الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
رابعا : المساواة والميراث

1 - قد يتساءل بعضهم: لماذا أعطيت المرأة نصف نصيب الرجل في الميراث مع أنها أضعف منه، بل وأحوج منه للمال؟ أليس هـذا ظلما أوقعه الإسلام بالضعيف؟ وفي ذات الوقت يقدح بالمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق، لا سيما المالية!

والجواب : أنه ليس من الظلم في شيء أن يكون نصيب المرأة النصف من نصيب الرجل، حيث إنها مكفية المؤنة والحاجة، فنفقتها كاملة - في كل شيء - واجبة ابتداء على أبيها، أو ابنها، أو أخيها، أو غيرهم من الأقارب، ثم هـي أي النفقة واجبة انتهاء على من جعل الله له القوامة : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) (النساء : 34) ، فالقرآن جعل من أسباب قوامة الرجال على النساء: ما أنفقوا من أموالهم.

وثبوت نفقة الزوجة، جاءت به نصوص كثيرة في القرآن، والسنة المطهرة [1] .. وسبب وجوب هـذه النفقة: القرار في بيت الزوجية، وهنا تبرز العدالة، والمساواة، يقول ابن الهمام : والنفقة واجبة للزوجة على زوجها، مسلمة كانت أو كافرة [كتابية] إذا سلمت نفسها إلى منزله [ ص: 82 ] فعليه نفقتها، وكسوتها، وسكناها .. ثم يدلل رحمه الله على ذلك بالنصوص، والقياس على أن من حبس نفسه لصالح جهة، فقد وجبت نفقته على هـذه الجهة، مثل الوالي، والقاضي، والمفتي، الذين تجب نفقتهم على الدولة، لأنهم حبسوا أنفسهم على القيام بمصالحها [2] .. والمثلية في المعاوضة إن جاز التعبير أو المساواة في الحقوق المالية، تظهر واضحة إذا ما علمنا أن النفقة هـنا واجبة في جانب الرجل.

2 - والذين ينتقدون شريعة الإسلام في مبدأ المساواة - في هـذا الموضع - أصابت الخروق والعوار تشريعاتهم، فالقانون الفرنسي يوجب مساهمة الزوجة في النفقة، في كل حال، باعتبار ذلك وضعا طبيعيا [3] بينما لو اشترط الزوج المسلم في عقد النكاح مثل هـذا الشرط، صح العقد، وبطل الشرط لمنافاته لمقتضى العقد وآثاره في الفقه الإسلامي. والأنكى من ذلك أن مقتضى إيجاب النفقة الزوجية على الزوجين معا، في النظام الفرنسي، لا يسوى بينهما في رئاسة الأسرة، وما يتضمنه معنى القوامة عليها.. فالزوج له في الأسرة المكان الأسمى، وإن كان لا يمنحه السيادة الكاملة.. والمصادر الإسرائيلية الأولى، تقرر سيادة الرجل على المرأة، حيث ورد الخطاب فيها لحواء : (إلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك ) [4] . [ ص: 83 ] والحكم ذاته في مصادر المسيحية الأولى، فقد جاء في رسالة بولس إلى أهل أفسيس : (أيتها النساء أخضعن لرجالكن كما للرب، لأن الرجل هـو رأس المرأة، كما أن المسيح أيضا رأس الكنيسة، وهو مخلص الجسد، ولكن كما تخضع الكنيسة للمسيح، كذلك النساء لرجالهن في كل شيء) [5] .. فما رأي الذين يولون وجوههم جهة معنى المساواة الشكلية، التي ينادون بها، حيث يتم تقاسم الأعباء المالية بين الزوجين؟!

3 - الإسلام أعطى الذكر ضعف الأنثى في الميراث، ولم يكلفها بالإنفاق على أحد، بخلاف الرجل، فتكليفاته تأخذ أكثر من مسار تشريعي، مما يكثر من نفقاته، ويضخم من التزاماته، فحاجته إلى المال أكبر، ليدفع مهرا، وينفق على المسكن، والمطعم، والملبس، للزوجة، والولد، ويدفع أجر تعليم، وعلاج... إلخ، مما يجعل المساواة قائمة، فهي أي المرأة تشارك في الإرث دون أن تتحمل شيئا من التبعات، لأنها تأخذ ولا تعطي، وتغنم ولا تغرم، مع أن القاعدة: الغنم بالغرم .

ومن الأمثلة التوضيحية على ذلك، التي تظهر تحقق فكرة المساواة، وتبين حكمة التشريع الإلهي في التفريق بين ميراث الذكر، والأنثى، مايلي: [ ص: 84 ]

- لنفرض أن رجلا مات، وترك ولدين فقط، ذكرا وأنثى، وترك ميراثا تسعة أسهم في شركة، فطبقا لشرع الإسلام، يأخذ الذكر: ستة أسهم، وتأخذ الأنثى : ثلاثة أسهم، فإذا أراد الذكر الزواج فإنه يدفع مهرا لزوجته لنفرض أنه: ستة أسهم، مما يعني أنه دفع كل ما ورثه عن أبيه، مهرا لزوجته، ثم هـو مكلف شرعا بعد ذلك بكل النفقات: سكن، وطعام، وشراب، وعلاج، وتعليم... إلخ، مما يعني حاجته إلى ضعف ما ورثه عن أبيه.

- أما الأنثى إذا تزوجت، فهي تأخذ مهرا من زوجها، ولنفرض أنه: ستة، هـذا فضلا عما ورثته فأصبح مجموع ما لديها: تسعة، مع أنها غير مكلفة بإنفاق أي شيء من مالها، مهما كانت غنية، ولنبحث إذن عن المساواة في المال بعد ذلك! ومن العجب أن هـؤلاء الذين يتباكون على المرأة، هـم أنفسهم الذين ضنوا عليها بلقمة العيش، وبخلوا عليها بالنفقة، وألزموها بالنزول إلى المصنع، والمعمل والحانوت، والمكتب، لتتكسب، وتنفق على نفسها من مالها الذي جمعته، فأفسدوا بذلك حياة الأسرة.. وإلى جانب التكسب، تبتذل وتهان، ثم تكون معرضة للشيطان، وحبائله، فهي متعة، وشهوة بلا عوض مبذول، وفي ذات الوقت محرومة من التصرف حتى في أموالها الخاصة إلا بإذن الرجل فأفسدوا بذلك حياة الأسرة. [ ص: 85 ]

يقول القرطبي يرحمه الله في التعليق على آيات المواريث [6] : وكل ما كتبه العلماء في القديم والحديث، وكل ما ألفوه في علم المواريث، فإنما هـو بيان وتوضيح لهذه الآيات الكريمة، التي جمعت فأوعت، وقسمت فعدلت، وأحكمت التشريع، وفصلت التوزيع، وأبانت لكل ذي حق حقه، دون محاباة أو مراءاة: ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) (النساء: 11) [7] ومهما يكن من أمر، فإن المطالبة ببناء العلاقة الزوجية، على أساس التسوية التامة بين الجنسين، تحت مقتضيات العصرية، والتحضر، والحرية، والإنسانية... إلخ، تعني تزييفا لوعي المسلمين، وخروجا صارخا على أصول الشرع الإسلامي، وجحودا للوحي السماوي، وكفرا بصحة ما أنزله الله، وشرعه، وارتضاه لخلقه، فهي مطالبة تمس صميم العقيدة الإسلامية، وليس مجرد اختلاف في وجهات النظر، بشأن الأمور الاجتماعية في دنيا الناس.. ومن ناحية أخرى فإن العلاقات بين الزوجين، لايمكن رصدها وضبطها من خلال مقررات تشريعية وضعية، لأنها أدق وأخطر من ذلك، وجل الله الخالق البارئ المصور الشارع. [ ص: 86 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية