المقدمة
المشتغلون بالإسلاميات يواجهون مشكلة قد تصل أحيانا إلى حد أن تكون ظاهرة، تتمثل هـذه الظاهرة في أن بعض المسلمين -وهم على إسلام- يرفضون أن يوظف ما جاء به الإسلام لإدارة الحياة وحل مشاكلها، بل يصل الأمر أحيانا إلى أنهم يتهمون من يقدم الحلول الإسلامية بالماضوية، وفي سياق ذلك يدعون أن اهتمامهم هـم بالمستقبل والمستقبليات. لسنا في مجـال مناقشـة وتـفـنيد الـمـاضوية وما عليها وما وراءها، ونكتفي بمجرد الإشارة إليها، ونجد أن المفيد أن نتجه مباشرة إلى بيان كيف أن علاج الإسلام للفقر هـو دراسة أصيلة في المستقبليات، ويتوافر فيه كل مقومات وعناصر الدراسة المستقبلية.
وصف دراسة بالماضوية أو المستقبلية أو تصنيفها على هـذا النحو، يجب أن يتأسس على ذاتية الأفكار التي جاءت فيها وليس على التاريخ الذي تنسب إليه الدراسة. هـذا الذي نقوله هـو المنهج العلمي في أي مكان، غربا أو شرقا، ونستطيع أن نعطي عشرات بل مئات الأمثلة على ذلك في عالمنا المعاصر وخاصة العالم الغربي. النظريات العاملة على الفكر الغربى والموجهة له، كلها نشأت في الماضي: نظرية هـيجل ، نظرية دارون ، نظرية ماركس ، بل ونظرية أنيشتين في النسبية . هـذه نظريات حاكمة للفكر الغربي المعاصر مع أنها نشأت في الماضي وبعضها [ ص: 31 ] ذو ماض بعيد، ولم نسمع أحدا قال: إن الارتباط بها هـو ارتباط بالماضوية. بل إن الفكر الغربى يدخل إلى مستقبله انطلاقا من هـذه النظريات.
بالنسبة لنا نحن المسلمين، فإن الإسلام هـو نظريتنا العامة، ومن حقنا أن ندخل إلى مستقـبلنا انطـلاقا مـنه. فلـماذا نتـهم بالـماضـويـة ونحن لا نفعل أكثر مما يفعله غيرنا؟!
بشأن الماضوية والمستقبلية، نحيل إلى العولمة المعاصرة. العالم الغربي ينظر إلى العولمة على أنها النظام الذي يجب أن يخضع له العالم الآن وفي المستقبل، أي أن العولمة كلها داخلة في المستقبليات. صمويل هـانتينجتون من أكبر منظري العولمة المعاصرة، بل ومن أكبر الرواد فيها، يؤصل لها انطلاقا من التراث الماضي للعالم الغربي.
المنهج الذي أسس به هـانتينجتون للعولمة المعاصرة، ينطلق فيه من الماضي ليخطط للمستقبل، ومع ذلك لم نسمع أحدا يتهمه بالماضوية، بل إنه بالمساهمة التي قدمها عن العولمة يصنف في الغرب على أنه من أكبر علماء المستقبليات.
تقتضي العدالة أن نعامل نحن المسلمين بنفس المنهج عندما نرجع إلى تراثنا الإسلامي نؤسس عليه دخولنا إلى المستقبل، ولا يحق لأحد أن [ ص: 32 ] يتهمنا بالماضوية، كما لا نقبل ذلك.
الحديث عن الماضوية والمستقبلية -بشأن مؤلفنا عن علاج الإسلام للفقر- يمثل فرصة لأن نقول رأينا في هـذه القضية: إن كل أمم الأرض، صغرت الأمة أو كبرت، في عالمنا المعاصر، تأخذ الحق في أن تحتفظ بخصوصيتها وهي تخطط لمستقبلها، إلا أمة الإسلام. فإنها إن فعلت ذلك تتهم بالماضوية وبالتعصب وبالانغلاق بل وبالتطرف لأنها تريد العودة لأصولها. الصين أوضح الأمثلة للأمم التي تدخل إلى المستقبل محتفظة بخصوصيتها انطلاقا من تراثها، ولم نسمع من اتهمها بالماضوية، لم يصدر هـذا الاتهام من أبنائها ولا من غير أبنائها. لذلك فإننا نرى أن الاتهام بالماضوية مقصود به منع أمتنا الإسلامية أن تعود إلى إسلامها ومنعها أن تصنع مستقبلها به. ونقول بيقين: إن منع المسلمين من أن يصنعوا مستقبلهم بالإسلام هـو منع أن يكون لهم مستقبل، بل هـو منع أن يكون لهم وجود في المستقبل.
إعمالا للمنهج العلمي الذي يعمله غيرنا ويقبل منهم، فإننا نضع فرضية هـي أن المنهج الذي نقدمه عن علاج الإسلام للفقر تتوافر فيه كل مقومات الدراسة المستقبلية، هـذه هـي فرضيتنا التي نعمل على إثباتها في هـذه الدراسة، وإثبات هـذه الفرضية يثبت أمرين، الأول: أن الإسلاميات هـي دراسة في المستقبليات، والأمر الثاني: أن على المسلمين [ ص: 33 ] أن يخططوا لمستقبلهم على أساس الإسلام، لأنه بجانب صلاحيته وكفاءته فإنه يحفظ لهم خصوصيتهم بين أمم الأرض.
حديثنا عن هـذا المؤلف والدراسات المستقبلية يستدعي أن نشير في عبارة موجزة إلى الدراسات المستقبلية وذلك لبيان هـذا الربط الذي نعمله بين كتابنا والدراسات المستقبلية.
المستقبل هـو شاغل الإنسان منذ أن بدأ يفكر، سواء وضع فكره على ورقة وأصبحت فكرة مقروءة أو ظلت مجرد فكرة في عقله ينشغل بها ذاتيا أو في حواراته مع الآخرين.
الدراسات المستقبلية في القرن العشرين شهدت اهتماما، خاصة في نصفه الثاني، وكان ذلك بسبب الصراع بين القوتين اللتين تنازعتا السيطرة على العالم، وهما القوة الأمريكية والقوة السوفيتية، والتي ترجمت إلى المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي . ظهور الاهتمام بالدراسات المستقبلية بين هـاتين القوتين هـو تعبير عن ظاهرة تاريخية، وهو أن الصراع بين قوى عالمية متنافسة يكون بيئة طبيعية للاهتمام بالمستقبليات.
شهدت السنوات الأخيرة من القرن العشرين تطورا كميا وكيفيا في الدراسات المستقبلية، فمع رصد الكثير من الكتابات حول الدراسات [ ص: 34 ] المستقبلية فإنه رصد معها أنه بعد أن كان الاهتمام بهذا النوع من الدراسة طابعه العام البحوث الفردية فإنه تحول وأصبح طابعه العام البحوث الجماعية التي تشغل بها مؤسسات. أهم مساهمتين يشار إليهما في هـذا السياق هـما المساهمة التي تقدمها جامعة الأمم المتحدة في طوكيو ، وهي تدير المشروع الألفي الذي مهمته استشراف المستقبل.. وفي إطار هـذا المشروع يصدر تقرير سنوي باسم (حالة المستقبل ) . المساهمة الثانية التي يشار إليها هـي المساهمة التي قدمتها منظمة (اليونسكو ) ذلك بالمؤتمر الذي عقدته في عام 1999م، وكان موضوعه (حوارات القرن الحادي والعشرين ) .
من الأمور التي تستحق الإشارة في المساهمتين هـو تصحيح موضوع الدراسات المستقبلية، وأنها بجانب أنها تشمل ما يتعلق بالتقنيات (التقدم التكنولوجي ) ، فإنها تشمل أيضا ما يتعلق بالنظم الاجتماعية، ويدخل فيها ما يتعلق بالاقتصاد والسياسة والعلاقات بين فئات المجتمع والاستفادة من التنمية، بل وصل الأمر إلى إدخال (الأخلاق ) في الدراسات المستقبلية. وقد ظهر هـذا البعد على وجه الخصوص في تقرير جامعة الأمم المتحدة الصادر في عام 1999م.
تضمنت المساهمتان ما يدخل مباشرة الدراسة عن الفقر في إطار الدراسات المستقبلية. فتقرير جامعة الأمم المتحدة الصادر في 1999 [ ص: 35 ] تكلم عن تحقيق التنمية المستـمرة والـتي يـستـفيد مـنـها كل البشر، كما تكلم عن الضوابط الأخلاقية للسوق، حيث تفرض العولمة نظام السوق. أما مؤتمر اليونسكو فمن القضايا التي ناقشها مشكلة الغذاء، وهل يكفي سكان العالم، كما ناقش مشكلة العمل.
خلاصة القول بشأن الدراسات المستقبلية: إنه يدخل فيها ما يتعلق بالنظم الاقتصادية وخاصة موضوع الفقر. لذلك فإننا ونحن نقدم منهج الإسلام للقضاء على الفقر فإننا نعتبرها داخلة في إطار الدراسات المستقبلية، وذلك لأنها تتضمن خطة يضمن تطبيقها مكافحة الفقر في المستقبل. [ ص: 36 ]