الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الأول: صحة العقيدة الاقتصادية

        تمهيد

        صحة العقيدة الاقتصادية، تعتبر الأسلوب الأول لمواجهة الفقر في منهج الإسـلام. والعقيـدة من الألفـاظ الكلية، وهي تدل على مفهـوم عـام لكل ما يعـقد المـرء عليه عزمه ويجعـله مناط تصميمه مهما كلفه ذلك من أمر. أما المعنى الاصطلاحي للعقيدة فهو: أنها مجموعة من قضايا الحق المسلمة بالعقل والسمع والفطرة يعقد عليها الإنسان قلبه، ويثني عليها صدره جازما بصحتها وقاطعا بوجودها وثبوتها. ويمكن أن يوضح معنى العقيدة بما قاله سعد الدين التفتازاني : اعلم أن الأحكام الشرعية منها ما يتعلق بكيفية العمل وتسمى نوعية وعملية، ومنها ما يتعلق بالاعتقاد وتسمى أصلية [ ص: 43 ] واعتقادية. العلم المتعلق بالأولى يسمى علم الشرائع والأحكام، وبالثانية علم التوحيد والصفات، ويقال عنه علم أصول الدين [1] .

        في إطار هـذا المعنى للعقيدة، تكون العناصر الداخلة في صحة العقيدة الاقتصادية كثيرة، إلا أننا نختار عناصر ثلاثة نوظفها في علاج الفقر، هـي:

        - الفهم الصحيح للقضاء والقدر بشأن الفقر.

        - الفهم الصحيح للتوازن بين الموارد الاقتصادية وحاجات البشر.

        - الفهم الصحيح لأصل الملكية: ملكية الاستخلاف.

        1- الفهم الصحيح للقضاء والقدر بشأن الفقر

        قد يعتقد بعض الفقراء أن الفقر الواقع عليهم هـو قضاء وقدر من الله سبحانه وتعالى لا ينفك عنهم، ويلازمهم طوال حياتهم هـذا الاعتقاد إذا وجد فإنه قد يؤدي بالفقير ألا يحاول علاج الفقر الواقع عليه. هـذه القضية فطن إليها أحد المفكرين المسلمين منذ ستة قرون سبقت هـو أحمد بن علي الدلجي [2] ناقشها في كتابه: الفلاكة والمفلوكون (الفقروالفقراء ) . وتمثل [ ص: 44 ] الآراء التي عرضها الدلجي تصورا للفهم الصحيح للقضاء والقدر بشأن الفقر، لذلك قد يكون من المفيد أن نعرض لهذه الآراء:

        خصـص الدلجـي الفصـل الثـاني مـن كتـابـه لمـوضـوع: خـلق الأعمـال وما يتعلق به. وقد كتب في بيان سبب بحث هـذا الموضوع ما يلي: الغرض من هـذا الفصل إقامة الحجة على المفلوكين وقطع معاذيرهم وإلجامهم عن التعلق بالقضاء والقدر، وأنه متى نعيت عليهم فلاكتهم أو نودي عليهم بها كان ذلك لأنهم إما فاعلوها استقلالا أو مشاركة... [3] .

        الفصل الأول في كتاب الدلجي عن تحقيق معنى مفلوك، أي تعريف الفقير. بعد هـذا التعريف يدخل مباشرة في الفصل الثاني في مناقشة قضية القضاء والقدر وتعلق الفقراء (الباطل ) بها. يدل هـذا على أن الدلجي يعتبر مناقشة هـذه القضية الواجب الأول في موضوع دراسة الفقر والفقراء، بعبارة أخرى: إن دراسة الفقر تبدأ بهذا الموضوع، وهو إبطال تعلق الفقراء بالقضاء والقدر، وبالتالي إبطال استسلامهم للحالة التي هـم عليها من الفقر.

        ولإبطال تعلق الفقير بالقضاء والقدر، ولإثبات مسئوليته عن فقره، عرض الدلجي الأدلة التالية

        [4]

        - الفقير فاعل فقره -أي متسبب فيه- إما استقلالا أو مشاركة.

        - يتفق العلماء على أن القضاء والقدر لا يحتج به. [ ص: 45 ]

        - حركة العبد للسعي تجامع التعلق بالأسباب ولا تنافيها.

        - الاكتساب لإحياء النفس ولغير ذلك واجب.

        - ( الرسول صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: اعقلها وتوكل )

        [5]

        - ليس من شرط التوكل ترك الأسباب، فإن ذلك حرام في الشرع ولا يتقرب إلى الله بمحارمه.

        - الله سبحانه وتعالى قال: ( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم. ) [النساء:71]

        - وجود المال في اليدين لا في القلب، ودخول الدنيا على العبد وهو خارج عنها، لا ينافي الزهد.

        الأدلة التي عرضها الدلجي تبطل تعلق الفقراء بالقضاء والقدر لتبرير استسلامهم للفقر. يمثل هـذا العنصر الأول في صحة العقيدة الاقتصادية. هـذا العنصر له أهميته، بل له الأهمية الأولى بين الأساليب التي يواجه بها الفقر، أو التي يعالج بها الفقر. وذلك لأنه يبدأ بعلاج الفقر بتصحيح عقيدة الفقير، ولأنه يجعل العلاج من الفقير نفسه، لأنه يحمله المسئولية، وهي مسئولية تنبع من العقيدة.

        هذا الأمر له أهمية في حياتنا المعاصرة، ذلك أن هـناك من يفسر تخلف المسلمين بارتباطهم بالقضاء والقدر وقعودهم عن العمل، والدلجي يبطل الفهم الخاطئ في هـذه القضية. [ ص: 46 ]

        تصحيح عقيدة الفقير بشأن القضاء والقدر له توظيفاته الاقتصادية المتعددة. من ذلك أنه يدفع الفقير للعمل ليقضي على فقره، ويدفعه لحب المـال فيسـعى لجـمعه وامتـلاكه، ويدفعه لاعتـبار العنصر المادي في الحـياة فلا يهمله.

        2- الفهم الصحيح للتوازن بين الموارد الاقتصادية وحاجات البشر

        مشكلة الندرة، يمكن القول عنها: إنها مسلمة من المسلمات التي يعتقد فيها الاقتصاديون. وهي تعني أن الحاجات الاقتصادية غير محدودة بينما الموارد الاقتصادية التي تستخدم لإشباعها محدودة. ولقد وصل الأمر إلى حد أن جمهرة الاقتصاديين يعتبرون أن الندرة تمثل موضوع علم الاقتصاد.

        عكست مشكلة الندرة نفسها في نظريات اقتصادية كثيرة، أهمها نظرية مالتس في السكان التي تتأسس على أن الموارد الاقتصادية غير كافية لتوفير الغذاء للعنصر البشري. وقد نادت هـذه النظرية بضرورة التخلص من الزيادة بنوعين من الوسائل، الوسائل السالبة التي تمنع وصول بشر جدد، والوسائل الموجبة التي بها يتم التخلص من جزء من البشر الموجودين وهي الحروب والأوبئة والمجاعات. وتتضمن هـذه النظرية منع إعطاء إعانات للفقراء.

        والنظام الرأسمالي وهو يرتبط بمشكلة الندرة، ارتبط معها بفكرة ملازمة لها وهي تعارض المصالح، وقد وصل الأمر بهذه الفكرة إلى أنها أخذت اسم نظرية عدم تناسق المصالح.

        قادت مشكلة الندرة وتوابعها إلى صبغ علم الاقتصاد بصبغة تشاؤمية. [ ص: 47 ]

        ولا يرفض الاقتصاديون هـذا الوصـف لأنه في رأيهم يعبر عن الواقع. ولا شك أن هـذا كله عكس نفسه في سياسات مواجهة الفقر، ليس انعكاسا إيجابيـا إنما انعكاسا سلبيا إلى حد الإحساس بأن الاقتصاد تبنى الرأي القائل: الخير للفقير أن يموت جوعا.

        ومن الأخطار المترتبة على مشكلة الندرة، أن يؤمن بها من هـو مسئول عن مواجهة مشكلة الفقر، عالم الاقتصاد أو المسئول السياسي، ولا شك أن التسليم بمشكلة الندرة يحدد طبيعة قراره وسياساته للقضاء على الفقر، إذ كيف يعالجه مع أنه يؤمن بأنه فوق إمكانية الموارد الاقتصادية المتاحة؟!

        وتعني مشكلة الندرة أن الموارد الاقتصادية غير كافية لإشباع الحاجات الاقتصادية الواقعة عليها. والأمر على هـذا النحو يصطدم بالعقيدة الإسلامية،

        ذلك أن المسلم يؤمن بقول الله سبحانه وتعالى : ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ) (هود:6 ) ..

        فقضية الندرة بناء على ذلك ينبغي أن تعرض كقضية لها ارتباطها بالعقيدة.

        الموارد الاقتصادية التي خلقها الله سبحانه وتعالى وكفايتها وملاءمتها من حيث خصائصها موضوع فيه أدبيات إسلامية كثيرة، وهي أدبيات تتأسس على ما وعد الله به سبحانه وتعالى من ضمان الرزق لكل دابة.

        لذلك قد يكون من المناسب إجراء مناقشة اقتصادية لثلاث آيات جاءت في سورة الحجر، وهي تعمل مباشرة على موضوع التوازن بالمعنى العام، [ ص: 48 ] ويدخل فيه التوازن بين الموارد والحاجات.

        يقول سبحانه وتعالى ( والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) (الحجر:19-21 ) .

        التحليل الاقتصادي للنص القرآني

        (أ ) ( وأنبتنا فيها من كل شيء موزون : )

        يسع النص التوازنات التالية: التوازن بين الحاجات والموارد الاقتصادية.. التوازن بين الموارد الاقتصادية بعضها مع بعض.. والتوازن بين حاجات الفرد الاقتصادية بعضها مع بعض.

        وبناء على هـذا، فإن النص القرآني يشمل أنواع التوازن كلها. بينما علم الاقتصاد يناقش نوعا واحـدا من التـوازن هـو التوازن بين الحـاجات والموارد، ولا يناقشه باعتبار أن التوازن يتحقق، إنما يناقشه على اعتبار أن الموارد غير كافية لإشباع الحاجات، أي أن العلاقة هـي علاقة اختلال وليست علاقة توازن.

        (ب ) ( وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين: )

        يخبر الله سبحانه وتعالى في هـذا النص القرآنى أنه أودع في الأرض موارد اقتصادية كافية لإشباع من يملك:

        ( لكم فيها معايش ) ، وأيضـا لإشـباع من لا يملك: ( ومن لستم له برازقين ) [ ص: 49 ] ومن باب المقابلة، نعرف أن الفكر الاقتصادي العلماني ممثلا في نظرية مالتس وغيرها من النظريات الاقتصادية يرتبط بفكرة أن الموارد الاقتصـادية غيـر كافيـة لإشبـاع حاجات كل سكان الأرض، ولذلك لا بد من التضحية أو التخلـص من بعضـهم. ولعـل مما يجـب التذكيـر به عـلى وجه الخصوص، أن العولمة المعاصرة في شقها الاقتصادي تتبنى هـذه النظرية، بل وتضعها موضع التطبيق.

        (ج ) ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) :

        يخبر الله سبحانه وتعالى فى هـذا النص القرآني أن الموارد الاقتصادية (وهي داخلة في كل شيء ) سوف تزيد بالقدر الذي يقدره الله تعالى. يعني ذلك أن الموارد الاقتصادية متزايدة.

        وبربط هـذا النص بالنص الأول: ( وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ) ،

        يمكن استنتاج أن الموارد الاقتصادية تزيد بقدر زيادة حاجات البشر. ويعني ذلك أن مشكلة الندرة غير واردة حتى في المستقبل.

        استنتاج

        الآيات السابقة قـاطـعة في نفـي مشكـلة الندرة في الـزمن الحـالي، وفي الأزمنة المقبلة، ويترتب على ذلك أن الموارد الاقتصادية المتاحة كافية لإشباع كل الحـاجـات. ومع الإيمان المطـلق بذلك، إلا أنه تظل هـناك قضية هـي كيفية حصول كل فرد على نصيبه من هـذه الموارد. وحل هـذه القضية مربوط بالآتي: [ ص: 50 ]

        (أ) عمل الإنسان

        لا بد أن يقدم كل إنسان العمل اللازم الذي يعطيه الحق في الحصول على نصيبه من الموارد.

        (ب) النظم التي يخضع الإنسان نفسه لها

        هذه النظم هـي المسئولة عن أن فردا ما يحصل على موارد اقتصادية أكبر من العمل الذي قدمه، في مقابل فرد آخر لا يحصل من الموارد الاقتصادية بالقدر الذي بذله من عمل.

        (جـ) كفاية الموارد

        الإيمان بهذا واجب.. وقد تصبح غير كافية، وذلك بسبب تصرفات البشر، ومنها الإسراف، وتبديد الموارد، وتلويث الموارد، وغير ذلك من التصرفات.

        (د) محدودية وقصور السياسات العلمانية

        التي توضع للتعامل مع مشكلة الفقر، لأنها محكومة بما يؤمن به الاقتصاديون من أن الموارد الاقتصادية غير كافية لإشباع حاجات كل الأفراد. وفي مقابل ذلك، فإن السياسات الإسلامية لعلاج الفقر تنطلق من قاعدة إيمانية هـي أن الله سبحانه وتعالى خلق موارد اقتصادية متوازنة مع الحاجات الواقعة عليها. هـذه القاعدة الإيمانية تمثل العقيدة الاقتصادية الصحيحة التي تجعلنا نؤمن بأن القضاء على الفقر ممكن بالموارد المتاحة لنا.

        نستطيع أن نطور هـذه النتيجة إلى الآتي: الإيمان بأن الله سبحانه خلق موارد اقتصادية متوازنة مع الحاجات الواقعة عليها، شرط ضروري لوضع سياسات اقتصادية قادرة على علاج مشكلة الفقر. هـذا الأمر هـو الذي جعلناه عنوانا لهذه الفقرة، وهو صحة العقيدة الاقتصادية. [ ص: 51 ]

        3- الفهم الصحيح لأصل الملكية: ملكية الاستخلاف

        لا يمكن دراسة أسباب الفقر ووسائل علاجه بانفصال عن نمط الملكية السائد في المجتمع، وذلك لأسباب كثيرة منها:

        (أ ) يوزع الدخل المتولد في الاقتصاد على عوامل الإنتاج التى ساهمت في إنتاجه، وهي تجمع في العمل ورأس المال والأرض. والأخيران يعبران عن الملكية، وعلى هـذا تكون الملكية قسيم العمل في توزيع الدخل.

        (ب ) أهمية الملكية في موضوع الفقر لا تقتصر على أنها مصدر للحصول على جزء من الدخل المتولد في الاقتصاد، وإنما تتعدى ذلك، فهي من المحددات الرئيسة لنمط العلاقات الاجتماعية بين فئات المجتمع. ومن المسلم به أن العلاقات الاجتماعية لها دورها في الحصول على فرص عمل أحسن، وفرص نشاط اقتصادي أوسع، وهكذا. وهذا وغيره يصب نفسه في وجود فقير وغني بالمجتمع.

        (جـ ) الحديث عن الملكية ينصرف عادة إلى الملكية الخاصة، إلا أن الملكية العامة حقيـقة، حتى في ظل النظام الرأسمالى . وسياسات علاج الفـقر لا يمكن أن تهمل الملكية العامة.

        ويرتبط الاقتصاد الإسلامي بأصل للملكية هـو مبدأ الاستخلاف. وهو مبدأ حاكم على الملكية الخاصة وعلى الملكية العامة. وقبل تقديم مناقشة عن هـذا المبدأ وعن آثاره في علاج الفقر، نرى ضرورة الإشارة إلى خطأ يمكن أن يقع في دراسة هـذا الموضوع وهو الاعتقاد أن ملكية الاستخلاف تمثل نوعا [ ص: 52 ] ثالثا من أنواع الملكية.. إن هـذا المبدأ هـو الإطار الذي يحكم الملكية، من حيث استثمارها، ومن حيث العائد الذي يتحقق منها.

        ويجد مبدأ الاستخلاف دليله في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى . من هـذه الآيات:

        - ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) (البقرة:30 ) .

        - ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ) (الأنعام:165 ) .

        - ( هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ) (فاطر:39 ) .

        - ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ) (النور:55 ) .

        جاء في تفسير معنى خليفة: (الخليفة في الأصل الذي يخلف غيره أو يكون بدلا عنه في عمل يعمله، والمراد من الخليفة هـنا المعنى المجازي، وهو الذي يتولى عملا يريده المستخلف مثل الوكيل والوصي، أي جاعل في الأرض مديرا يعمل ما نريده في الأرض... فالخليفة هـنا هـو الذي يخلف صاحب الشيء في التصرف في مملوكاته ) [6] ويحدد مبدأ الاستخلاف طبيعة الملكية في الإسلام، سواء كانت ملكية خاصة أو عامة. إنه يجعل هـذه الملكية تستمد مشروعيتها من تشريعات الله [ ص: 53 ] سبحانه وتعالى . وغرس هـذا المبدأ في نفس المالك، فرد أو دولة يجعله يتصرف على أنه وكيل على ما في يده، وبموجب هـذه الوكالة فإنه يلتزم بالتشريعات المنظمة للملكية، من حيث الوسائل التي يكتسبها بها، ومن حيث الطرق التي يستثمرها بها، ومن حيث الالتزامات (الاجتماعية ) التي يكلف بها بسبب هـذه الملكية، مثل الزكاة.

        ولمبدأ الاستخلاف رباطه الوثيق مع موضوع مواجهة الفقر، لعلاجه والقضاء عليه. إنه يوجد البيئة العقيدية التي يقبل فيها من بيده الملكية أن يوظف هـذه الملكية في معالجة مشكلات المجتمع. هـذا الأمر عبر عنه الفقهاء بقولهم: للملكية وظيفة اجتماعية.

        ولقد جاء الإسلام بتشريعات متنوعة يستهدف بها علاج الفقر والقضاء عليه. ومبدأ الاستخلاف يعطي الغطاء الرقابي لتنفيذ هـذه التشريعات، وذلك لأن المخاطب بهذه التشريعات مستخلف على ما في يده، وهذا يوجد نوعا من الرقابة، وهي رقابة ذاتية إيمانية، وهي أرقى أنواع الرقابة.

        و قد يواجه المجتمع حالات استثنائية تخلق له مشكلات خاصة.. ومبدأ الاستخلاف يجعل المالك يشارك بإيجابية في متطلبات كل مرحلة.

        استنتاج:

        المناقشة السابقة عن مبدأ الاستخلاف يستنتج منها ما يلي:

        (أ ) مواجهة الفقر لعلاجه والقضاء عليه تتطلب بيئة عقيدية صحيحة تحكم الملكية.. ومبدأ الاستخلاف يوفر هـذه البيئة العقيدية. [ ص: 54 ]

        (ب ) بناء على هـذه النتيجة، تقبل نتيجة أخرى، هـي أن مبدأ الاستخلاف يعتبر من أساليب القضاء على الفقر في الإسلام.. هـذا المبدأ وإن لم يمكن ترجمته في أسلوب مادي إلا أنه يهيمن على كل الأساليب المادية التي تواجه بها مشكلة الفقر.

        (ج ) يعطي مبدأ الاستخلاف الأساليب الإسلامية لمواجهة الفقر صبغة تجعلها متميزة. هـذا التميز يجيء من انطلاق هـذه الأساليب من مبدأ مهيمن عقيديا على من تقع عليه الالتزامات للمشاركة في مواجهة الفقر. ويمكن أن يوضح هـذا المعنى بالآتي: إن المستخلف يلزم المستخلف بأن يجعل جزءا مما استخلف فيه للقضاء على الفقر. هـذا هـو التميز الذي يتحقق في الأساليب الإسلامية للقضاء على الفقر.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية