الفصل الأول
منهج الإسلام للقضاء على الفقر
مداخل أساسية
أشكال الفقر في المجتمعات البشرية
يمكن القول: إن الفقر يمثل القضية الاجتماعية الكبرى التي واجهها الإنسان ولا يزال يواجهها منذ أن بدأت المجتمعات البشرية. أخذت ظاهرة الفقر أشكالا متعددة، الشكل التقليدي لها هـو وجود فقير في مقابل غني، والمعيار في هـذا الشكل هـو الثروة ومعها الدخل، وهو معيار اقتصادي. وجود حر في مقابل عبد، شكل آخر من أشكال الفقر، الذي يوجد فيه معياران: المعيار الاقتصادي وهو الفقر في الدخل والثروة، والمعيار السياسى وهو فقدان الإرادة السـيـاسيـة، فليس للعبـد إرادة سيـاسية، فإرادة سيده تصبح إرادته. في ظل النظام الإقطاعي ظهر شكل آخر من أشكال الفقر، وهو رقيق الأرض
(قن الأرض ) في مقابل الإقطاعي. وفي رقيق الأرض لا يكون العامل الاقتصـادي هـو الأقـوى وإنما فقـدان الإرادة السيـاسـية هـو العـامل الظـاهر وهو الأقوى، ويجيء تبعا العامل الاقتصادي.
عند الحديث عن الفقر، فإن المعنى القريب الذي يرد على الفكر هـو وجود فرد فقـير في مقـابل فرد غني. هـذه هـي الصـورة التي يكثر الحديث حولها. إلا أنه توجد صور أخرى للفقر، من ذلك وجود جماعة فقيرة في مقابل [ ص: 37 ] جماعة غنية، وأشهر ما عرف عن هـذه الصورة جماعة المنبوذين في الهند ، وإذا كانت هـذه هـي الصورة الأشهر فإنها ليست الصورة الوحيدة، فكل مجتمع بشري وجدت فيه جماعات عرفت بفقرها، لأسباب كثيرة متنوعة. احتلال دولة لدولة أخرى يتضمن صورة من صور الفقر، حيث تستهدف الدولة التي قامت بالاحتلال إفقار الدولة التي وقع عليها الاحتلال. ويتحقق هـذا الفقر في مجالات متعددة، منها فرض التخصص في إنتاج المنتجات الأولية الرخيصة، ومنها الحرمان من التعليم وخاصة الفني، ومنها فرض التزامات مالية على مواطني الدولة التي ابتليت بالاحتلال لتحقيق مصالح الدولة التي تمكنت من الاحتلال.
وللتعرف على ذلك يقترح مراجعة تاريخ احتلال الدول الأوروبية لمصر : الإغريق ، والرومان ، والفرنسيين ، والإنجليز . ويقترح على وجه الخصوص دراسة السياسات الاقتصادية والتعليمية التي فرضتها بريطانيا على مصر بعد احتلالها في عام 1882م.
النظام الاقتصادي المعاصر، أحد عناصر العولمة المعاصرة التي فرضت على العالم منذ تسعينيات القرن العشرين، أوجد صورة جديدة للفقر. هـذا النظام يتبنى نظرية أطلق عليها نظرية20-.80 وتعني أن 20% من سكان العالم يكونون بالقوة أغنياءه، وأن 80% وهم الباقون يفرض عليهم الفقر. تشمل الفئة الغنية سكان البلاد المتقدمة وأفرادا محدودين من البلاد الفقيرة. هـذه آخر صورة للفقر تواجهها المجتمعات البشرية، وهي صورة شديدة التعقيد [ ص: 38 ] وبالتالي صعبة العلاج، وذلك لأسباب كثيرة منها:
(أ ) إنه فقر تفرضه قوى عالمية تملك تفوقا ساحقا في المجالات التقنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية.
(ب ) الفئات الغنية في البلاد الفقيرة تستمد قوتها من غناها ومن سيطرتها على نظام الحكم، وبجانب ذلك فإنها تستمد قوتها أيضا من ارتباطاتها الدولية التي توفرها لها العولمة المعاصرة.
(ج ) التعقيد والصعوبة في مواجهة فقر العولمة المعاصرة لا يقتصر على أسباب من جانب الأغنياء وإنما أيضا لذلك أسبابه من جانب الفقراء. ثورة الاتصالات والتي تتيح للفرد العادي أن يعرف كل مظاهر الحياة في العالم فجرت عند الفقراء ثورة تطلعات طبقية مشروعة وغير مشروعة. وهذا أمر قد يحمل عنصر تخدير للفئات الفقيرة.
(د ) التجربة التي تمت مع الاشتراكية تركت آثارا سلبية عميقة في النفس البشرية. هـذه الآثار تجعل فئات واسعة من الفقراء قد تقبل فقرا مع العولمة الرأسمالية المعاصرة وذلك بدلا من الوقوع مرة ثانية فريسة للاشتراكية التي سحقت البشر في المجتمعات التي طبقت فيها.
(هـ ) العولمة المعاصرة تتبنى الرأي القائل: بشيء قليل من التغذية المخدرة يمكن السيطرة على الفقراء الذين يمثلون 80% من سكان العالم [1] . هـذا الرأي هـو أحد مظاهر التعقيد في الفقر الذي تفرضه العولمة المعاصرة [ ص: 39 ] وأحد أسباب صعوبة العلاج. العولمة المعاصرة تستخدم تقنياتها الفائقة المتطورة وهي تقنيات في الأفكار وفي الوسائل وذلك لتخدير الفقراء. مشاهدة الواقع المعاصر تجعلنا نقول: إن هـذا الرأي قد وضع موضع التطبيق، لقد طبق التخدير إما بالمواد المخدرة المعروفة، وإما بالأفكار المخدرة المعروفة أيضا، وإما بالإغراق في وسائل التسلية الخادعة.