الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
خامسا: المساواة وشهادة المرأة أمام القضاء

1 - تعني الشهادة لغة : إخبارا بصحة عن مشاهدة، وعيان.. وهي في الاصطلاح الفقهي: إخبار صادق في مجلس الحكم، بلفظ الشهادة، لإثبات حق على الغير، ولو بلا دعوى.. فتدخل بهذه الضوابط، الشهادات المبنية على التسامح في الأمور التي تقبل فيها الشهادة بالتسامح، كالموت، فإنها شهادات مقبولة شرعا، وإن كانت عن غير مشاهدة ومعاينة، وكذا الحكم في شهادات الحسبة فإنها مسموعة فقها، وإن لم يتقدمها دعوى.

والشاهد مأمور شرعا بأداء الشهادة، للنهي عن كتمانها.. والنهي عن الشيء، أمر بضده.. وسبب هـذا الأمر، أن بها تحيا الحقوق وتثبت، وبدونها تموت وتضيع.. والحقوق التي يراد إثباتها بالشهادة كثيرة متنوعة، فحق العبد، يشترط لوجوب أداء الشهادة فيه، شروط معينة، قد تختلف مع بعض الشروط الأخرى المطلوبة في حق الله أو غيره.

ولصحة أداء الشهادة شروط، منها ما يرجع للشاهد، ومنها مايرجع للمشهود به، ومنها مايرجع لنفس الشهادة، ومنها ما يرجع لمكان الشهادة.. والمعنى المأخوذ من شروط الشهادة كلها، أن الشهادة فيها معنى الولاية على المشهود عليه، لأن بها يلزم الحق، ومن هـنا ردت شهادة الصبي، لأنه لا ولاية له على نفسه، فلا ولاية له على غيره [ ص: 87 ] من باب أولى.. ومن هـذه الشروط أيضا، المتعلقة بالشاهد، وهي خاصة ببعض الموضوعات: الإسلام إذا كان المشهود عليه مسلما، والذكورة في الحدود القصاص.

وأصل هـذا الحكم، ما روي عن ( الزهري ) ، أنه قال: مضت السنة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والخليفتين من بعده رضوان الله تعالى عليهما، أنه لا تقبل شهادة النساء في الحدود والقصاص، لأنهما مما يدرأ بالشبهة، وشهادة النساء لاتخلو عنها، لما جبلن عليه من السهو والغفلة، وهذا بخلاف الأموال. [1] 2 - يشترط في مكان الشهادة شرط واحد، هـو أن يكون مجلس القضاء، سواء كان قضاء قاض أم محكم، فلو كانت الشهادة في غيره لاتصح.. وعلة ذلك فقها، أن الشهادة حجة ملزمة، ولاتكون كذلك إلا بحكم الحاكم، فتختص بمجلسه.

ومن هـنا تأتي الغاية من جعل شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، كما جاء في قوله تعالى في سورة البقرة : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) (البقرة : 282) ، [ ص: 88 ] وهذه الغاية لها شقـان هـمـا : التكـريم والتخفيـف. أما التكريم فلأن الشهادة تؤدى في مجلس القضاء، وقد تستحي أو تتأذى من حضورها في هـذا المجلس، لهيبته ورهبته، فأبعدها الشارع قدر الإمكان عن ذلك، فلم يجعل لها شهادة إلا في بعض المواضع التي لا يطلع عليها إلا النساء، أو إذا لم يتوفر الشهود من الرجال، خشية ضياع الحقوق بترك الشهادة.. وأما التخفيف، فلأن الشهادة في المعاملات المالية، ومايقوم مقامها من المعاوضات والمرأة في الأصل لا تشتغل بذلك فإذا شهدت فيها وحدها ربما تنسى المشهود عليه، أو تخطئ فيه، لأن الإنسان لا يتذكر إلا الأشياء التي يكثر اشتغاله بها، فيجعل المولى سبحانه شهادتها مع امرأة أخرى خوف الخطأ أو النسيان [2] .

3 - وللمسألة وجه آخر، ذكره صاحب المنار، يرحمه الله [3] ، ومضمونه: أن الله تعالى جعل شهادة المرأتين شهادة واحدة، فإذا تركت إحداهن شيئا من الشهادة، كأن نسيته أو ضل عنها، تذكرها الأخرى، وتتم شهادتها.. والفرق بين شهادة المرأة وشهادة الرجل في هـذا الموضوع إجرائيا أن القاضي عليه أن يسأل إحدى المرأتين بحضور الأخرى، ويعتد بجزء الشهادة من إحداهن، وبباقيها من الأخرى، وأما الرجال فعليه - أي القاضي - أن يفرق بينهم، فإذا قصر أحد الشاهدين أو نسي، فليس للآخر أن يذكره، وإذا ترك شيئا تكون الشهادة باطلة. [ ص: 89 ]

أما القاضي ابن العربي، فله على هـذه المسألة تعليقات عديدة، من أهمها [4] :

أ - أن الصياغـة اللفظيـة للنص القرآني: ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ) ، من ألفاظ الإبدال، فكأن ظاهره يقتضي ألا تجوز شهادة النساء إلا عند عدم شهادة الرجال، كحكم سائر أبدال الشريعة، مع مبدلاتها، وهنا ليس كذلك، فالقول يتناول حالة وجود الرجال، وحالة العدم.. ولا شك أن هـذا تفسير يميل ميزانه لصالح مركز المرأة في الشهادة.

ب - لما جعل الله شهادة امرأتين بدل شهادة الرجل، وجب أن يكون حكمها حكمه، فكما يحلف مع الشاهد اليمين، كذلك يجب أن يحلف مع شهادة امرأتين بمطلق هـذه العوضية.

جـ - ويمكن أن يقال زيادة على ما سبق قوله إن المماثلة أو المساواة في الشهادة بين الرجل والمرأة، قائمة موجودة، وواقعة في دنيا الناس.. وبيان ذلك، أن هـناك مواضع ترد فيها شهادة النساء، فلا تقبل تكريما أو تخفيفا للنساء، أو تحريا للعدالة، أو مراعاة لأصل الخلقة، والجبلة في شرائح بني البشر، ويقابل ذلك مواضع لاتقبل فيها شهادة الرجال، فالعوضية قائمة بينهمـا، كمـا أن المـرأة إن نقصـت قوتهـا فلا تقاتل، [ ص: 90 ] ولايسهم لها، فإن هـذا النقص ليس من فعلها هـي [5] .

فهذا عدل الله، يفعل ما يشاء، ويقضي ما أراد، ويمدح، ويلوم، ولايسأل عما يفعل، والخلق يسألون، ولأنه خلق المخلوقات منازل، ورتبها مراتب، وبين ذلك لحكمة عنده، وعلمنا، فآمنا، ولانملك إلا التسليم.

د - ومن أحسن ماقرأت في هـذا الموضوع، ما ذكره ابن الهمام يرحمه الله، وفيه نجد ملامح عناصر المساواة بين الرجل والمرأة، في الشهادة واضحة، ونصه [6] : (إن أهليتها - يقصد المرأة - بالولاية، والولاية مبنية على الحرية، والنساء في هـذا كالرجال، في أهلية التحمل، وهو بالمشاهدة، والضبط، والنساء في ذلك كالرجال، ولهذا قبلت روايتهن لأحاديث الأحكام الملزمة للأمة، فعن هـذا يقال، والله تعالى أعلم: إن جعل الشارع الاثنتين في مقام رجل، ليس لنقصان الضبط، ونحو ذلك، بل لإظهار درجتهن أكثر من الرجال، لكثرة الواردات على خاطر الرجال، وشغل بالهم بالمعاش والمعاد، وقلة الأمرين في جنس النساء.

ويبقى بعد ذلك القول: إن قوامة الرجل على المرأة، تعني أنه أمين عليها، يتولى أمرها، ويصلحها في حالها، وعليها له الطاعة.. والنص في الذكر الحكيم، يؤكد على علو درجة الرجل على المرأة: [ ص: 91 ] ( وللرجال عليهن درجة ) (البقرة228) . وقوامية الرجل على المرأة، تعني التفضيل عليها، ووجه الأفضلية منصوص عليه بكمال العقل والتمييز، وكمال الدين، والطاعة، وبذل المال من الصداق أو النفقة... لكن هـذه الأفضلية، أفضلية جنس، وليس أفراد، وهذا بدروه يقترب من فكرة المساواة في الشهادة.. ولأن درجة علو الرجل أتى بها الذكر الحكيم منكرة مجملة، غير مبين المراد بها، اختلف العلماء فيها كثيرا [7] . وهذا أيضا لا يتنافى من الاقتراب من فكرة المساواة في الشهادة حسب ما ذكرناه.. وحسب النساء في الشهادة بالنسبة للمشهود عليه، من الحقوق، قبول شهادتهن في الجنايات، التي ليس موجبها القصاص كالدية والإرث، سواء أكانت جناية على النفس أو العضو، طالما كان موجب الجناية المال، هـذا فضلا عن قبول شهادتهن في الحقوق الأخرى - غير ما نص على منعهن عنه - وعدم اشتراط العدد فيهن في بعض المواضع، وقد خرج ذلك على قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( شهادة النساء جائزة... ) و (ال) في النساء للجنس، والجنس كما يصدق على المتعدد، يصدق على الواحد [8] [ ص: 92 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية