الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
أولا: شرعية قرار تنظيم النسل

أ - في شرع الإسلام الحكم رفيق المصلحة، لايفارقها، يوجد حيثما توجد، في أي زمان أو مكان، فالأحكام قد تتغير بتغير علتها، ومن ذلك حكم المؤلفة قلوبهم ؛ حيث شرع الله إعطاءهم من الزكاة، ( وأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال الله كثيرا، وقال في بعض المواضع: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي؛ تأليفا لقلبه ) [1] . وهؤلاء المؤلفة قلوبهم، منهم من كان مسلما ضعيف الإيمان، ومنهم من كان على دينه، أعطاهم ليقوي إيمان الأول، ويحبب الثاني في الإسلام.

مضى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، " ثم حدث في زمن أبي بكر رضي الله عنه ، ما رواه الجصاص في تفسيره عن ابن سيرين ، عن عبيـدة ، قال: جاء عيينـة بن حصـن والأقـرع بن حابـس إلى أبي بكر ، فقالا: يا خليفة رسول الله، إن عندنا أرضا سبخة، ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها. فأقطعها إياهما، وكتب لهما عليها كتابا فأشهد، وليس في القوم عمر ، فانطلقا إلى عمر ليشهد لهما، فلما سمع عمر ما في الكتاب، تناوله من أيديهما فمحاه، فتذمروا، وقالا مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتلفكما [ ص: 94 ] والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أغنى الإسلام، اذهبا فاجهدا جهدكما، لا يراعى الله عليكما، إن رعيتما... فترك أبو بكر الإنكار عليه. " [2]

وهذا دليل يؤكد على أن من الأحكام ما يدور مع المصالح، ويتبدل بإجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم [3] . كما أنه يعني أن المقصود الأصلي من إثبات الأحكام ونفيها إما جلب مصلحة، أو دفع مضرة، أو مجموع الأمرين بالنسبة للناس [4] ونسأل: أي مصلحة تعود على المسلمين بتنظيم نسلهم، أوتحديده؟ قد يقال: ضرورات الأوضاع الاقتصادية، التي يعيشها أكثر أهل الإسلام.

فنقول: ليس ذاكم العلة، إنما العلة الحقيقية في تخلف المسلمين اقتصاديا، ومعاناتهم اجتماعيا، ووقوعهم بين يدي إدارات متطاولة [ ص: 95 ] أفرزتها صور التخلف، تقول في صلف وزهو ما حكاه القـرآن عـن فرعـون : ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) (غافر: 29)

المصلحة الحقيقية: وضع الخطط والبرامج الإنتاجية لهذه الأجيال، وما يليها؛ لتعمل وتنتج وتثمر، والأخذ بأسباب العلم على طلاقة مفهومه. فاكتشاف القوى والأسرار مفاتيح لخزائن السماوات والأرض، ترفع مستوى معيشة الناس، وتوسع في دائرة الرفاه لديهم.

ب - إن تنظيم النسل، أو تحديده، لا يدخل في مقصد واحد من مقاصد الشريعة ؛ لأن المقاصد الضرورية هـي التي تتوقف عليها حياة الناس الدينية أو الدنيوية، بحيث لو فقدت اختلت الحياة في الدنيا، وحل العقاب في الآخرة [5] .

ولا يتصور عاقل أن عدم تنظيم النسل يخل بالحياتين معا؛ الدنيا والآخرة، كما لا يتصور عاقل أيضا أن عدم تحديد النسل يهدد الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.

أما المقاصد الحاجية؛ وهو التي يحتاج إليها الناس لرفع المشقة والحرج عنهم، وبفقدها يصيبهم حرج ومشقة [6] ، فلا علاقة لها أيضا بتنظيم النسل، أو تحديده. وقد يقول قائل: إن المقاصد الحاجية تعني [ ص: 96 ] الرخص المخففة عند زيادة المشقة؛ كالقصر في السفر، والإفطار في المرض في العبادات، وإباحة الصيد، والتمتع بما حل من لذة المأكل، والمشرب، والملبس، والمسكن، والمركب في العادات.

أقول: قد يقول قائل ذلك كله؛ وصولا إلى أن الشرع رخص على العباد؛ تخفيفا عند حاجتهم إلى ذلك، فلم الحظر، وحاجة الناس قائمة، في تنظيم النسل أو تحديده؟

وجواب ذلك من وجهين:

الأول: إن الناس ليسوا في حاجة إلى تحديد النسل أو تنظيمه، إنما هـم في حاجة إلى ولي أمر يرعى حق الله فيهم بعد أن تنعقد إمامته لهم بإجماع من الأمة عن بكرة أبيهم، كما يرىأبو بكر الأصم ، أو بأهل الحل والعقد، كما يرى غيره [7] أما الوجه الثاني: فإن الحاجة قد تكون عامة؛ وهي ما يكون فيها الاحتياج شاملا لجميع الناس. وقد تكون خاصة؛ وهي ما يكون فيها الاحتياج خاصا بطائفة معينة من الناس؛ كأهل بلد أو حرفة. وقد تكون فردية؛ وهي ما يكـون فيها الاحتياج خاصا بفرد أو أفراد لا تجمعهم رابطة واحدة. [ ص: 97 ]

ونسأل: هـل أهل الإسلام جميعا في حاجة إلى تنظيم نسلهم أو تحديده، وغيرهم ليسوا في حاجة إلى ذلك؟ ولماذا؟ وإذا كانت بعض البلاد الإسلامية في حاجة إلى ما طلبته وثيقة المؤتمر فعلا، فإنه يشترط فقها في الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، كما تقول مجلة الأحكام العدلية [8] : أن تكون متعينة؛ ومعنى تعيينها: أن تنسد جميع الطرق المشروعة للوصول إلى الهدف، سوى طريق واحد، في الأصل غير مرخص فيه شرعا؛ لأنه لو أمكن الوصول إلى الهدف عن طريق آخر لا حظر فيه، فإن الحاجة لا تكون موجودة في الواقع، ولهذا منع الفقهاء إجارة الغنم لشرب لبنها، كما منعوا بيع لبنها في ضرعها؛ لأن الحاجة غير متعينة؛ إذ في الإمكان شراء اللبن بعد أن يحلب، بينما أجازوا اتفاقا إجارة الظئر [9] ؛ لأن الإرضاع لا يكون إلا عن هـذا الطريق، فالحاجة إلى ذلك متعينة [10] . [ ص: 98 ]

ونسأل ثانية: هـل انغلقت أبواب التنمية، والرفاه الاقتصادي والاجتماعي في وجه بعض البلاد الإسلامية، ولم يبق لها إلا القفز فوق سلم الشرع؟ هـل استثاروا الأرض، وعمروها أكثر مما عمرها غيرهم؟ وتوشك الأرض أن تأخذ زخرفها عند غيرهم، وتزدان لهم، وتتحول إلى خادم طيع لأهوائهم، والمسلمون أمم كثيفة العدد، تذلها الديون التي أخذتها، وتكاد تنقض ظهرها، ومع الديون ربا فاحش، وبذلك فلتت الدنيا من أيدي أكثرهم، ولا يبق إلا الدين، حتى الثراء الذي ناله بعضهم عارية من الله لم يثمر عن كثير نفع.

التنمية ليست طريقها ذاك المقترح من الأمم المتحدة في وثيقة مشبوهة، خلعت كل قيود الفضيلة، والعفة، إنما سعة المعرفة ذريعة إلى سعة الثروة. والأخذ بخبرة الغير في أمور الدنيا لا يحظره الشرع؛ لأنه طريق من طرق خدمة الآخرة، فقط يحتاج أهل الإسلام إلى مراجعة سريعة لمسارهم الفكري، وفقههم المالي، ومنه يستخرجون كنوزا دفينة، تعلمهم كيف يزاحمون إلى الصدارة، في الدنيا والدين.

بقيت المقاصد التحسينية؛ وهي ما لا يدخل في النوعين السابقين، بل يرجع إلى اجتناب ما تأنفه العقول الراجحات، وإلى الأخذ بمحاسن العادات، وما تقتضيه المروءات، ويجمع ذلك مكارم الأخلاق، ورعاية أحسن المناهج في العادات، والمعاملات، ولا أتصور أن من مكارم الأخلاق أو من حسن المنهج في العادات والمعاملات صدور قرار رسمي يحدد عدد الأبناء والبنات لكل رب أسرة من الرعية. [ ص: 99 ]

علينا أن نعلم أخيرا أن مصالح الخلق لا تخرج عن هـذه الأنواع الثلاثة من المقاصد، والدليل على ذلك الاستقراء لأحكام الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وبحث ما انطوت عليه هـذه المقاصد. وإذا بات ذلك مقطوعا به، وهو كذلك، أصبح من المقطوع به أيضـا أن لا ضرورة، ولا حاجة، ولا تحسين في قرار يحدد النسل أو ينظمه من قبل ولي أمر المسلمين.

جـ - لا يمكن قياس قرار تنظيم النسل أو تحديده على ما جاء في العزل [11]

[12]



[13]



[14]

[15]



[16] [17] [18] [19]

[20] ، على رأي من يقول بشرعيته؛ لأن العزل رخصة مناطة بحكم الأفراد، ومعلوم في الشرع أن الرخص لا تعمم، فكيف يجعل من الرخصة حكما عاما للأمة؟ صحيح أن من حق الإمام تقييد المباح [ ص: 100 ] إذا أثمر ذلك عن مصلحة، لكن من جانب آخر فإن بعض الأفعال المباحة قد تترك؛ لما يترتب على فعلها من المفاسد. [ ص: 101 ] وإذا كان ابن قدامة الفقيه الحنبلي قد قرر وغيره معه بأن العزل رخصة حيث ذكر ما نصه: (إن الترخيص بالعزل وإباحته قال به جمع من الصحابة والتابعين، وقال به مالك والشافعي وأصحاب الرأي) . [ ص: 102 ] وجاء في الفتح الرباني: (باب الرخصة في العزل) [21] . فإن الشاطبي يرحمه الله بين ذلك وفصله، وهو في ذلك يقول: ( العزيمة ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء، ومعنى كونها كلية: أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هـم مكلفون دون بعض، ولا ببعض الأحوال دون بعض؛ كالصلاة مثلا، فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم، في كل شخص، وفي كل حال.

وأما الرخصة، فما شرع لعذر شاق، استثناء من أصل كلي، يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه [22] والحاجـة إذا ما عمت كانت كالضرورة كما يقول السيوطي [23] .

ولا نجد مبررا فقهيا واحدا على ضوئه يحق لولي الأمر إصدار نظام يحدد بموجبه عدد النسل لدى الرعية، فليست بالناس أجمعين أعذار شاقة تحتم إصدار نظام بذلك فتسقط من التكاليف، والأعمال الشاقة عند من يعتبر الذرية من هـذا القبيل، وإنما مقتضى الرخصة أن تناط بعمل الأفراد أنفسهم، ومدى ظروف كل واحد.

وكما لا يصح الاحتجاج هـنا بأن ولي الأمر يملك تقييد المباح إذا ما بنى عليه مصلحة -هذا إذا ما اعتبر أن ذلك الذي نعرضه للبحث الفقهي مباحا- فإن قرار ولي الأمر هـنا لا يتفق وصحيح الشرع [24] . [ ص: 103 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية