدد بوقت العمل الضروري اجتماعيا، المجسد في وسائل الكفاف.. ويعتقد ماركس أن وسائل الكفاف كافية إلى الدرجة التي تسمح باستمرار بقاء العامل، وأن تنتج له زيادة عائلية [3]
هذا تحليل ماركس للقيمة، بما فيها قيمة العمل، في إطار الرأسمالية. رتب على تحليله ما عرف باسم فائض القيمة، وهو يظهر بسبب أن الرأسمالي يشتري قوة العمل بقيمة وسائل الكفاف التي لزمت لإنتاجها، بينما يشغل العامل ساعات أطول من الوقت اللازم لإنتاج قيمة وسائل الكفاف التي تلزم لإيجاد قوة العمل. والفرق بين الاثنين هـو فائض القيمة الذي أنتجه العامل ولكن الرأسمالي هـو الذي يحصل عليه. [ ص: 94 ]
يتبين من هـذه المناقشة أن دور العمل في تحديد قيمة السلعة، ثم كيفية تحديد قيمة العمل نفسه، تعتبر في بؤرة الصراع المذهبي بين الرأسمالية والاشتراكية.
وإذا كنا نعتقد أن ابن خلدون هـو مؤسس علم الاقتصاد، ليس في طبيعته الرأسمالية أو الاشتراكية، وإنما علم الاقتصاد في طبيعة إسلامية، فإن المساهمة التي قدمها هـذا العالم المسلم عن دور العمل في تحديد القيمة، من الأسباب التي تجعلنا نقول: بأنه مؤسس علم الاقتصاد (الإسلامي ) . نعرض رأيه في هـذا الموضوع، ونستهدف أن نتعرف على مساهمته في نظرية القيمة، هـذا من جانب، ومن جانب آخر نستهدف بيان قيمة العمل.
كتب ابن خلدون في مقدمته عن دور العمل في القيمة في فصل بعنوان: في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما، وأن الكسب هـو قيمة الأعمال البشرية. نقتبس من هـذا الفصل الفقرات التي تتعلق بموضوع القيمة.
النص:
"اعلم أن الإنسان مفتقر بالطبع إلى مايقوته ويمونه في حالاته وأطواره، من لدن نشوئه إلى أشده، إلى كبره، والله الغني وأنتم الفقراء، والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان، وامتن به عليه في غير ما آية من كتابه، فقال: ( الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار ) (إبراهيم:32) ، وكثير من شواهده ويد الإنسان مبسوطة على [ ص: 95 ] العالم وما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف، وأيدي البشر منتشرة فهي مشتركة في ذلك، وما حصل عليه يد هـذا امتنع عن الآخر إلا بعوض، وما آتاه الله منها الكسب إنما يكون بالسعي في الاقتناء والقصد إلى التحصيل، فلا بد في الرزق من سعي وعمل، ولو في تناوله وابتغائه من وجوهه،
قال تعالى: ( فابتغوا عند الله الرزق ) (العنكبوت:17) ،
والسعي إليه إنما يكون بأقدار الله تعالى وإلهامه، فالكل من عند الله، فلابد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول. فاعلم أن ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع فالمفاد المقتني منه قيمة عمله، وهو القصد القنية، إذ ليس هـناك إلا العمل وليس بمقصود بنفسه للقنية، وقد يكون مع الصنائع في بعضها غيرها، مثل التجارة والحياكة معهما الخشب والغزل، إلا أن العمل فيهما أكثر، فقيمته أكثر، وإن كان من غير الصنائع فلا بد من قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به، إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها، وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها، فتجعل له حصة من القيمة عظمت أو صغرت، وقد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين الناس ) [4]
وتحليل النص لخدمة موضوع العمل والقيمة يفيد ما يلي:
يبدأ ابن خلدون كتابته عن الرزق والكسب بتقرير أن الموارد الاقتصادية التي خلقها الله سبحانه وتعالى مشتركة بين الناس جميعا. وأن [ ص: 96 ] ما يدخـل مـنها في ملكـية شـخص معين وهي ملكيـة استخلاف لا تكون إلا بعمل يبذله الشخص، وما يمتلكه الشخص لا يؤخذ منه إلا بعوض.
المـورد الاقتصـادي لا يصبح صالحا للانتفاع به إلا بعمل يبذله الإنسان (... فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول ) .
بعد مناقشة العمل والكسب وغيرهما يصل ابن خلدون للنتيجة التالية:
فالمفاد المقتـنى منه قيـمة عمـله، وهـو القصـد بالقنـية إذ ليـس هـنـاك إلا العمل .. هـذه الفقرة هـي التي يستدل بها على أن ابن خلدون يرى أن العمل هـو أسـاس القيـمة، أي أن السلعـة تتحدد قيمتـها بما بذل فيـها مـن عمل.
مواصلة تحليل النص السابق تفيد أن ابن خلدون لا يرى أن العمل هـو المصدر الوحيد للقيمة. لقد كتب: فلا بد من قيمة ذلك المفاد من دخول قيمة العمل الذي حصلت به، إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها، وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها، فتجعل له حصة من القيمة، عظمت أو صغرت إن هـذا يعني أن رأي ابن خلدون هـو أن العمل أساس القيمة، وليس رأيه هـو: العمل هـو المحدد الوحيد للقيمة.
ملخص رأي ابن خلدون هـو: أن العمل هـو المحدد الأساس لقيمة أي منتج. وابن خلدون بهذا يعبر عن الفكر الإسلامي. إن دراسة بعض العقود الإسلامية مثل المضاربة والإجارة والمزارعة وغيرها من العقود المعروفة في الفقه، يعطي النتيجة التالية: تتحدد القيمة بناء على مساهمة كل من العمل ورأس المال وملكية الموارد الطبيعية. [ ص: 97 ]
يظهر تفوق الفكر الإسلامي في موضوع القيمة، والذي عرض ابن خلدون نموذجا له، عند مقابلته بالفكر الاقتصادي الوضعي الذي بدأ بآدم سميت . ونظريات القيمة في هـذا الفكر تناوبتها تطورات، ونقطة الارتكاز الرئيسة في هـذه التطورات تتمثل في رفض الرأي القائل: بأن العمل هـو المحدد الوحيد لقيمة السلعة.