الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثالثا: الرأي الفقهي في الإجهاض

لعله من الأوفق أن يكون الحديث عن ماهية الجنين، وعلاقة ذلك ببدء خلقه في رحم أمه من قبل الخالق جل وعلا، قبل الحديث عن الرأي الفقهي في الإجهاض؛ لأن ذلك سوف يلقي الضوء على حرمة أو حلية الإجهاض، على طلاقة تلك الحرمة أو تلك الحلية، أو تقييد ذلك بوقت محدد يسع الحلية، ومثله من الوقت يكون فعل الإجهاض فيه محرما. وبتعبير آخر: هـل حرمة الإجهاض -عند من يقول بها- تبدأ فور ما يسمى بالإلقاح، وهو الفعل الذي تكتسب فيه البويضة قوة حيوية جديدة تمكنها من العيش والانقسام، كما يقول أهل الطب؟ أم أن فعل الإجهاض مباح تحت أي ظرف كان، حتى تاريخ معين من بدء الإلقاح أو الإخصاب، وبحلول هـذا التاريخ تبدأ الحرمة الشرعية، فلا يتاح الإجهاض بعد ذلك إلا للضرورات؟





[1] وجواب ذلك يستطيع المرء أن يظفر به من واقع الفقه الإسلامي [ ص: 107 ] والقاموس اللغوي، فيفاد أمران؛ الأول: ماهية الجنين. والثاني: الحكم الفقهي لإسقاطه، وربط ذلك الحكم بزمن تكون الجنين في الرحم، وفق ما يلي:

أ - تعريف الجنين في اللغة

في اللغة: كل شيء ستر عنك، فقد جن عنك، وفي آيات الذكر الحكيم: ( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هـذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ) (الأنعام: 76) ، والمعنى: أن الليل ستر سيدنا إبراهيم ، وقد سمي الجن بذلك؛ لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار، وسمي الجنين في بطن أمه كذلك؛ لاختفائه في بطن أمه واستتاره عن الأعين ما دام في بطن أمـه. والجمع أجنـة، ومنه قول ربنا سبحانه: ( وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ) (النجم: 35) ، وقد يجمع على أجنن [2] .

وعرفته دائرة المعارف، بأنه: الولد ما دام في بطن أمه مستترا. وأعطته الرتبة الرابعة في التكوين الخلقي؛ لأنه يكون أولا نطفة، ثم يصير علقة، ثم مضغة، ثم جنينا [3] [ ص: 108 ]

ب - ماهية الجنين في الفقه الإسلامي

أهل التفسير يرون في تفسير قوله تعالى: ( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ) (الحج: 5) ، أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم من تراب، ثم نسله من النطفة، وهو الـمني، وسمي نطفة لقلته، ثم من علقة، وهي القطعة الصغيرة من الدم، ثم من مضغة، ويعنون به الجزء المخثر من الدم؛ وسمي بذلك لأنه يشبه اللقمة التي مضغت. والرجوع إلى أصل الاشتقاق يفيد أن النطفة والعلقة والمضغة مخلقة (صارت خلقا تاما) ؛ لأن الكل خلق الله.

أما الرجوع إلى التصوير الذي هـو منتهى الخلقة، كما قال سبحانه وتعالى : ( ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) (المـؤمنـون: 14) ، فذلك ما قاله ابن زيد : إنها التي صورت برأس ويدين ورجلين، وبينهما حالات...إلخ.

وما يمكن للمرء قوله: إن تصريف النطفة بين الأحوال داخل الرحم ونقلها من صفة إلى صفة حتى تكون خلقا وحملا يعني أن النطفة جنين [4] ؛ لأنها تشغل الرحم. أما ترى علماء الفرائض يعتبرون ذلك حملا، ثم ولدا، باعتبار المآل، فيورثونه من التركة.

وهذا النظر السابق للمفسرين عن ماهية الجنين يتسق مع قول أكثر الفقهاء، لا سيما المالكية منهم؛ لأن الجنين عند الإمام مالك [ ص: 109 ] وأصحابه: هـو كل ما طرحته المرأة، مما يعلم أنه ولد؛ سواء أكان تام الخلقة، أو كان مضغة، أو علقة، أو دما. ويرى ابن القاسم وغيره من المالكية مسئولية الجاني عن الدم المجتمع الذي إذا صب عليه الماء الحار لا يذوب، لا الدم الذي إذا صب عليـه المـاء الحـار يذوب؛ لأن هـذا لا شيء فيه [5] .

أما الجنين عند الحنفية والشافعية فهو ما فارق العلقة والمضغة، وبدأت عليه دلائل التخلق. وذات المفهوم إذا كان مضغة ولم يتبين فيها شيء من خلق فشهد ثقات بأنه مبدأ خلق آدمي، لو بقي في الرحم لتصور [6] .

وقد جاء في هـامش (الأم) للإمام الشافعي رحمه الله تعالى قول الـمزني ونصه: (...أقل ما يكون به جنينا: أن يفارق المضغة والعلقة، حتى يتبين منه شيء من خلق آدمي؛ أصبع، أو ظفر، أو عين، أو ما أشبه ذلك) [7] .

وهذا القول مفاده أن الاستعمال الحقيقي للجنين يكون في مرحلة ما بعد المضغة، لكن يرد على هـذا الرأي ما نقل عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى من أن المرأة إذا ألقت مضغة، لم يتبين فيها شيء من الخلقة، فشهد الثقـات بأنه مبـدأ خلق آدمي، لو بقي لتصور، فمسئولية الجاني قائمة لا تنفك عنه [8] . وهذا [ ص: 110 ] القول أيضا يمثل الرأي الثاني للحنابلة في ماهية الجنين [9] .

وهكذا يكون الجنين عند أهل الفقه: كل ما طرحته المرأة، مما يعلم أنه ولد، ولو باعتبار المآل. وفي صحيح السنة ما يؤكد ذلك: ( فألقت جنينا ميتا ) . وفي لفظ للبخاري : ( فطرحت جنينها ) . فأنت ترى أن النص لم يحدد الجنين بوصف معين، كما لم يحدده بزمن معين.

جـ - بدء الحياة في الجنين

هذا القول السابق يلزمنا عرض ما قاله أهل العلم في بدء التخلق عند الجنين؛ حيث ربطوا ذلك بجواز الإجهاض من عدمه، فما لم يتخلق بعد في الرحم يجوز إسقاطه، حيث المني حال نزوله لم يتهيأ للحياة بوجه، بخلافه بعد استقراره في الرحم، وأخذه في مبادئ التخلق، أما ما تخلق فلا يجوز إسقاطه، وإن أسقطه جان لزمته المسئولية؛ لأنه أوقع جناية على ما هـو نفس من وجه دون وجه، بتعبير الحنفية .

كما أنها مسئولية ذات شقين؛ الأول: جنائي. والثاني: مدني. كما يتبين مما يلي إن شاء الله تعالى، وينبغي عرض النصوص ذات العلاقة بالمسألة أو بعضها على الأقل، وتعليق أهل العلم عليها، ومن ثم نصل لرأيهم في بدء تخلق الجنين [10] ، ومن هـذه النصوص قول الحق سبحانه:

1 - ( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين [ ص: 111 ] لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ) (الحج: 5) .

2 - ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) (المؤمنون: 12-14) .

وقد جاء في صحيح السنة:

3 - ( عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات؛ بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد. ) [11] 4 - جاء في صحيح البخاري: ( إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما على حالها لا تتغير ) . [12] .

ومجمل ما قاله أهل العلم، تعليقا وشرحا وتفسيرا لهذه النصوص، مما له علاقة مباشرة في بدء التخلق عند الجنين، هـو:

أ - الحديث الأخير الذي أورده البخاري في صحيحه، والذي يفيد بقاء النطفة في الرحم أربعين يوما على حالها دون تغير علق [ ص: 112 ] عليه ابن حجر قائلا: (إن في سنده ضعفا وانقطاعا) [13] . ومقتضى ذلك سلامة النصوص السابقة من أن يصادمهـا هـذا النـص الأخيـر، مما يعني أن النطفة مخلوقة لتكون مرحلة من مراحل خلق الجنين، ومن ثم يكون الاعتداء عليها موجبا للمسئولية حتى وهي على حالها.

وقد جاء تعليق ابن حجر على النص الأول من الأحاديث النبوية بما مفاده: أن الجمع على صيغة المجهول، وأن معناه أن النطفة إذا وقعت في الرحم، وأراد الله أن يخلق منها بشرا، طارت في أطراف المرأة تحت كل شعرة وظفر، فتمكث أربعين ليلة ثم تتدلى دما في الرحم، فذلك جمعها... إلى أن يقول: إن ابتداء جمعه من ابتداء الأربعين . [14] ب - وما قاله علماء التفسير يتسق تقريبا مع قول الإمام ابن حجر، فقد ذكر ابن العربي ما رواه يحيى بن زكريا ، عن أبي زائدة ، عن داود ، عن عامر ، عن علقمة ، عن ابن مسعود ، وعن ابن عمر ما يفيد أن النطفة إذا استقرت في الرحم شكلت في الخلق والخلق. [15] وذلك في معرض تفسيره للآية الواردة في سورة الحج، كما عدد آثار السلف عن ذلك. وهو في جملته وإن لم يتفق بعضه مع ما قاله ابن حجر لا يتصادم معه.

والفخر الرازي والقرطبي وغيرهما عند تفسيرهما لآية (المؤمنون) ، لم يذهبا بعيدا أيضا عن قول الإمام ابن حجر رحمة الله عليهم أجمعين [16] . [ ص: 113 ]

جـ - وتأسيسا على ما سبق قوله اختلفت وجهة نظر الفقهاء في الإجهاض ، وإن كان إجماعهم قد انعقد على حرمته بعد نفخ الروح في الجنين؛ سواء أكان الحمل من زواج شرعي، أو من زنا، اللهم إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك؛ كالإبقاء على حياة الأم الحامل، والضرورة تقدر بقدرها ، أما متى تنفخ في الجنين الروح، فيحرم إسقاطه؟ وهذا موقع الخلاف، فمنهم من يرى حرمة الإجهاض على إطلاقه حتى قبل الأربعين يوما من تاريخ استقرار النطفة في الرحم، ومنهم من يرى حلية الإجهاض قبل الأربعين، وموجز ذلك هـو:

1 - المالكية : وهم أكثر الفقهاء تشددا في ذلك، كما سبق بيانه، فالراجح عندهم حرمة الإسقاط قبل الأربعين، ويكفي لسريان هـذه الحرمة استقرار النطفة في الرحم، وفي حاشية الدسوقي جاء ما نصه: (لا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم ولو قبل الأربعين، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعا) [17] .

2 - الحنفية : المرجوح عندهم كراهة الإسقاط قبل الأربعين، والأرجح جواز الإسقاط حتى مرور مائة وعشرين يوما؛ لأن التخلق (نفخ الروح) ، لا يكون إلا بعد ذلك، وقد أكد على ذلك ابن عابدين ، فقال ما نصه: (وهذا يقتضي أنهم -أي: علماء المذهب- أرادوا بالتخلق: نفخ الروح، وإلا فهو غلط؛ لأن التخليق يتحقق [ ص: 114 ] بالمشاهدة قبل هـذه المدة) [18] . وفي الاختيار للموصلي ما يفيد جواز الإسقاط قبل مرور أربعين يوما فقط [19] .

3 - الشافعية : اتفق الشافعية كغيرهم من الفقهاء على حرمة الإجهاض بعد نفخ الروح في الجنين، أما قبل نفخ الروح فيه فأجازه أكثرهم، وحرمه بعضهم منذ لحظة علوق النطفة في الرحم، وعلى رأس هـذا الفريق أبو حامد الغزالي ، الذي يرى أن الإجهاض جناية على موجود حاصل، وله مراتب، وأول مراتب الوجود وقوع النطفة في الرحم، واختلاطها بماء المرأة، وإفساد ذلك جناية تتعاظم وتتفاحش، كلما تكررت مراتب الوجود للجنين [20] .

بيد أن بعض الشافعية يرون أن حد نفخ الروح في الجنين مائة وعشرون يوما، ويتاح الإجهاض خلالها مع الكراهة [21] .

4 - الحنابلة : لم يخرج قول الحنابلة في هـذه المسألة عن قول من سبقهم من الفقهاء؛ حيث اتفقوا مع الكل على حرمة الإسقاط بعد نفخ الروح، واختلفوا في الحكم قبل النفخ، فأجازه بعضهم قبل الأربعين تخريجا على نفس التخريج السابق. وانضم الإمام ابن حزم إلى رأي المالكية السابق في تشدده؛ حيث ألزم عاقلة المرأة التي تتعمد [ ص: 115 ] إسقاط جنينها وإن لم ينفخ فيه الروح الغرة ، وألزمها الكفارة ، وإن تعمدت قتله فالقود عليها، أو المفاداة في مالها [22] .

وعلى ما سبق يمكن القول: إن الآراء الفقهية التي تقابلها النفس بارتياح، هـي التي ترى حرمة الإسقاط للجنين، دونما قيد زمني، فالحرمة منتشرة على مدار الوقت، من بدء علوق المني في الرحم، وحتى آخر لحظة للجنين في بطن أمه.. فالمؤكد أن الجنين قبل الأربعين له حياة؛ هـي حياة النمو والتكاثر، ولولا ذلك ما انتقل إلى مرحلة أخرى لاحقة، فحياته حلقات متصلة بعضها ببعض يستحيل انفصالها، مما يعني أن إضفاء الحرمة على بعضها دون بعض غير ذي معنى تقبله العقول، اللهم إلا الضرورات التي تعم كل هـذه الحلقات أو هـذه المراحل.

ومن ناحية أخرى: فإن الفقهاء حرموا كسر بيض الطائر على المحرم؛ لأن فيه معنى الصيدية، كما يقول السرخسي الفقيه الحنفي ، وليس ثمة ما يمنع من إعمال القياس هـنا، بمعنى تحريم الإسقاط للجنين في أي مرحلة من مراحل تكوينه؛ قياسا على حرمة كسر بيض الطائر للمحرم في الحرم، فالبيض وهو أصل الطائر مثل في الحرمة، فكذلك الإنسان، بل الإنسان من باب أولى تكون له السلامة والحرمة؛ لتكريمه عن كافة خلق الله سبحانه.

ولا شك أن الحكم عام بمعنى أن أصل صيد غير الطير في الحرم كالحيوانات التي تلد، أو حتى النبات الذي يحرم قلعه، يكون اعتداء [ ص: 116 ] المحرم على أصلها، في منزلة الاعتداء عليها، فأصل الشيء يأخذ حكم الشيء نفسه بالقطع . وإذا كان الشارع الحكيم عالج قتل صيد الحرم في قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ) (المائدة: 95) ، فإنه قال في شأن الإنسان: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء: 70) . وقال تعالى أيضا: ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) (الإسراء: 33) .

ومفاد ذلك أنه إذا حرم الاعتداء على الإنسان، حرم الاعتداء على أصله وهو الجنين في كافة مراحل تكوينه. كما يجب عدم إغفال أن الأصل في الصيد هـو الحـل، ولا يحرم إلا في ظروف خاصة: ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) (المائدة: 96) .

بينما الأصل في النفس الإنسانية الحرمة، ولا تباح إلا بحق [23] . ومن المعروف أن ما يخرج فيه من الحرمة إلى الحل يجب الحوطة فيه أكثر من الخروج من الحل إلى الحرمة، كما يقول صاحب الفروق. [ ص: 117 ]

د - الإجهاض وسد الذرائع

في علم الأصول من وسائل المقاصد الشرعية: سد الذرائع ؛ وهي ما كان من قول أو فعل، وسيلة وطريقا مؤديا إلى شيء آخر.

والمقصود بسد الذرائع لدى علماء الأصول: منع ما يجوز من ذلك، إذا كان موصلا إلى ما لا يجوز. وذلك أصل من أصول الشريعة، وقد حكم الإمام مالك رحمه الله سد الذرائع في أكثر أبواب الفقه، وتوسع المالكية في تطبيقه من بعده، حتى نسب إليهم [24] .

ويعلق على ذلك القرافي أحد علماء المالكية بقوله: (لم ينفرد الإمام مالك بالقول بسد الذرائع ، بل كل أحد يقـول به، ولا خصوصية للمالكية إلا من حيث زيادتهم فيها... إلخ) [25] .

وإني لأعجب كيف يقول أهل العلم جميعا بسد الذرائع، ما بين مضيق منهم وموسع، ولا يستدعي أهل الحل والعقد في بلاد الإسلام أحكام الفقه الغائبة، لمعالجة قضاياهم.

هذا، وقد قسم الإمام ابن القيم يرحمه الله الذريعة إلى أقسام أربعة:

- منها الذريعة المباحة بحسب أصلها، لكن المكلف قصد بها التوصل إلى مفسدة؛ كهبة المال على رأس الحول فرارا من الزكاة، وعقد [ ص: 118 ] النكاح للتحليل [26] ، وبيع العينة [27] . وهنا نقول: إن الإجهاض إذا كان مباحا قبل نفخ الروح، كما يقول بعضهم، أو قبل الأربعين، كما يقول بعضهم الآخر، فإن إباحته تلك سوف تكون ذريعة لنشر الفساد، وما أكثر ما يستغل غير أصحاب المروءات والدين هـذه الثغرة؛ ليقذفوا من داخل الأرحام كل حمل لا يرغبون فيه، تحت أي دعوى تكون، حتى ولو كانت وثيقة أصدرتها الأمم المتحدة لتضفي على نصوصها الشرعية الدولية، وتلبسها مسوح التحضر والرفاه الاجتماعي والاقتصادي للناس.

وفي ظني أن هـذا القسم الذي ذكره الإمام ابن القيم من أقسام الذريعة يمكن أن يكون أصلا لدعوى من يرى عدم إباحة الإجهاض قبل نفخ الروح في الجنين، مع عدم إغفال الضرورات، فلها حكمها؛ لأنه يجوز في الضرورة ما لا يجوز في غيرها، كما يقول أهل العلم [28] .

وقد يباح في الضرورات ما لا يباح في غير الضرورات، فإذا علمنا بعد ذلك كله أن مراعاة المقاصد مقدمة على رعاية الوسائل أبدا، وأن الوسائل تتبع المقاصد في أحكامها، وأن كل تصرف جر فسادا أو دفع صلاحا فهو منهي عنه [29] في شرع أمة الإسلام، بات [ ص: 119 ] واضحا لنا جميعا وجاهة القول المتضمن حرمة الإجهاض، على طلاقة هـذه الحرمة، خلا الضرورات التي تبيح المحظورات ، فالإسلام لا يسد الطريق أمام ذوي الأعذار والحاجات.

هـ - الإجهاض والحمل غير الشرعي (السفاح)

1 - زخرت وثيقة مؤتمر السكان والتنمية بتعبيرات فضفاضة، وعبارات مطلقة، ومصطلحات مبتدعة، توحي تارة، وتؤكد صراحة تارة أخرى على ضرورة تبني نقيض ما وضعه الإسلام من مقومات أساسية للأسرة؛ فنادت بحماية الحياة الجنسية، التي تثور بين الجنس الواحد، أو الجنسين المختلفين، عن غير طريق الزواج الشرعي؛ هـدما للقيم التي نادت بها الأديان السماوية جمعاء، وإشاعة للفاحشة، وهي -أي: الوثيقة- إن دعت إلى إباحة الإجهاض في ظل العلاقة المشروعة، فهي أكثر إلحاحا إلى إباحته في ظل العلاقة غير المشروعة؛ لاتساق ذلك وهدفها الخبيث في تدمير أهل الإسلام [30] .

2 - والمؤكد -فيما أعلم- أن حرمة الإجهاض في الفقه الإسلامي حسبما سبق عرضه على طلاقتها بمعنى شمولها للحمل الشرعي وغير الشرعي، ولذلك لم يفصل الفقهاء بين النوعين من الحمل، إذا صح ذلك التعبير، بل إنهم نصوا على حرمة الإسقاط للجنين، ولو كان ثمرة لزنا أو اغتصاب، فحسب الزانية ثبوت زناها مضرة ومعرة، كما [ ص: 120 ] يقول ابن الهمام يرحمه الله [31] : فإسقاط جنينها لا يفيدها دنيا ولا دين؛ لأن الزنا الذي أثمر عن الجنين، الذي يركض في أصلابها، قد ثبت بفعلها الحسي الذي أهدر الشرع في حرمته، فلا يهدره مرة أخرى، في إسقاط الجنين، ومن ثم قتل نفس بريئة، وبذلك تجمع المرأة بين السوأتين: الزنا، والقتل. هـذا على مستوى المعقول. أما المنصوص في ذلك، فمنه ( ما جاء عن عمران بن حصين رضي الله عنه ، أن امرأة من جهينة -هي المعروفة بالغامدية كما يقول صاحب سبل السلام- [32] أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا نبي الله، أصبت حدا فأقمه علي. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليها، فقال: أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها. ففعل، فأمر بها فشكت [33] -وفي رواية زيادة: عليها ثيابها- ثم أمر بها، فرجمت، ثم صلى عليها، فقال عمر: أتصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟ فقال عليه السلام : لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها في سبيل الله ) .

والحديث رواه الإمام مسلم وغيره، وفي بعض الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل رجمها حتى فطمت وليدها، بعد أن أتت به النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده كسرة خبز [34] ، وفي بعض الروايات الأخرى: [ ص: 121 ] ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد المرأة حين أتته عقب ولادتها، ومعها الصبي في خرقة؛ آمرا إياها أن لا تعود إليه إلا بعد فطام الصبي، فلما أتته بعد ذلك دفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرض رأسها، فتنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال: مهلا يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له. [35] ، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت ) [36] .

فنحن نرى هـنا اهتمام الشارع الحكيم بالجنين، في مراحل تكوينه المختلفة، ثم بفقده لأمه كانت رعاية أحد المسلمين، فأين هـذا من الظنيات التي تواجه كليات الشريعة، ومقاصدها الضرورية، في حماية الأنفس؟ فالعقوبة على الأم لم تقم إلا بعد استكمال شرائطها، وانتفاء موانعها. والرعاية للجنين وهو ابن الزنا، الذي كان ثمرة لهياج جسدي غير مشروع قامت على أفضل وجه، وبما يتناسب ومقتضى المقام في كل مرحلة من مراحل تكوينه، فحينما كان في بطن أمه كانت رعايته لصيقة بأمه، لا تنفك عنها، لذا أجل إقامة الحد عليها، وحينما انفصل مولودا حيا، كانت له رعاية تختلف في طبيعتها عن المرحلة السابقة، وهكذا شرع الله عز وجل ، الضعيف فيه ليس كالقوي، ولا الصغير كالكبير، ولا الأنثى كالذكر. [ ص: 122 ]

3 - إن فهم معنى الخطاب، ومقصوده ومراده، يعني أن كل نفس تتحمل وزرها وحدها، يقول ربنا سبحانه وتعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) (الزمر: 7) ، وقال أيضا: ( من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) (الإسراء: 15) [37] .

وهذا يعني أن كل إنسان لا يسأل إلا عن جنايته هـو، ولا يؤاخذ بجناية غيره، مهما كانت صلته به. والثمرة من ذلك أنه لا مسوغ شرعي قائم على أساسه يتم إسقاط جنين برئ من أجل ذنب اقترفه غيره، حتى ولو كان هـذا (الغير) أصلا له وهي أمه.

أما العوارض الاجتماعية التي تنتاب الزانية؛ الحامل من سفاح، كخوف العار، وما أشبه ذلك، فالمقطوع به أنها تصيب المرأة بالضرر، لكن الضرر الأشد إجهاض جنين علق برحمها، وكما هـو معروف فالضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف، أو يرتكب أخف الضررين، كما يقول أهل الأصول، وكذلك يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، ولهذا شرعت العقوبات والحدود، وإن آلمت بعض الناس [38] .

ومن ناحيـة أخرى، فإن مقابلة خوف العار عند المرأة الزانية بما أقدمت عليه من جريمة زنا، تكاملت أركانها من الناحية النفسية يعطيني شخصيا على الأقل قناعة بأن خوف العار متدني الضرر [ ص: 123 ] بالنسبة لها. وهل نجد في دنيا المعقول، أو في الشرع، صيانة لامرأة لم تحافظ على صحة عقل وشرع؟ اللهم لا.

و - إسقاط حمل السفاح

قلنا قبل ذلك: إن الذريعة ما كان من قول أو فعل، وسيلة وطريقا مؤديا إلى شيء آخر. وإن المقصود من سد الذرائع : منع ما يجوز من ذلك إذا كان موصلا إلى ما لا يجوز. وقلنا أيضا: إن الإمام ابن القيم يرحمه الله، قسم الذريعة إلى أقسام، منها الذريعة التي تفضي إلى المفسدة بطبعها، ومثل لها بالزنى المفضي إلى اختلاط الأنساب، وضياع النسل [39] .

ومن ناحية أخرى، فإن المقصود الشرعي من التكليف يتحقق بامتثال المكلف بأوامر الشارع، واجتناب نواهيه؛ وسواء انعقدت نية المكلف عند الامتثال، الوصول إلى تلك المقاصد أم لم تنعقد، فإن عمله يكون صحيحا في الحالتين، بيد أنه لا يجوز للمكلف أن يتوجه بالتكاليف الشرعية إلى غير ما شرعت له بحال؛ ذلك لأن التكاليف إنما وضعت لدرء المفاسد، وجلب المصالح، فإذا قصد المكلف منها غير ذلك، كان بقصده مناقضا لغرض الشارع، يهمل ما اعتبره، ويعتبر ما أهمله [40] .

ومن ناحية ثالثة وأخيرة، فإن اختلاط المصالح بالمفاسد في بعض الأحيان أمر مؤكد وواقع، اعترف به الشرع الإسلامي، حيث لا يقع في الوجود فعل محض نفع ولذة، ولا فعل محض ضرر وأذى، بل [ ص: 124 ] يقترن بالأول حتما أو يسبقه أو يلحقه ما يضر ويؤلم، وحتما يقترن بالثاني أو يسبقه أو يلحقه ما فيه نفع أو لذة. ويعجز كل من رام فصل إحدى الجهتين عن الأخرى عن تحقق مراده؛ لذلك فالعبرة بغلبة النفع للحل، وغلبة الضرر للحرمة.

يقول الشاطبي في هـذا المعنى: (المصالح الدنيوية من حيث هـي موجودة لا يتخلص كونها مصالح محضة، وأعني بالمصالح: ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان، وتمام عيشه، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق؛ لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق، قلت أو كثرت، تقترن بها، أو تسبقها، أو تلحقها) ...إلخ، ما يفيد المعنى السابق [41] ، على أن خطاب الشارع يتعلق بالمصلحة إذا كانت هـي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة.

وتأسيسا على هـذا النظر ذي الثلاث شعب، يكون من دقائق الفقه، ورقائق المعرفة والحكمة والتحليل العلمي الدقيق، المنضبط بقواعد الشارع الحكيم، أمرا ونهيا ما يلي ذكره:

أولا: إن القول بحلية إسقاط الزانية حملها المتكون من الزنا فيه مصادمة صريحة غاية الصراحة لقاعدة سد الذرائع ؛ وذلك لأن من أهم العقبات المانعة للمرأة من الإقدام على الزنا نشوء الحمل، الذي [ ص: 125 ] يعرضها للمعرة والمضرة معا، فإذا أزالت عن طريقها هـذه العقبة، كان ذلك دعوة صريحة لتسويق الفاحشة بين الناس، وهذا في حد ذاته مناقض لمقاصد الشارع الحكيم، وخرم لأهدافه التي تروم حفظ الكليات.

ثانيا: إن زنا المرأة، على افتراض أنها أمنت عدم نشوء حمل من هـذا الزنا يتناقض وامتثال المكلف أوامر الشارع الحكيم، تحت ظل أي افتراض عدا الإكراه، كما أن فكرة اختلاط المفاسد بالمصالح السابقة لا يمكن التمسح بها هـنا؛ لأن خطاب الشارع يتعلق بالمصلحة إذا كانت هـي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة. وأخيرا، فليس بعمل الزنا وحده يلحق المرأة المعرة، وإلا أين الوقائع المادية للجريمة، ومناقضتها الشرع؟

ز - رخصة الإجهاض للعذر وحمل الزنى

هذه المسألة يلخصها السؤال التالي: هـل يجوز للزانية أن تستفيد من الرخصة في إجهاض حملها إذا ألم بها عذر؟

وجواب ذلك يحتم علينا التفرقة بين أمرين هـما: الرخص من جهة، والحاجة أو الضرورة من جهة أخرى. فأما الحاجة أو الضرورة [42] -على رأي من يرى وحدة المعنى بينهما- هـي أن يبلغ المرء حدا معينا إذا لم يفعل المحظور هـلك أو قارب على الهلاك، ولو ظنا [43] ، أو هـي [ ص: 126 ] التي تتوقف عليها حياة الناس الدينية أو الدنيوية، بحيث لو فقدت اختلت الحياة في الدنيا، وفات النعيم، وحل العقاب في الآخرة [44] .

والرخصة تعني: الشيء الذي شرع لعذر شاق؛ استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه. فكونه مشروعا لعذر هـو الخاصة التي ذكرها علماء الأصول، وكونه شاقا فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة من غير مشقة موجودة، فلا يسمى ذلك: ضرورة شرعية؛ كالقراض، فإن شرعيته لعذر في الأصل؛ وهو عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض، ويجوز حيث لا عذر ولا عجز. وقد يطلق لفظ: الرخصة ، على ما وضع عن هـذه الأمة من التكاليف الغليظة، والأعمال الشاقة، وتطلق أيضا على ما كان من المشروعات؛ توسعة على العباد مطلقا، مما هـو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء أوطارهم في دنياهم، وحياتهم المعيشية [45] .

وإذا كان للرخصة هـذه الإطلاقات السابقة فإن حكمها الإباحة عند تحقيق ما يقتضيها، ومن مقتضيات الرخص: أنها لا تناط بالمعاصي، ومن هـنا قال الفقهاء: لا يجوز القصر في سفر المعصية [46] ؛ لأنه سفر لا يفيد الرخصة، لأنها تثبت تخفيفا، فلا تتعلق بما يوجب التغليظ [47] . [ ص: 127 ]

وفي الفروق: (فأما المعاصي فلا تكون أسبابا للرخص، ولذلك العاصي بسفره لا يقصر، ولا يفطر بسبب هـذا السفر، وهو في هـذه الصورة معصية، فلا يناسب الرخصة؛ لأن ترتيب الترخيص على المعصية سعي في تكثير تلك المعصية بالتوسعة على المكلف بسببها) [48] .

وتطبيقا لذلك يحرم أو لا يجوز فقها للزانية الاستفادة من الرخص الشرعية في إجهاض حملها، إذا ما ألم بها عذر، بل إن الرخصة هـنا يكون مناط تعلقها بالجنين طريقا متشددا لحمايته، لا سيما وأنه فاقد للحماية من الجانيين الزاني وأمه الزانية، والسلطان ولي من لا ولي له، وتصرفه على الرعية منوط بالمصلحة، وليس من المصلحة أن يضحي بحياة الجنين في مقابل مصلحة للأم، والتي غالبا ما تكون مصلحة وهمية.

أما إذا تعرضت حياة الزانية للخطر المؤكد، فإن المسألة ترد إلى قواعد التعارض والترجيح، وذلك بشرط ألا يثبت قضاء استحقاقها لإقامة الحد عليها، أو ثبت ذلك، ولكنها غير محصنة أو مكرهة، وحينئذ فلها أن تمتع بسائر الأحكام التي تتعلق بالحامل من أثر نكاح صحيح، عندما تحيق بها الضرورة الملجئة للإجهاض.. فما أبيح لضرورة أو لحاجة يقدر بقدرها. [ ص: 128 ]

ح - الجزاءات الشرعية لجناية الإجهاض

1 - الفعل المكون للجناية

تتحقق هـذه الجناية كلما وقع عدوان ما يؤدي إلى انفصال الجنين عن أمه؛ ميتا أو حيا، فحدوث الانفصال في ذاته -هنا- يمثل جناية تامة متكاملة الأركان، بغض النظر عن موت الجنين أو حياته، وإن كانت العقوبة تختلف في كل حالة عن الأخرى.

ولا يشترط في الفعل المكون للجناية شكلا معينا؛ لأنه يمكن أن يكون عملا، كما يصح أن يكون فعلا ماديا أو معنويا، بل يمكن أن يكون قولا، وقد استعرض ابن عابدين الفقيه الحنفي نماذج عدة لذلك؛ منها الضرب، والجرح، والضغط على بطن المرأة (المجنى عليها) ، كما ذكر منها تناول الدواء أو المواد التي تؤدي للإجهاض، وإدخال مواد غريبة في الرحم، أو حمل حمل ثقيل. وأنت ترى أنها كلها أمثلة على الأفعال المادية [49] . والتهديد، والإفزاع، والترويع، والتخويف للحامل بالضرب أو القتل، كلهـا أمثلة على الأقوال والأفعال المعنوية، بل إن طلب ذي الشوكة للحامل أو دخوله عليها، يعد من هـذا القبيل؛ إذا أثمر عن وقوع الإجهاض. [ ص: 129 ]

" روى البيهقي في سننه، أن عمر رضي الله عنه بعث إلى امرأة كان يدخل عليها، فقالت: ياويلها، ما لها ولعمر؟ فبينما هـي في الطريق إذ فزعت، فضربها الطلق، فألحقت ولدا، فصاح صيحتين ثم مات، فاستشار عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار بعضهم أن ليس عليك شيء، إنما أنت وال ومؤدب. وكان من الصحابة رضوان الله عليهم علي ، الذي صمت فأقبل عليه عمر، فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هـواك فلم ينصحوا لك، إن ديته عليك؛ لأنك أفزعتها فألقته. فقال عمر: أقسمت عليك ألا تبرح حتى تقسمها على قومك " [50] .

وفي شرح الزرقاني ما يؤكد أن شتم المرأة المؤلم، إذا أدى إلى إجهاضها يشكل مسئولية جنائية على الشاتم [51] . وهذا لعمري غاية الدقة الفقهية، ويدخل في ذلك من باب أولى تجويع المرأة الذي يؤدي إلى إسقاطها، بل لو صامت هـي فأدى صيامها إلى إسقاط جنينها كانت مسئولة جنائيا عن ذلك، مما يعني أن الفعل المكون للجناية قد يقع من الأبوين أو من غيرهما. [ ص: 130 ]

لا تعتبر الجناية على الجنين قائمة ما لم ينفصل الجنين عن أمه، حتى ولو انفصل ميتا، يقول قاضي زاده : (وإذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا، ففيه غرة) [52] .

فمن ضرب امرأة على بطنها أو أعطاها دواء فأزال ما ببطنها من انتفاخ، أو أسكن حركة كانت تشعر بها في بطنها، لا يعتبر أنه جنى على الجنين؛ لأن حكم الولد لا يثبت إلا بخروجه، ولأن الحركة ربما تكون لريح في البطن سكنت، فهناك شك في وجود أو موت الجنين [53] .

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العقوبة تحتاج أدلة أو إثبات شرعي؛ فالعلاقة بين توقيع العقوبة على الجاني وبين أدلة الإثبات تحتاج إلى وضوح؛ لأنه على أساس ذلك يصح إسناد الفعل الإجرامي إلى شخص ما، أو تبرأ ساحته من الاتهام، ثم إن قواعد الإثبات الجنائي ليس مناطها فقط إثبات إدانة الجاني، وإنما تهدف أيضا وبنفس القدر إلى إثبات براءة البريء. وكل هـذا في أي نظام جنائي، ناهيك عن قواعد الإثبات في التشريع الجنائي الإسلامي الذي وصفت قواعده وبحق بأنها تهدف إلى إثبات صحة الادعاءات في صورها المختلفة بدرجة كبيرة من اليقين [54] . [ ص: 131 ]

وهذا هـو الذي يفسر قول الفقهاء: إنه لا يجب العقاب بالشك . وأساس ذلك عدم اليقين من وجود الجنين أو موته.

ونحن مع الرأي الذي يرى أن ما يجب العمل به اليوم، بعد اتساع دائرة علم الطب وتقدم وسائله، أنه إذا أمكن طبيا القطع بوجود الجنين وموته بفعل الجاني فإن العقوبة تلزم الجاني؛ لأن هـذا القول يتسق مع قول الفقهاء، حيث أسقطوا العقاب للشك، فحيث زال الشك وجبت العقوبة، كما لا يكفي انفصال الجنين لقيام مسئولية الجاني، بل يجب أن يثبت أن الانفصال جاء نتيجة فعل الجاني، وأن علاقة السببية قائمة بين فعل الجاني وانفصال الجنين [55] .

2 - العلاقة بين انفصال الجنين وحياته

يعتبر المالكية والشافعية والحنفية الجنين منفصلا حيا عن أمه إذا انفصل وفيه حياة، حتى ولو كان انفصاله لأقل من ستة أشهر، ويعتبرونه ميتا إذا انفصل فاقد الحياة، فالعبرة بحال الجنين عند تمام الانفصال. وتأسيسا على ذلك حكموا بموته في حالة ما إذا علمت حياته قبل تمام الانفصال، كما لو خرج رأسه فصرخ مرارا، ثم تم انفصاله ميتا. [ ص: 132 ] وثمرة هـذه التفرقة اختلاف العقوبة المقررة على الجاني في كل صورة منهما [56] ؛ لأنه إذا انفصل الجنين عن أمه ميتا، فعقوبة الجاني هـي دية الجنين، وديته غرة عبد أو أمة، قيمتها خمس من الإبل، ولذلك أصل تشريعي، يأتي بيانه حالا . أما إذا انفصل الجنين حيا ولم يمت، أو مات بسبب آخر غير الجناية على أمه، كأن قتله آخر أو امتنعت أمه عن إرضاعه، حتى مات، فالعقوبة على الجاني تعزيرية لا غير؛ لأن موت الجنين حدث بسبب غير فعله.

ويشترط الحنابلة لاعتبار الجنين منفصلا حيا أن تكون الحياة مستقرة فيه، فلا يكون في الرمق الأخير، أو في حالة نزع [57] . وأن يكون سقوطه أو انفصاله لوقت يعيش لمثله؛ أي لستة أشهر فما فوق، فإن كان لدون ذلك اعتبر ميتا عند انفصاله، حتى ولو انفصل والحياة فيه؛ لأنها حياة لا يتصور بقاؤها. والـمزني من أصحاب الشافعي رحمهما الله، يقول بذلك أيضا [58] . [ ص: 133 ]

3- عقوبات جناية الإجهاض

- تختلف العقوبة المقررة للجناية على الجنين باختلاف نتائج فعل الجاني، وهذه النتائج يمكن حصرها فيما يلي:

أولا: أن ينفصل الجنين عن أمه ميتا.

ثانيـا: أن ينفصل الجنين عن أمه حيا، ثم يموت بسبب الفعل المكون للجناية.

ثالثـا: أن ينفصل الجنين عن أمه حيا، ثم يموت أو يعيش بسبب آخر غير الفعل.

رابعا: أن لا ينفصل الجنين عن أمه، أو ينفصل بعد وفاتها.

خامسا: أن يترتب على الفعل إيذاء الأم، أو إصابتها بإصابات تشفى منها، أو تؤدي لموتها [59] .

بيد أننا نود أن نترك التفصيل في هـذه المسألة للمطولات، ونرتب الجزاءات الشرعية المقررة لهذه الجناية اعتمادا على ما ذكره الفقهاء بالآتي:

- العقوبة الأولى: العقوبة المالية (الضمان المالي) :

وبيانها: أن الجنين إذا تلف بسبب الجناية على أمه فإنه يكون [ ص: 134 ] مضمونا بالمال؛ الغرة [60] ، إذا انفصل عنها ميتا، والدية في حالة انفصاله حيا، ثم موته متأثرا بالجناية.

أما عن قيمة الغرة فهي نصف عشر الدية الكاملة؛ أي خمسا من الإبل، أو خمسون دينارا، أو خمسمائة درهم.

وابن قدامة ذكر أن عبد الملك بن مروان قضى في الجنين إذا أملص بعشرين دينارا، فإذا كان مضغة فأربعين، فإذا كان عظما فستين، فإذا كان العظم قد كسي لحما فثمانين، فإن تم خلقه وكسي شعره فمائة، ثم علق على ذلك بقوله: (إن قول عبدالملك بن مروان تحكم بتقدير لم يرد به الشرع) [61] .

- والأصل في الغرة: ( ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه استشار الناس، في إملاص المرأة [62] ، فقال المغيرة بن شعبة : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد، أو أمة. فقال: لتأتين بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة ) .

( وعن أبي هـريرة رضي الله عنه ، قال: اقتتلت امرأتان من هـذيل ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وما في بطنها، فاختصموا إلى [ ص: 135 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقضى عليه السلام أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معه ) [63] .

وهذه الغرة أو الضمان المالي واجب على الجاني؛ سواء أكان الجنين ذكرا أم أنثى، لا فرق في قيمة ما يجب لكل منهما؛ لعدم ظهور التفاوت في معاني الآدمية؛ لأنه لا تفاوت في الجنين، فيقدر بمقدار واحد، كما يجب في حالتي العمد والخطأ، لا فرق بين الحالتين، إلا أن دية الجنين تغلظ في حالة العمد، وتخفف في حالة الخطأ، كما أنها حالة في مال الجاني المتعمد، لا تحمل العاقلة منها شيئا. أما في حالة الخطأ وشبه العمد - كما يرى بعض الفقهاء - فتحمل العاقلة الدية وحدها، أو مع الجاني، مع الخلاف في ذلك، طبقا للآراء الفقهية، كما أن الغرة تتعدد، بتعدد الأجنة، فلو ألقت المرأة المجنى عليها جنينين، فعلى الجاني غرتان، وإذا ألقت ثلاثة، فعليه ثلاث، وهكذا. وإذا ماتت الأم، بعد وجوب الغرة فلا تدخل الغرة في دية الأم، بل تجب الغرة للجنين، والدية للأم [64] .

- ومن أقوال الفقهاء، نجد أن وجوب الغرة، بالجناية على الجنين مشروط بما يلي:

أولا: وجود ما يكيف فقهيا على أنه جناية تقتضي إسقاط الحامل لحملها، [ ص: 136 ] وفي هـذا يقول ابن قدامة : (إن الغرة إنما تجب إذا سقط من الضربة، ويعلم ذلك بأن يسقط عقيب الضرب، أو ببقائها متألمة إلى أن يسقط، ولو قتل حاملا، لم يسقط جنينها، أو ضرب من في جوفها حركة أو انتفاخ فسكن الحركة وأذهبها لم يضمن الجنين، وبهذا قال مالك وقتادة والأوزاعي ... ولنـا أنـه لا يثبت حكـم الولـد، إلا بخروجه) [65] .

وقد قلنا سابقا: إنه لا فرق بين الفعل المادي والمعنوي في ذلك، كما لا يوجد ثمة فرق بين أن تكون الجناية بفعل الحامل نفسها أو غيرها؛ طوعا أو كرها، غير أن وصف الجناية وكذلك الضمان يتعلق بها عند الفعل الخطأ أو الطواعية فقط.

ثانيا: سقوط الجنين أثر لما يكيف فقهيا على أنه جناية؛ سواء أكان ضربا، أم قولا، أم فعلا؛ وسواء أسقط عقب وقوع الجناية أم بعدها على بعض الآراء، بشرط قيام علاقة السببية بينهما. ولو ماتت الأم ولم يقم دليل قاطع على أن الجناية أدت لموت الجنين أو انفصاله، وأن موت الأم لا دخل له في ذلك، لم يتحقق هـذا الشرط.

والطبيب المسلم العدل رأيه الموثق هـو الذي يجب التعويل عليه في هـذا الشأن. [ ص: 137 ]

ثالثا: أن ينفصل الجنين ميتا، أما إذا انفصل حيا، وبقي زمانا، بلا أم، ثم مات، فلا ضمان، أما إذا انفصل حيا، ومات بسبب فعل الجاني، فإن العقوبة القصاص أو الدية الكاملة، على خلاف بين أهل العلم، يرحمهم الله [66] .

على أن الدية الكاملة للجنين يختلف مقدارها باختلاف نوع الجنين؛ حيث دية الذكر دية رجل، ودية الأنثى دية امرأة، على النصف من الأولى.

رابعا: عصمة الجنين، بأن لا يكون من أبوين حربيين، وأن يكون مسلما حكما، بأن يكون أبواه أو أحدهما على الأقل مسلما، وإلا فلا تجب الغرة، على خلاف وتفصيل بين الأئمة في ذلك، يقول ابن قدامة: (إن في جنين الحرة المسلمة غرة، وهذا قول أكثر أهل العلم) [67] .

خامسا: أن يكون الحمل المنفصل أثرا للجناية أو الإجهاض، بدأ في مرحلة التصوير الخلقي، كما يذهب أئمة الفقه عدا الإمام مالك رحمه الله، حيث ألزم الضمان على محصول الحمل وكل ما يسمى جنينا، جاء في المدونة الكبرى ما نصه: (قال مالك : كل ما طرحته من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد، ففيه الغرة؛ سواء استبان الخلق أم لا) [68] . [ ص: 138 ]

ولعل هـذا الرأي هـو الأولى بالاعتبار؛ غلقا لباب التحايل، لا سيما ما نراه الآن يجري واقعا أمام أعيننا باسم الشرع وعلى حسابه، بما لم يكن متفقا وغايات الشارع الحكيم.

أما على من يكون الضمان المالي بعد تكامل أركان الجناية، فهناك من يرى أنها في مال الجاني وحده، ويربط ذلك بالعمدية منه، التي لا تعتبر محض عمد؛ لأنه بعيد التصور، لتوقفه على العلم بوجود الجنين حيا، كما تتوقف على قصد قتله وهو بعيد التصور [69] .

ويقابل هـذا الرأي من يلزم العاقلة بالضمان المالي؛ لأنها جناية خطأ، كما أن ظاهر النصوص يؤكد ذلك، وبذلك قال جمهور الفقهاء [70] .

وقد لخص قاضي زاده هـذه المسألة بقوله: (وهي - أي: الدية - على العاقلة عندنا، إذا كانت خمسمائة درهم، والعاقلة تعقل خمسمائة ولا تعقل ما دونها. وقال مالك : في ماله؛ لأنها بدل الجزء... ولنا أنه عليه الصلاة والسلام قضى بالغرة على العاقلة، ولأنه بدل النفس) [71] .

ويقول ابن قدامة بما يتفق وقول قاضي زاده السابق، ويؤكد أن ذلك منصوص عليه عن الإمام أحمد رحمه الله [72] . ثم ينسب ابن قدامة [ ص: 139 ] إلى الإمام الشافعي رحمه الله، قوله: (تحمله العاقلة على كل حال بناء على قوله: إن العاقلة تحمل القليل والكثير) [73] .

الميراث في الضمان المالي: الرأي العمدة في الفقه أن قيمة الغرة لورثة الجنين؛ لأنها دية له، فحكمها حكم الدية كما لو قتل بعد الولادة، وقال الليث : لا تورث، بل تكون بدله لأمه؛ لأن الجنين بمثابة عضو من أعضائها. وقد ناقش ابن قدامة قول الليث بما نصه: (ولنا أنها دية آدمي حر، فوجب أن تكون موروثة عنه كما لو ولدته حيا ثم مات. وقوله: إنه عضو من أعضائها. لا يصح؛ لأنه لو كان عضوا لدخل بدله في دية أمه كيدها، ولما منع من القصاص من أمه وإقامة الحد عليها من أجله، ولما وجبت الكفارة بقتله، ولما صح عتقها دونه والعكس، ولا تصور حياته بعد موتها، ولأن كل نفس تضمن بالدية تورث كدية الحي) [74] .

- العقوبة الثانية: الكفارة:

الكفارة المعنية هـنا: هـي كفارة القتل الوارد النص بشأنها في القرآن الكريم [75] .

والرأي عند الحنفية لا يوجب الكفارة على الجاني في [ ص: 140 ] هذه المسألة؛ لأن فيها معنى العقوبة، وقد عرفت في النفوس المطلقة فلا تتعداها. والمعنى عند الحنفية فيما أفهم أن الكفارة شرعا لا تجد محلا لها في حالة الجناية على الحامل، وإسقاط حملها، والجنين الذي استبان بعض خلقه بمنزلة الجنين التام في ذلك.

أما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فيفرق بين انفصال الجنين ميتا، وانفصاله حيا، ويوجب الكفارة في الحالة الثانية دون الأولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الكفارة حين أوجب الغرة، وليس من بأس في أن يتقرب بها الجاني إلى الله في الحالة الأولى، فذلك أفضل له، مع أنها غير واجبة عليه، كما يرى صاحب المذهب يرحمه الله [76] .

والرأي عند الحنابلة وغيرهم أيضا وجوب الكفارة على سبيل الإطلاق، فعلى كل جان في هـذه الجناية عتق رقبة؛ سواء أكان الجنين حيا أم ميتا، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ منهم الحسن ، وعطاء ، والزهري ، والحكم ، ومالك ، والشافعي ، قال ابن المنذر : (كل من نحفظ عنه من أهل العلم أوجب على ضارب بطن المرأة تلقي جنينا الرقبة مع الغرة) [77] .

وسند هـذا الرأي قول الله تعالى: ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ) ، إلى قوله: ( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ) (النساء: 92) ، [ ص: 141 ] ووجه الدلالة من ذلك: أن الجنين نفس مضمونة بالدية، فوجبت فيها الرقبة كالكبير، وترك ذكر الكفارة لا يمنع وجوبها؛ ( كقوله عليه السلام : في النفس المؤمنة مائة من الإبل. ) وذكر الدية في مواضع ولم يذكر الكفارة.

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المقتولة على عاقلة القاتلة، ولم يذكر كفارة، وهي واجبة كذا هـاهنا، ثم إن الآية الكريمة أغنت عن ذكر الكفارة في موضع آخر فاكتفي به [78] . ولعل هـذا الرأي هـو الأوفق؛ لأن الإجهاض جناية على نفس بريئة. ومن ثمرات تغليظ العقوبة -إن صح هـذا الوصف- عدم استهانة الناس بأمر الإجهاض.

- العقوبة الثالثة: الحرمان من الميراث:

القتل فعل إجرامي بغيض، يتمثل في إزهاق روح المجنى عليه، وقد حدد الله سبحانه عقوبة لفاعله في الدنيا والآخـرة: ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) (البقرة: 179) ، ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) (النساء: 92) . [ ص: 142 ]

والجمهور الأعظم من فقهاء الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين على أن القاتل لا يرث شيئا من تركة مورثه المقتول [79] ؛ للنصوص القاطعة بذلك، هـذا فضلا عن أن القتل جريمة تستوجب العقاب على الجاني، والميراث نعمة تعود على صاحبها بالنفع، ولا يعقل أن تكون الجناية سببا للنعمة على الجاني، وليس من معهود الشرع أن يكون الفعل المحظور سببا في النعم [80] .

أيضا خلافة الوارث لمورثه قائمة على قوة الرابطة والصلة والتعاون بينهما، حتى جعلت حياة الخلف امتدادا لحياة السلف، غير أن الوارث قد قطع بجنايته تلك الصلة، فلا يستحق شيئا من التركة، حتى ولو كان الجاني الأم الحامل عندما تفعل شيئا لإجهاض نفسها عمدا؛ بأن تشرب دواء يثمر عنه الإجهاض، أو تضرب بطنها... إلخ، ما يؤدي إلى إسقاط حملها ميتا، وحينئذ تلزمها غرة وكفارة، وحرمان من الميراث، بل وينالها من العقوبات التعزيرية حسب ما يراه القاضي.

ومناط ذلك كله أن المنهج التربوي في الإسلام يتلقى هـذه الأجنة بعد اكتمال تخليقها من قبل الباري سبحانه بالرعاية والصلاح، ويزرع فيهم -إذا ما أحسن استخدام هـذا المنهج- القيم والمثالية، [ ص: 143 ] فيشبون رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، قمما شواهق في النبل والفضل، أملا للدنيا والدين، عدلا وإنصافا، ثم إن وطيد العلاقة بين الوارث ومورثه تأبى هـذه الجناية، حتى ولو كان المجنى عليه حيا يركض في أصلاب أمه، أيا كان الجاني.

- العقوبة الرابعة: التعزير:

والتعزير في اللغة من أسماء الأضداد؛ لأنه يطلق على التفخيم والتعظيم وعلى التأديب، وعلى أشد الضرب، وعلى الضرب دون الحد... إلخ.

وفي الشرع: عقوبة غير مقدرة، متروك أمرها إلى الحاكم. وفي جريمة الإجهاض، ليس ثمة ما يحول بين القاضي في أن يعزر الجاني مع إلزامه بالضمان المالي، إذا رأى في ذلك مصلحة، بل إنه يجوز للقاضي فيما نفهم أن يعزر من يقوم على منع الحمل بأي وسيلة كانت لغير ضرورة صحية؛ حفاظا على مصالح الأمة العليا. وسند هـذه العقوبة إعمال باب السياسة الشرعية؛ قياسا على أن مسلك الصحابة رضي الله عنهم في تحليل الأحكام إدخال السياسة الشرعية؛ دفعا للمفاسد المحققة، أو حتى المظنونة، وإن أدى ذلك إلى تخصيص النص أو ترك لظاهره، بل وإن أدى لأن يكون الحكم زاجرا؛ لاقتضاء المقام ذلك [ ص: 144 ]

ومن الأمثلة على ذلك موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مسألة الطلاق الثلاث وإيقاعه، " ويروي لنا ابن عباس رضي الله عنهما ، ما كان من شأن هـذه المسألة بقوله: كان الطلاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم. " وفي رواية الطحاوي عن طريق طاوس ، " قال ابن عباس : فلما كان زمان عمر، قال: أيها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة، إنه من تعجل أناة الله في الطلاق، ألزمناه إياه. "

ومن المعروف أن الطلاق المفرق له حكمة تتمثل في تيسير الله برفع الحرج عن المطلق، لو بانت منه زوجته مرة واحدة، فلعله يراجع نفسه بعد حين. ولما وجد عمر في الناس رغبة عن هـذا التيسير وهذا الإحسان من الشارع عمل بالمصلحة في مقابلة النص، فعاقبهم بمنعهم من المباح، الذي رخص لهم [81] [ ص: 145 ]

ومما لا مراء فيه، أن تقييد المباح يمثل عقوبة تعزيرية جلبا للمصالح، فكذلك التعزير في مسألة بحثنا، فوحدة جنس العقاب قائمة، حتى وإن اختلف الفعل المحظور طبيعة وهدفا، ولا ضير من اعتبار الباعث على تقييد المباح سياسة أو غير ذلك، مما يتسق ومقاصد الشرع الحكيم.

التالي السابق


الخدمات العلمية