الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الأمر الثـاني: زواج غيـر المسلمـين والشريعة الواجبة التطبيق عليهم

يفترض في هـذه المسألة أنها تعالج قضايا غير المسلمين كافة، من يقيم منهم خارج الممالك والأمصار الإسلامية، ومن يقيم داخلها، فالواقع أنه لم يخل بلد إسلامي في قديم الزمن، وحديثه، من أفراد وطوائف من غير مسلمين، وهؤلاء يحدث لهم ما يحدث للناس جميعا من خصومات تتطلب الفصل من القضاء، كما أن لهم نظما خاصة بهم، وقواعد تحكم عقودهم، وتصرفاتهم في الزواج، ولعله من الأحرى أو الأولى أن يوجه الخطاب، أو يتركز البحث على ما يتعلق بغير المسلمين في بلاد الإسلام، وذلك لأمرين:

الأول: أنهم قد يكونون أكثر الشرائح الاجتماعية في بلاد الإسلام انصياعا أو استجابة لمثل هـذه الحملات المغرضة، والموجهة ضد الإسلام، وأهله.. وهذه الاستجابة قد تكون عن قصد، تقودهم نزعة عصبية، أو جهل بأحكام الإسلام، كما قد تحتويهم شعارات براقة، أو يؤرقهم خوف على مستقبل... إلخ هـذه المعايير التي يمكن تصورها.

الثاني: أن الأصل، أن لهم حرية الاعتقاد وممارسة شعائر التدين، ثم أنهم داخلون في نسيج المجتمع الإسلامي بحكم الواقع، [ ص: 153 ] وقد نهينا - نحن أهل الإسلام - عن إكراه أهل الكتاب على الإسلام، وعن مجادلتهم في معتقداتهم إلا بالتي هـي أحسن، ويكفي في إثبات ذلك أن نذكـر قـول ربنـا سبحـانـه: ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) (البقرة: 652) [1] ، وقوله تعالى: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هـي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ) (العنكبوت: 46) .

وقد فسر ( الذين ظلموا منهم ) بأنهم أهل الحرب أو مانعي الجزية... إلخ [2] .

وإذا كانت شريعة التسامح هـذه، من الشرائع السائدة في الإسلام بعامة، سواء في ذلك المعاملات أو غيرها من النواحي الاجتماعية، فإننا نراها واضحة ملموسة فيما يتصل بفقه الأسرة أو التشريعات الخاصة بالأحوال الشخصية، ويكفي أن نشير هـنا إلى ما هـو معروف من حلية زواج المسلم بالمسيحية أو اليهودية، وحينئذ تكون سكنا لنفسه، ومستودعا لسره، وأمينة على زوجها، وبيته، وأولاده، وحرية بعطفه، ومحبته، وهي مع هـذا لها كل الحق في أن تبقى على عقيدتها، وتقوم بما يفرضه عليها دينها من شعائر العبادات، بل لها أن تختلف إلى كنيستها أو بيعتها [3] [ ص: 154 ]

وإذا كان بعض الفقهاء يرى أن زواج غير المسلمة، من الذين أوتوا الكتاب، مكروه كراهه تنزيه، والأولى بالمسلم ألا يفعـل إلا لضـرورة، لما قد يقع من ضرر بالولد، أو لما قد يؤدي إلى مفاسد اجتماعية ترجع إلى إيثار غير المسلمات بالتزوج على المسلمات [4] إلا أنه ومع ميلنا إلى هـذا القول، لا إثم على الزوج في هـذه الحالة، بل لعل هـذا يؤلف بين المسلم وغير المسلم من أصحاب الأديان، والكتب السماوية، وقد يكون في هـذا الزواج دعوة من طريق غير مباشر للإسلام، ونشر الدين الحق في الأوساط غير المسلمة.

وقد يكون من الأوفق في بيان هـذه المسألة، أن نعرض لما يلي:

1 - تحليل فقهي لعقد النكاح في الإسلام.

2 - مركز غير المسلمين أمام القضاء الإسلامي في أحوالهم الشخصية.

3 - الأصول التي تحكم زواج غير المسلمين.

4 - الشريعة الواجبة التطبيق عليهم [5]

أولا: تحليل فقهي لعقد النكاح في الإسلام

في فقه الإسلام، عقد النكاح له وجـه مشـرق نضـر، وعلـة ذلك ما يحتويه من جوانب اجتماعية عديدة، وكذلك اقتصادية لا عوج في مسالكها، [ ص: 155 ] تساير فطرة البشر، كما أنها تحول بينهم وبين مساوئ الأخلاق.. وهذا التحليل الفقهي قصد به بصفـة عامـة، المقابلـة مـع ما سيأتي بشأن زواج غير المسلمين - حالا - لأن الضد يظهر حسنه الضد كما يقولون، وموجز ذلك ما يلي:

1 - النكـاح ما شـرع إلا ليكـون مثمـرا ثمـرات مشتـركة بين المتناكحين، والمعنى أنه كما يجب للزوج على الزوجة حقوق، فإن لها عليه حقوقا أيضا، والثمرة الكبرى من هـذا كله [6] قيام المجتمع الصالح، والحياة الطيبة، ومن أجل ذلك لم يقبل في فقه الإسلام إعراض الشباب عن الزواج وهم قادرون عليه، وعلى تبعاته، للضرر الواقع بهم، وبالمجتمع الذي يعيشون به، وبالأمة التي ينتسبون إليها، حيث الإعراض هنا يعطل المصالح، والمعاني الدينية، والغايات الاجتماعية والعمرانية للنكاح.

لذلك اعتبره علماء الإسلام من أقرب العبادات إلى الله، حتى إن الاشتغال به أفضل من التخلي عنه لمحض العبادة، ولذا وازن ابن الهمام بين النكاح والجهاد، وغلب الأول، لأن الجهاد وإن كان عبادة، إلا أن النكاح سبب لما هـو المقصود منه وزيادة، فإنه سبب لوجود المسلم والإسلام، والجهاد سبب لوجود الإسلام [7] [ ص: 156 ]

2 - أكثر الآراء في فقه الإسلام اتسـاقـا مـع غايـات الـزواج، ما أجازه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، من عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح ركونا على ما جاء في الصحيحين ( عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن أحق الشروط أن توفوا به، ما استحللتم به الفروج ) ، ويرى رحمه الله أن الشروط في الزواج أكبر خطرا منها في البيع، والإجارة ، ونحوهما، فلهذا يكون الوفاء بما التزم منها أوجب وآكد [8] .

ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كلام طيب في هـذه المسألة يمكن الرجوع إليه في مظانه [9] .

3 - الثمرة الطبيعية التي يجنيها المجتمع من آراء الفقهاء وجود أفراد يحفظون أمر الله ونهيه، ويحافظون على عقوده، التي أمر خلقه بالوفاء بها، قال تعالى: ( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) ، وقال سبحانه: ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) (المائدة: 1) ، ولا شك أنه يدخل ضمن الوفاء بها، دفع ما يعارضها.

4 - ومن باب التطبيق لكلام الفقهاء، يكون على الزوج ألا يخرج الزوجة من دارها، إن هـي شرطت هـذا في عقد الزواج، فإن لم يف بهذا الشرط الذي رضيه كان لها حق فسخ العقد [10] ، وكذلك يكون لكل [ ص: 157 ] من الزوجين أن يشترط في الآخر صفة يصح قصدها، كالثقافة والجمال والبكارة... إلخ. ويكون للمشترط حق فسخ العقد عند فوات ما اشترطه، لأنه لم يرض بالعقد إلا على أساسه، ولا فرق بين أن يكون المشترط هـو الرجل أو المرأة، كما يقول ابن تيمية رحمه الله.

5 - إزاء ما سبق من قول، لا يجب أن يفهم أن فقه الإسلام يعتبر عقد النكاح عقد بيع، محله صفقات بين الناس، حيث لكل عقد مجاله وطبيعته الفقهية، فمثلا الزواج لا يدخله شيء من الخيارات، التي تدخل في البيع ونحوه من عقود المعاوضات المالية، إذا ما استثنينا رأي بعض الفقهاء كشيخ الإسلام ابن تيمية ، فيما يختص ببعض الشروط، وما يكون من الفسخ بسبب بعض العيوب، لا يدفع للذهاب إلى أن خيار العيب يدخل في عقد النكاح بذات المعنى في عقد البيع. فإن خيار العيب في البيع مثلا لا يكون إلا بسبب العيب، الذي كان موجودا في السلعة، وقت إنشاء العقد، ولم يكن المشتري يعرفه، في حين أن الفسخ للعيب في عقد الزواج يكون بسبب العيب، الذي كان موجودا حين العقد، أو العيب الذي ينشأ بعده، ولا تطاق العشرة معه [11] . [ ص: 158 ]

ومن ناحية أخرى، فإن البيع متى فسخ بسبب العيب، يقع الفسخ مستندا إلى وقت إنشاء العقد، على حين أن الأمر ليس كذلك في الزواج، فإن التفريق فيه بسبب العيب يقع من وقت حكم القاضي به، لا من وقت إنشاء العقد، ولهذا تترتب جميع آثار الزواج في المدة الماضية، إلى وقت الحكم بالتفريق، مثل وجوب النفقة، وثبوت المهر بالدخول.

ومن هـنا عرف الفقهـاء العقد الباطل بأنه ما لم يشـرع بأصـله، ولا بوصفه، بمعنى أن الشارع لا يعتبره موجودا، حتى وإن وجدت صورته محسوسة في الخارج، ولا يترتب عليه أي أثر من الآثار، واستثنوا من ذلك عقد الزواج الباطل، إذا أعقبه دخول، فإنه يترتب عليه بعض آثار العقد الصحيح، مثل وجوب المهر، وثبوت النسب، وغيرهما.

6 - لعله من الإنصاف الإقرار بأن تعريف بعض الفقهاء للزواج، في فقه الإسلام، كان متجها إلى التعريف المنضبط قضاء، ومن هـنا لم تتجل حقيقة مقصد التشريع الإسلامي منه بصورة متكاملة واضحة، أو بتعبير أستاذنا أبي زهرة ، يرحمه الله، أنها تعريفات لم تكشف المقصود من هـذا العقد في نظر الشارع الإسلامي.

فهذا ابن عابدين ، وهو إمام الحنفية في عصره [1198 -1252هـ] يعرفه بأنه: عقد يفيد المتعة، أي حل استمتاع الرجل بامرأة لم يمنع من نكاحها مانع شرعي. [12] [ ص: 159 ]

والمعنى المقصود: أنه قد يفهم بعض الباحثين، لا سيما الحاقدين، أو الجهلة، أو من يجمع بينهما، أن فقه الإسلام قاصر عن بيان حقيقة المراد من عقد الزواج [13] .

ولا يقول بذلك إلا من أصابه شطط القول، وأتبع نفسه هـواها، لأن المودة وحسن العشرة، والرحمة، والسكن مثلا، وهي الأمور التي لم ينص عليها في التعريف لدى بعض الفقهاء أمور عامة لا تنضبط فيها حدود التعريف انضباطا كامـلا، حيث هـي مشاعـر عاطفيـة، لا تخضع للتقنين العقلي الحاسم، بخلاف حل الاستمتاع، فإنه حق منضبط بالاستمتاع الجسدي في الشرعية المنصوص عليها.. وأهل الفقه يتجهون دائما إلى تعريف الأمور بما تنضبط به، دون مالا ينضبط تحديده بكلمات التعريف الموجز، ومن ثم وجب التماس العذر للذين قالوا بهذه التعريفات، لما سبق، ولقصور فهمنا نحن عن استيعاب المراد من مثل التعريف السابق في مجمله وهدفه. [ ص: 160 ]

ومن هـنا كان لبعض البحاثة المعاصرين محاولات، لوضع تعريف لهذا العقد، يكشف عن حقيقة المقصود منه عند الشارع الحكيم [14] ، وهي محاولات كشفت في الحق بعض مقاصد الشارع، لكنها لم تحتوها كلها على الشكل الجامع المانع لكل الحقوق والواجبات، التي لكلا طرفي العقد هـذا، فضلا عن أن بعض الفقهاء قد جاء تعريفه لعقد النكاح قريبا من الكمال المطلوب، لا سيما عند صاحب المبسوط من الحنفية، وغيره من باقي فقهاء المذاهب الأخرى.

بقي أمران في هـذا التحليل الفقهي، وهما:

الأول: أن عقد النكاح في الإسلام ينشأ بإرادة العاقدين، مثله مثل سائر العقود وكافة التصرفات القولية، وإذا ما تم هـذا العقد، ترتبت عليه كافة آثاره الشرعية، بيد أن ثبوت هـذه الآثار، من عمل الشـارع لا تخضع لما يشترطه العاقدان، طالما تناءت هـذه الشروط عن صحيح الشرع ومقصده.. والمعنى: أن الإرادة هـي التي تنشئ العقد [15] ، ثم إن الشارع هـو الذي يرتب على هـذا العقد آثاره، ولهذا يقول الفقهاء: إن العقود أسباب جعلية شرعية، أي أن الشارع هـو الذي جعل العقود أسبابا مفضية إلى آثارها، ولولا هـذا الجعل من الشارع، لما كانت هـذه العقود أسبابا لآثارها. [ ص: 161 ]

يقول ابن تيمية ، يرحمه الله: إن الأحكام الثابتة بأفعالنا، كالملك الثابت بالبيع، وملك البضع الثابت بالنكاح، نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام، والشارع أثبت الحكم، لثبوت سببه منا، لم نثبته ابتداء [16] الثاني: أن هـذا التحليل الفقهي، لم يلحق، أو لم يأت على كافة الجوانب الفقهية لهذا العقد، فحسبنا منه تلك المفاهيم الصائبة، في جوانبها العديدة، التي يمكن توظيفها في شئون الأسرة، والعلاقات بين الجنسين، لمنع نقل الاختلاط الأوروبي الماجن إلى الشرق الإسلامي، هـذا فضلا عن إبعاد أهل الإسلام عن المعالم القبيحة، التي لا يعرف غيرها الدهماء من المنتسبين إلى الإسلام، وبذلك يتم التصالح بين السلف والخلف، والعقل والنقل، والاجتهاد والتقليد.

ثانيـا: غير المسلمين أمام القضاء الإسلامي

1 - قلنا سابقا: إن أهل الكتاب المقيمين في بلاد الإسلام يحدث لهم ما يحدث للناس جميعا من خصومات تتطلب الفصل من القضاء، مع عدم إغفال أن لهم نظما خاصة بهم، وقواعد تحكم عقودهم، وتصرفاتهم، في الزواج، وغير الزواج.

فهل على القاضي المسلم، أن يتعرض لهذه الشريحة الاجتماعية من الناس، بالحكم في زواجهم إقرارا أو فسخا، أو غيرهما، وما يتطلبه ذلك [ ص: 162 ] من حيثيات تبنى عليها الأحكام القضائية، أو حتى الأوامر القضائية [17] ؟ وإذا تعرض لهم في ذلك، فهل يجري عليهم أحكام الإسلام، أو أحكام دينهم؟ أو أن عليه أن يتركهم وشئونهم، ليتحاكموا إلى أناس منهم؟

2 - وأصل هـذه المسألـة التشريعي، قـول الحـق سبحانه في اليهود: ( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ) (المائدة: 42) ، وفي آية أخرى يقول ربنا سبحانه، مخاطبا نبيه عليه الصلاة والسلام ، كما في النص السابق: ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ) (المائدة: 49) ، وفي صحيح السنة المطهرة أمر للمسلمين، إلى جانب ما سبق، بترك أهل الذمة، وما يدينون به، وأنه يجب على المسلمين الوفاء لهم بكل ما تعاهدوا عليه.. وشارح المنتقى، نص صراحة على صحة عقود أنكحتهم، وإن لم توافق الإسلام، فإذا أسلموا أجرينا عليهم في الأنكحة أحكام المسلمين [18] . [ ص: 163 ]

3 - تأسيسا على ما سبق نرى للفقهاء المسلمين في هـذه المسألة أقوالا ثلاثة، وهي:

أ - وجوب الحكم فيما بينهم إذا ترافعوا إلينا فقط.

ب - وجوب الحكم فيما بينهم وإن لم يرضوا بالقضاء الإسلامي.

جـ - القاضي المسلم مخير في الحكم بينهم أو الإعراض عنهم، إذا ما رفعوا أمورهم إليه [19] 4 - ويركن القول الأول إلى أن التخييـر الذي دلت عليه الآيـة السابقة، قد نسخه الله سبحانه وتعالى بآية أخرى، في ذات السـورة، وهي: ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ) ، وفي هـذا يذكر ابن عباس رضي الله عنهما ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في الحكم بين أهل الكتاب، إن شاء حكم بينهم، أو أعرض عنهم، وردهم إلى أحكامهم، حتى نزلت هـذه الآية التي تأمره أن يحكم بينهم بما أنزل الله في كتابه.

وقد نسب الجصاص إلى الحسن رضي الله عنه

، تأييدا لهذا القول، أنه قال: خلوا بين أهل الكتاب وبين حاكمهم، وإذا ارتفعوا إليكم، فأقيموا عليهم ما في كتابكم [20] . [ ص: 164 ]

أما القرطبي فنقل عن الزهري في معرض تأييده لهذا الرأي أيضا قوله: مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله، فيحكم بينهم بكتاب الله [21] ود أيد هـذا الرأي الدكتور محمد يوسف موسى، رحمه الله [22] ، وقال: إنه قول انتهى إليه كل من الجصاص والقرطبي بعد استعراض الرأيين الآخريينفاحكم بينهم ، ودليل كل منهما، والظاهر أنه لا فرق يذكر في التطبيق العملي لهذا الرأي بين أن يأتي أهل الكتاب إلى القاضي المسلم عن رغبة أو غيرها، فالمناط هـنا حضورهم إلى القاضي المسلم، وعرض وقائع دعواهم عليه دون نظر إلى الباعث على ذلك، وما أكثره في هـذه الأيام.

5 - أما القائلون بطلاقة حرية القاضي في الحكم بينهم، أو الإعراض عنهم، فقد خرجـوا قولهـم على ظاهـر النـص السـابـق: ( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ) (المائدة: 42) ، فهـذه الآيـة نـص صريح في تخيير الحاكم بين الحكم، إذا جاءوه، وبين الإعراض عنهم، وردهم إلى من يحكم بينهم من أهل دينهم، على أنه إن اختار الحاكم الحكم بينهم، فعليه الحكم بالعدل الذي يراه، وفقا لنصوص القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية المطهرة. هـذا إذا كان أطراف الدعوى [ ص: 165 ] كافة أهل كتاب، أما إذا كان أحد أطرافها مسلم، فإن من المجمع عليه من الفقهاء، أن على الحاكم المسلم أن يحكم بين المسلم والذمي، وأنه مخير في الحكم بين الذميين في رأي بعضهم، لأن الآية محكمة غير منسوخة، ومن هـؤلاء الفقهاء إبراهيم النخعي ، والشعبي ، والشافعي ، وغيرهم، رحمهم الله أجمعين.

وللقرطبي، يرحمه الله، كلام طيب في ذلك، ومضمونه: أن زواج أهل الكتاب وطلاقهم، وما يتصل بهما خاصة، يجب فصله عن غيره من المسائل، فهم ليس عليهم أن يتدينوا بديننا، وفي الحكم بينهم في المسائل التي تتعلق بأحوالهم الشخصية من قبلنا إضرار بهم، وتغيير لملتهم، وليس كذلك المسائل الأخرى كالديون والمعاملات، لأن فيها وجها من المظالم وقطع الفساد [23] .

6 - ولعل الرأي الأخير الذي يرى وجوب الحكم فيما بينهم، وإن لم يرضوا بالقضاء الإسلامي، أضعف هـذه الأقوال جميعا، وبيان ذلك أن هـذا الرأي قاس أمور الزواج والطلاق على الجنايات، حيث يحتج من قال به بأن الذمي، إذا اقترف جريمة مثل السرقة، يجب قطع يده كالمسلم سواء بسواء، وبهذا تكون أحكام الشريعة الإسلامية سارية عليهم، وإن لم يرفعوا خصوماتهم للقاضي المسلم. [ ص: 166 ]

والحق أن هـذا قياس مع الفارق، لما يلي:

أ - الجرائم يترتب عليها إخلال بالمجتمع والنظـام العام، لأنها اسم لفعل محرم شرعا، سواء وقع الفعل على نفس أو مال، أو غير ذلك [24] ، ومن ثم وجب ألا تترك بدون عقاب متى وقعت، من مسلم أو غير ذلك، كما يجب أن يكون العقاب في نطاق الشريعة التي جاءت للعالم كله.

أما أمور الزواج، وما يتصل به، فليس فيها ما يخل بالمجتمع، فلا ضرورة لإلزامهم فيها بأحكام الإسـلام، لا سيمـا وأنا أمرنـا بتركهـم وما يدينون، بغض النظر عن رأي من يستميت في تقرير أن الإسلام توسع بالسيف، وإكراه الشعوب على الدخول فيه بالقوة. بيد أنهم إذا ترافعوا إلينا في هـذه الناحية، فالمفاد أنهم رضوا بأحكام الإسلام، وعندئذ لا مناص من الحكم بينهم بأحكام الشرع الحنيف.

ب - أن الفقهاء عندما بحثوا مسألة الأسباب العامة لامتناع القصاص، أثاروا قضية انعدام التكافؤ بين المجنى عليه والجاني، ونظروا إلى التكافؤ من ناحية المجنى عليه وحده، لا من ناحية الجاني، واعتبروا الإسلام أحد معايير انعدام التكافؤ، وكانت القاعدة عند الأئمة، مالك ، والشافعي ، وأحمد ، رحمهم الله، أن الذمي لا يكافئ المسلم. [ ص: 167 ] بيد أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله، يرى أن الذمي يكافئ المسلم ما دام معصوم الدم، وليس في عصمته شبهة، ومن ثم فهو يوجب القصاص من كليهما للآخر [25] . ووجه الدلالة من ذلك، الفصل التام عند الأئمة في الجنايات، وما يتعلق بالأحوال الشخصية لغير المسلمين، مما يقدح في دستورية القياس الذي قال به أصحاب هـذا الرأي [26]

ثالثا: الأصول التي تحكم زواج غير المسلمين

1 - كل زواج يبـدأ بمرحلـة تمهيديـة له تسمـى الخطبـة، التـي لا تزيد في الشرع الإسلامي عن كونها وعدا بالزواج في المستقبل، ومن ثم لا تقوم مقام عقد النكاح من حيث الآثار والحقوق المترتبة عليه. أما الخطبة عند الأقباط الأرثوذكس، فتعني عقدا بين رجل وامرأة، يعد فيه كل منهما الآخر بالزواج في أجل محدد، وتثبت الخطبة في وثيقة يحررها كاهن من كهنة الكنيسة، مدونا بها كافة البيانات اللازمة، ومحددا بها موعد الزواج، على أن تعلق في لوحة الإعلانات بالكنيسة. [ ص: 168 ]

وفي الشريعة اليهودية شبيها لذلك، حيث يرتبون على الخطبة معظم آثار الزواج، عدا حلية المخالطة الجسدية [27] 2 - الزواج مرحلة تالية للخطبة في كل الديانات، ولهذا الزواج أصول وأحكام وآثار تختلف عن أحكام وآثار الخطبة، ومن الأصول التي تحكم زواج غير المسلمين ما يلي:

أ - كل زواج صحيح بين المسلمين فهو صحيح بين غيرهم بالضرورة والقطع، وهذا أمر لم يخالف فيه أحد من الفقهاء، عدا الإمام مالك ، رحمه الله، الذي يرى أن عقود زواج غير المسلمين لا تكون صحيحة، حتى ولو استوفت شروط الصحة لدى المسلمين، لعدم إسلام الزوج، ومن هـنا لا يجوز لنا أن نتولاهم، ونقوم بعقدها فيما بينهم [28] .

ب - كل زواج حرم أو فسد بين المسلمين لفقد شرط من شروط صحته، يكون جائزا في حق غيرهم، إذا اعتقدوا صحته، ويقرون عليه بعد الإسلام، ولبيان ذلك نقول: الشهادة مثلا تعد شرطا لإنشاء عقد الزواج وصحته ابتداء عند أكثر الفقهاء [29] ، فلا ينعقد الزواج بدونها، [ ص: 169 ] ولو حصـل إعلانـه بوسيلـة أخرى، فلا بـد من الشهـادة عليه، حتـى لا يجحده أحدهما فيما بعد فيضيع نسبه.

وتأسيسا على ما سبق يكون زواج غير المسلم بلا شهادة، أو في عدة آخر، غير مسلم، صحيحا، إذا كان هـذا جائزا في دينهم، ثم لو أسلما أقررناهم عليه، كما يرى الإمام أبو حنيفة ، رحمه الله [30] ، بيد أنه لو تزوج ذمي امرأة كتابية في عدة مسلم، كان العقد غير صحيح، حيث العدة حق واجب للمسلم، يجب رعايته واحترامه.

جـ - كل زواج حرم لعدم الحلية، كان جائزا أيضا بينهم على الأصح، إن كانوا يرونه جائزا، ويقصد بعدم الحلية هـنا: أن تكون الزوجة محرمة أو مطلقة ثلاثا، أو معتدة لمسلم، فلو تزوج غير المسلم امرأة ذات رحم محرم منه، كابنة أخيه، أو أخته، أو تزوج مطلقته ثلاثا قبل أن تحل له بزواجها بغيره، ودخوله بها، أو جمع بين الأختين، كان لهذه الأمثلة حكم الصحة عند بعض من فقهاء الإسلام، ولهذا يقضى فيها بنفقة الزواج إذا طلبت.

أما بعض آخر من الفقهاء، فيرى أنها فاسدة أو باطلة، لأنها تصادم معان سامية قررها الإسلام، مثل عـدم قطيعـة الرحـم، وهـذه المعـاني [ ص: 170 ] لا يجب الفصل في رعايتها بين المسلم وغيره، وأهل الذمة يعرفون حرمة مثل هـذه العقود، لإقامتهم بدار الإسلام، فيكونون مخاطبين بها [31]

رابعا: الشريعة الواجبة التطبيق على غير المسلمين

الزواج وما يتعلق به من أمس الأحوال للإنسان، فمن الواجب رعاية عقيدته وشريعته فيه، والمعنى أن تكون شريعة الكتابي هـي الواجبة التطبيق عليه، في هـذه المسائل، على أن إعراضنا عن الكتابيين في ذلك، ليس على سبيل التقرير والحكم بصحة ما يفعلون، كما يقول السرخسي ، يرحمه الله [32] ، وإنما على سبيل تنفيذ أوامر شرعنا نحن أهل الإسلام، حيث أمرنا بتركهم وما يدينون به، اتباعا لما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى ولو كانوا يتزوجون من ذوات المحارم فيما بينهم، وعلمناه ما لم يترافعوا إلينا.

وفي هـذا يذكر الإمام الكرخي ، وهو ما يقوله كثير غيره من الحنفية : إن فساد هـذه الأنكحة يريد زواج ذات المحرم كالبنت والأخت في حق المسلمين ثبت، لما تؤدي إليه من قطع الرحم، وخوف الجور في قضاء الحقوق وغير ذلك. [ ص: 171 ]

وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين المسلم وغيره، إلا أنه مع الحرمة والفساد لا يتعرض لهم قبل رفع الأمر إلينا، وقبل الإسلام، لأنهم تدينوا بذلك، ونحن أمرنا بتركهم وما يدينون، كما لا يتعرض لهم في عبادة غير الله، وإن كانت محرمة) [33] .

والنتيجة الطبيعية لذلك، هـي أن الشريعة الواجبة التطبيق عليهم في قضايا الزواج، وما يتصل به، هـي شريعة المتقاضيين ماداما على دينهما ولم يختلفا إلى قضاء الإسلام، لكن لو حصل أمر من هـذين الأمرين، تكون الشريعة الإسلامية هـي الواجبة التطبيق، لأنهما بالترافع أمام القضاء الإسلامي، يعتبران راضيين بحكم الإسلام، وإذا صارا مسلمين فعلا، كان لا حكم بينهما إلا حكم الدين الذي انتقلا إليه.

بل لقد نسب السرخسي إلى إمام مذهبه ( الإمام أبو حنيفة : 80-150هـ) ، أنه لو دفع أحد أهل الكتاب الأمر للقضاء الإسلامي، ولم يرض بذلك صاحبه، لم يكن للقاضي المسلم التعرض لهما، التزاما لما جاء في كتاب الله: ( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ) (المائدة: 42) ، فالشرط مجيئهما معا إلى قاضي الإسلام مترافعين، لا مجئ أحدهما فقط [34] . [ ص: 172 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية