الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الثاني: عناصر أساس في العمل والأجر

        قيمة العمل وتوظيفها في منهج الإسلام للقضاء على الفقر، هـي موضوع هـذا الجزء. ولقد حددت الدراسة في البداية أنه يتعامل مع قيمة العمل على أنه يدخل فيها الأجر وغيره. يعني هـذا أنه ينظر إلى مصطلح قيمة العمل على أنه مفهوم واسع ينطوي تحته عناصر كثيرة منها الأجر. ونحاول هـنا أن نعرض لعناصر أساس في موضوع العمل والأجر في الإسلام. [ ص: 82 ]

        الأجر ومستوى الكفاية

        نصوص ومواقف

        من القرآن: ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) (الطلاق:6) .

        ومن السنة: ( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه )

        [1] ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره ) [2]

        ومن آثار كبار الصحابة:

        أشار أبو يوسف قال: (حدثني محمد بن محمد بن أبي جمعة قال: حدثنا أشياخنا، " أن أبا عبيدة بن الجراح قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم : دنست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي أنه يعتب على أمير المؤمنين لأنه استخدم بعض الصحابة في جباية الخراج، وربما يغريهم المال فتمتد إليه أيديهم بغير حق، فقال له عمر: يا أبا عبيدة إذا لم أستعن بأهل الدين على سلامة ديني، فبمن أستعين؟ قال: أما إن فعلت فأغنهم بالعمالة عن الخيانة.. يـقـول: إذا استعملتهم عـلـى شـيء فأجـزل لـهم في العـطـاء والـرزق ولا يحتاجون "

        [3] [ ص: 83 ]

        من هـذه النصوص والمواقف يستنتج ما يلي:

        - العمل معتبر ذو قيمة اقتصادية يستحق باذله مكافأة مادية، بل إن بعض الفقهاء- مثل ابن تيمية رحمه الله يستخدم اصطلاح (تسعير الأعمال ) ، أي أن العمل كأية سلعة أخرى له ثمن (أجر ) [4]

        - المستأجر يلزمه توفية الأجير أجره ما دام قد بذل العمل المتفق عليه.

        - يضع الإسلام إطارا عاما لمقدار الأجر، وهو: أن يكون الأجر يكفي الرزق بحيث لا يحتاج العامل.

        - كذلك من تعاليم الإسلام حسن المعاملة، والرفق، ومراعاة الطـاقة والقـدرة الإنسانية.

        ولعل من أشهر التطبيقات لتقدير الأجر، ما ذكره الماوردي عن تقدير عطاء الجند [5]

        إن تقدير العطاء معتبر بالكفاية، حتى يستغني بها الجندي عن التماس مادة تقطعه عن حماية البيضة. والكفاية معتبرة من ثلاثة أوجه:

        - عدد من يعول من الذراري.

        - عدد ما يربطه من الخيل والظهر.

        - الموضع الذي يحله في الغلاء والرخص. [ ص: 84 ]

        فتقدر كفايته في نفقته وكسوته العامة فيكون هـذا المقدار في عطائه ثم تعرض حاله كل عام، فإذا زادت رواتبه الماسة زيد وإن نقصت نقص.

        ويؤسس الماوردي تقديره لعطاء الجند على أساس إعطائه حد الكفاية.. ونلاحظ هـذا المصطلح (الكفاية ) وليس الكفاف الذي يعرف في دراسة الأجور اقتصاديا. والفارق كبير بين حد الكفاية وحد الكفاف.

        ويهمنا بصفة خاصة أن نوضح المسائل التالية في الأجر وتقديره:

        1- تقدير الأجر (تحديده ) لا يخضع لقوى السوق وحدها (العرض والطلب ) وإنما يراعى فيه كفاية العامل، أي ما يكفيه.

        2- يراعى في الأجر الإعداد الذي يقوم به العامل ليؤدي العمل، ويتبين هـذا من أنه روعي فيه ما يربطه الجندي من خيل، والخيل تمثل الإعداد اللازم للمقاتل، فإذا كان هـناك عمل تلزم له دراسة وتعلم وتدريب فإن هـذه الدراسة تكون موضع اعتبار عند تقدير الأجر [6]

        3-تحسين الكفاية باستمرار عن طريق الدورات التدريبية لرفع الكفاءة الإنتاجية للعامل، فهي بجانب أنها من مسئوليات العامل فهي أيضا من مسئوليات المجتمع (صاحب العمل مثلا) . الماوردي يرى أنه إذا استهلك سلاح الجندي، بمعنى العجز عن العمل، يعوض عنه [7] [ ص: 85 ]

        وبالقياس عليه، فإنه إذا احتاج العامل للتدريب على الفن الإنتاجي الحديث فينبغي أن توفر له الوسائل لتحصيل الفنون الجديدة.

        4-الكفاية التي يبنى عليها تقدير الأجر لا ينظر فيها للعامل وحده، وإنما ينظر فيها إلى العامل وما يتحمله من مسئوليات أسرية.

        السوق وتحديد الأجر

        نحاول في هـذه الفقرة أن نتعرف على دور السوق في تحديد الأجر في الإسلام، وذلك من خلال عرض عناصر تتيح إعطاء نتيجة في هـذا الصدد. ونشير ابتداء إلى أن الاقتصاديين يرون أن العمل سلعة كأية سلعة أخرى، لها ثمن وأن هـذا الثمن يتحدد بتفاعل قوى السوق، وهي قوى العرض والطلب، يعني ذلك أن قوى السوق هـي وحدها العوامل الفاعلة في تحديد الأجر.

        - دراسات سابقة

        بعض الكتاب المسلمين يرون أن (العلاقات بين العمال ورؤسائهم ) ، (أصحاب الأعمال ) ، لا يجوز أن تترك بعيدا عن هـيمنة القانون الصارمة [8]

        هناك من يرى أن الإسلام يجيز الأخذ بالقانون الاقتصادي في العرض والطلب، كمعيار سليم في تقدير الثمن السوقي للسلعة، ولكن على شرط أن يسري هـذا القانون سريانا تلقائيا

        [9] [ ص: 86 ]

        الرأي الذي تتبناه دراستنا

        دور السوق في تحديد الأجر في الاقتصاد الإسلامي يفهم على النحو الآتي:

        (أ ) يضع الإسلام بعض القواعد التي تنظم الأجر قبل المرحلة التى يبدأ فيها عمل السوق، ومنها أن يكون الأجر بالنسبة للعامل مقدرا بالكفاية.وهذه القواعد الإسلامية معلنة مسبقا للعمال وأصحاب الأعمال، فعلى أصحاب الأعمال أن يأخذوا في اعتبارهم أن الأجر لن ينزل عن حد الكفاية المعتبرة شرعا، بصرف النظر عن اعتبارات العرض والطلب (قوى السوق ) .

        ( ب ) المرحلة التالية في تحديد الأجر:

        يترك الإسلام بعد ذلك لقوى السوق أن تتفاعل لتحديد مستوى أجر العامل مع مرعاة الشرط السابق وهو (الكفاية ) . ويستدل على هـذا من تحليل بعض العقود الإسلامية المعروفة مثل المزارعة والمساقة والمضاربة، حيث يشترك عنصر العمل مع غيره من عناصر الإنتاج الأخرى مثل الطبيعة ورأس المال. ولم يشترط الإسلام حصة معينة للعامل من الناتج، وإنما ترك تحديد هـذه الحصة لقوى السوق تعمل دورها في التحديد.

        هذا الأمر موضع اتفاق بين الفقهاء، وإن لم يستعملوا هـذا المصطلح الاقتصادي الجديد وهو دور السوق في تحديد الأجر، إلا أن أحكامهم المبنية على النصوص الإسلامية تؤدي هـذا المعنى.

        ( جـ ) المرحلة التالية في تحديد الأجر:

        لا يترك الإسلام النتائج التي تعطيها قوى السوق، وإنما يتبعها بضوابط، منها: القواعد التي تنظم ساعات [ ص: 87 ] العمل، والتي تنظم المعاملة بين الأطرف المشتركة في الإنتاج، وهم العمال وأصحاب الأعمال، مثل: الإتقان، والعمل في حدود الطاقة، وبيئة العمل.

        - مفهوم (خاص) للبطالة

        الأدبيات الاقتصادية عن البطالة كثيرة ومتنوعة، وقد اهتمت هـذه الأدبيات بتحديد أنواع البطالة، ومنها: البطالة السافرة، والبطالة الاحتكاكية، والبطالة الموسمية، والبطالة الإجبارية، والبطالة المقنعة.

        ولقد حمل الفكر الإسلامي مفهوما للبطالة بحيث يمكن القول: إن هـذا المفهوم يؤصل لنوع جديد من أنـواع البطالة. هـذا المفهوم عرضه الفقيه محمد بن عبد الرحمن الوصابي اليمني (712هـ -782هـ ) في كتابه: (البركة في فضل السعي والحركة ) .. نعرض رأيه في الفقرات التالية، مع العمل على استنتاج بعض عناصر اقتصادية



        [10]

        (أ ) يعرف البطالة بأنها الكسل عن العمل لكسب الحلال، أو الكسل عن القيام بأمر الآخرة. هـذا التعريف يعكس خصائص في الاقتصاد الإسلامي. ذلك أن المجتمع الذي يعيش في ظل تطبيق هـذا الاقتصاد، حين تظهر فيه البطالة، فإن تشريعات الإسلام يعمل من خلالها على علاج البطالة، بواسطة المسئولية عن دخول المتعطلين إلى أنشطة اقتصادية. [ ص: 88 ]

        ولهذا، فحين لا ينهض المتعطل إلى هـذه الأنشطة ويعمل عليها، فإن تعطله يكون نوعا من الكسل.

        (ب ) الربط بين البطالة والكسل يساعد في وضع سياسات لعلاج البطالة.. إنه يساعد في مواجـهة هـذه الظاهرة المدمرة اجتماعيا واقتصاديا. ذلك أن هـذا الربط بين البطالة والكسل يجعل مسئولية علاج البطالة تقع أول ما تقع على عاتق المتعطل نفسه، لأن الأمر يبدأ بأن بطالته هـي بسبب كسله.

        (ج ) أشير في هـذا الصدد إلى ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما ما جاءه متعطل يطلب الصدقة، فباع صلى الله عليه وسلم ما عند الرجل، ووجهه إلى نشاط اقتصادي منتج حقيقة [11] هذه القصة عن الرسول صلى الله عليه وسلم هي دليل على أن الإسلام [ ص: 89 ] يرى أن المتعطل عليه أن يتحمل مسئولية تعطله، وأن تعطله هـو نوع من الكسل، وهذا إذا لم تكن هـناك ظروف قهرية فرضت عليه التعطل.

        الأنشطة الاقتصادية والتفاضل بينها

        الأنشطة الاقتصادية والتفاضل بينها، موضوع شغل به الفكر الاقتصادي الوضعي في قرون سابقة، وفي هـذا السياق ظهر مصطلح نشاط منتج، ونشاط عقيم. طوال العصور الوسطى، كان الفكر الاقتصادي يرى أن التجارة نشاط غير منتج، وفي مراحل تالية مع مدرسة الطبيعيين اعتبرت الزراعة هـي النشاط الاقتصادي الوحيد الذي يخلق القيمة.

        واعتبار نشاط منتج ونشاط غير منتج، أو نشاط عقيم، ونشاط غير عقيم أو نشاط يضيف إلى القيمة ونشاط لا يضيف إلى القيمة، هـذا الأمر كله يعكس نفسه في (قيمة العمل ) . والذي نعنيه بقيمة العمل في هـذا السياق، هـو تقويم العمل وتقويم من يعمل.. بعبارة أخرى نظرة الناس إلى العمل. ولمزيد من التوضيح نشير إلى أن هـذا الأمر قد يحمل (قيمة سلبية ) بشأن نوع معين من الأعمال. لهذا السبب خصصنا فقرة لهذا الموضوع وذلك في إطار الحديث عن قيمة العمل في الإسلام. وسوف نعرض بإيجاز لبعض الأصول الإسلامية مع محاولة استنتاج عناصر اقتصادية:

        أعطى بعض الفقهاء تفسيرا اقتصاديا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اختلاف أمتي رحمة ) [12] وقال: إن المعنى هـو اختلاف الناس في الحرف. [ ص: 90 ]

        وقد ناقش بعض الفقهاء فكرة الأفضلية بين الأنشطة الاقتصادية. والمتفق عليه بين الفقهاء أن القيام بالمكاسب الثلاثة من فروض الكفايات.

        ويرى إمام الحرمين والنووي وغيرهما أن القيام بفرض الكفاية أفضل من القيام بفرض العين؛ لأن فرض العين كالصلاة والصيام إذا تركه أثم وحده، وإذ فعله أسقط الإثم عن نفسه، أما فرض الكفاية فإذا فعله أسقط الإثم عن نفسه، وعن جميع المسلمين، وقام مقام المسلمين أجمع، فلا شك في رجحانه.

        والتفسير الاقتصادي الذي أعطي لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اختلاف أمتي رحمة ) ، يعتبر رؤية جديدة لهذا الحديث؛ لأنه كان المألوف تفسير هـذا الحديث تفسيرا يتعلق بتعدد المذاهب الإسلامية.

        وبناء على هـذا التفسير الاقتصادي لهذا الحديث، نذكر مايلى:

        أن البلاد الإسلامية حين تخصصت في إنتاج المنتجات الأولية أصبحت بعيدة ومحرومة من الرحمة التي أشار إليها الرسول في حديثه. ولو أن البلاد الإسلاميـة نوعت اقتصاديـاتها بين زراعـة وتجـارة وصـناعة، ونوعـت أيضا كل نشاط من هـذه الأنشطة الثلاثة، لو فعلت كل ذلك، لكانت في رحمة، ومن صورها الرحمة الاقتصادية.. وهذه الرحمة الاقتصادية من صورها القضاء على الفقر.

        والفقهاء الذين ناقشوا الأفضلية بين الأنشطة الاقتصادية، بعضهم يرى أفضلية القيام بالزراعة، ومنهم من يرى أفضليه القيام بالتجارة. واستدل كل منهم على ما قاله بأحاديث وردت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 91 ]

        ما أراه أن هـذه الأحاديث كلها لها أهميتها الاقتصادية، وأنه لا تناقض بينها. ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث برسالة صالحة لكل زمان ومكان، وقد يجيء زمان أو مكان يكون مطلوبا فيه الحث على الزراعة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث يحث فيها على الزراعة، وقد يجيء زمان أو مكان يكون مطلوبا فيه الحث على التجارة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث فيها حث على التجارة.

        وهكذا، فإن ورود أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم يفضل بعضها التجارة ويفضل بعضها الزراعة لا يعتبر من قبيل التناقض، وإنما لهذا دلالة وأهمية اقتصادية. وهكذا يكون رفع التناقض بين هـذه الأحاديث في أن كلا منها مرهون بملابساته الاقتصادية [13]

        وبناء على المناقشة السابقة، يمكن استنتاج ما يلي:

        أ- المناقشة بين الفـقـهاء عن الأفضلية في الأنشطة الاقتصادية لم يترتب عليها حكم (قيمي ) على نوع من الأعمال، بحيث يهمل الناس هـذا النشاط الاقتصادي.

        ب- آراء الفقهاء عن أن القيام بكل الأنشطة الاقتصادية هـو من فروض الكفاية يمثل أقوى إلزام لأن يتخصص أفراد المجتمع، بحيث يستوعب تخصصهم كل الأنشطة الاقتصادية اللازمة للمجتمع. [ ص: 92 ]

        ج - آراء الفقهاء في توجيه الأحاديث الواردة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن الأنشطة الاقتصادية يضع أساسا لسياسات اقتصادية متلائمة مع تطور المجتمع بحيث تستوعب المتغيرات المستجدة.

        د - النتائج الثلاث تصب نفسها في (قيمة العمل) ، وبالتالي تصب في تقدم المجتمع.. وكنتيجة تعمل ضمن منهج الإسلام للقضاء على الفقر.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية