الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الأمر الثالث: الزنا والإجهاض فـي شـريعـة أهـل الكتـاب

1 - طالما انتهينا وبحق إن شاء الله إلى أن الشريعة الواجبة التطبيق على أهل الكتاب، لا سيما في قضايا الأحوال الشخصية، هـي شريعتهم التي خوطبوا بها، لزم لإتمام الفائدة، بيان حكم الزنا والإجهاض في هـذه الشريعة.

ولعل عرض حكم هـذه المسألة في الشريعة الإسلامية، والشرائع الكتابية الأخرى، يبين لنا وحدة المصدر التشريعي للأديان السماوية، واتساق الأحكام والأهداف والغايات، كما يكشف لنا عن الواقع المر، وانفكاك الصلة تماما بين ما جاء به التشريع السماوي لليهود والنصارى، وبين الواقع الحياتي لهم في هـذا الشأن، والذي بلغ غاية قصوى في الغثاثة والبطلان.. وموجز ما يقال عن هـذه الجريمة في فقه الإسلام، أن:

2 - الزنا ومن بعده الإجهاض، أمران محرمان في الشريعة الإسلامية تحريما قاطعا [1] ، اقرأ إن شئت قول الحـق سبحـانـه: ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله [ ص: 173 ] إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين * الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) (النور: 2 3) [2]

وموجز فقه هـذا النص الكريم وغيره، الذي يتعلق بهذه الجريمة، أن الحد يردع المحدود، ومن شهده وحضره يتعظ به، ويزدجر لأجله، ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده.

3 - النظام الجنائي الإسلامي، هـو النظام القانوني الوحيد بين النظم القانونية المعروفة للعالم المعاصر، الذي يعاقب على الزنا، مجردا عن أي اعتبار آخر، كما أنه النظام القانوني الوحيد، الذي لا يجعل لرضا الزانيين أثرا أيا ما كان في العقوبة على فعلهما، وهذا الاتجاه العقابي [3] بني على أمرين، فيما نعتقد، وهما:

الأول: تكوين وبناء المجتمع على أساس سليم

فالإسلام منح الإنسان، باعتباره فردا، شخصية مستقلة، وجعله في الوقت نفسه لبنة في بناء المجتمع المسلم.. وبالاعتبار الأول أثبت له [ ص: 173 ] حق الملكية، لماله ودمه وعرضه، ومنحه في هـذه الدائرة حق التصـرف بما فيه مصالحه دون مساس بحق غيره.

وبالاعتبار الثاني أوجب عليه للمجتمع حقا في نفسه، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، كما حثه على أن يعمل إن كان قادرا على إيجاد النسل القوي الصالح الذي يرفع بقوته وصلاحه صرح المجتمع على كاهله، ومقابل هـذه الواجبات التي فرضها الإسلام على الفرد للمجتمع، أثبت له حقوقا أخرى على المجتمع، فكلف المجتمع الممثل في الحاكم وأولي الأمر، بحفظ دمه، وماله، وعرضه، وشرع لحماية ذلك العقوبة، من قصاص، وحد، وتعزير، وبذلك تبادل الفرد مع المجتمع، في فقه الإسلام، الحقوق والواجبات.. وشيوع الزنا في المجتمع، يجعل هـذه الصورة المثالية لحياة الناس، تضطرب، ويذهب بريحها عفن الزنا وآثاره من الأطفال اللقطاء، والأمراض التي عجز العقل البشري حتى الآن عن ملاحقتها وحصادها [4] .

الثاني: التكييف الفقهي لحد الزنا

يبنى هـذا التكييف على اعتبارات عديدة، من أهمها:

أ - أن حد الزنا حق لله تعالى، والأصل أن الحد يعتبر حقا لله تعالى، [ ص: 175 ] إذا استوجبته المصلحة العامة للناس.. وهل هـناك مصلحة لهم أكبر من دفع الفساد عنهم، وتحقيق الصيانة والسلامة لهم؟!

وليس هـذا في الزنا وحده، فكل جناية ذات حد يرجع فساد وقوعها إلى العامة، ومنفعة عقوبتها عليهم، تعتبر العقوبة المقررة عليها حقا لله تعالى، تأكيدا لتحقيق النفع، ودفع المضرة.. ومن المعروف أن عقوبة الحد، لا تقبل عفوا، ولا صلحا، ولا إبراء، ولا تخفيضـا، ولا استبدالا.

وهذه المصلحة التي تناط بحد الزنا، رجما أو جلدا، وتغريبا، غير محبوسة بقيد، بمعنى أنها على طلاقتها، إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية.

يقول الشاطبي ، رحمه الله: الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم، حتى يكونوا عبـادا لله، وهـذا المعنـى إذا ثبـت، لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت [5] .

ب - الاعتبار الثاني هـو قيام هـذه الشريعة على أساس أخلاقي أولا وقبل كل شيء، فالأعمال والتصرفات والمواقف توزن كلها في ميزان هـذه الشريعة، مقابلة بقربها أو بعدها من المثل الأخلاقية، التي جاء بها الشرع الحنيف، ففي ظله القائم قبل كل شيء على إقرار الأخلاق الفاضلة، يكون من غير الطبيعي ألا نجد تشريعاته تهتم هـذا الاهتمام [ ص: 176 ] بالعقاب على السلوك المنافي للأخلاق الفاضلة، حيث يمثل ذلك اعتداء على نظام الأسرة، وهو حجر الزاوية في إقامة النظام الاجتماعي الإسلامي.

وإقرار ذلك فقها، يعني ردا حاسما على قول المرجفين بأن عقوبة الزنا تمثل تدخلا صارخا في حرية الناس الشخصية، لأن هـذه الحرية من وجهة نظر الشارع الحكيم مكفولة، إذا ما كانت خارج نطاق الأوامر والنواهي، التي يقررها الشرع، أما حيث يكون هـناك أمر ونهي، فإن المسلمين جميعا بما فيهم السلطان، مقيدون بهذه الأوامـر والنواهـي، لا يجوز لأحد تعديها، إلا أن يكون عاصيا لله ورسوله، محادا لهما، وحينئذ يستوي في ذلك المؤمن وغير المؤمن.

الزنا في الشريعة اليهودية

التوراة تعاقب على الزنا، وتعتبره أمرا محرما، بل تفرض عليه عقوبة الرجم، كما هـي مفروضة في الشريعة الإسلامية [6] ، بيد أن هـذه العقوبة غير مطبقة الآن في الشريعة اليهودية، حتى في إسرائيل، حيث يزعمون قيام دولتهم على أساس العقيدة الدينية لليهود [7] ، وقد جاء في التلمود منسوبا إلى موسى عليه السلام ، قوله: [ ص: 177 ] (لا تشته امرأة قريبك، فمن يزني بامرأة قريبه يستحق الموت) [8] ، وإذا كان هـذا هـو حكم التوراة لجريمة الزنا، فإن اليهود بعد تحريفهم لما جاء في التوراة من أحكام، قد غيروا كثيرا من أحكام جريمة الزنا، حيث يرون أن اليهودي لا يخطئ إذا اغتصب امرأة مسيحية، لأن زواج المسيحيين هـو من قبيل وطء الحيوانات لبعضها [9] .

ولا يتصور عاقل أن التوراة، وهو كتاب وصفه القرآن الكـريم بالنور: ( إنا أنزلنا التوراة فيها هـدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هـادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ) (المائدة: 44) ، كما أنه كتاب سماوي نزل من عند الله على موسى عليه السلام ، هـذا فضلا عن أن القرآن وصفه بأن محتواه هـو حكم الله: ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ) (المائدة: 43) .

أقول: لا يتصور عاقل أن يحتوي هـذا الكتاب المقدس على مثل ما جاء به اليهود في شأن جريمة الزنا، ومنه: (إن الزنا بغير اليهود جائز، لأن الأجانب من نسل الحيوانات) [10] . [ ص: 178 ]

الزنا في الشريعة المسيحية

ذات الحكم السابق في شأن جريمة الزنا عند اليهود، قاله الإنجيل، وقد وصف إنجيل برنابا الزنا بأنه: برص النفس [11] .

وقد جاء في هـذا الإنجيل ما نصه: (الزناة تعانقهم الأفاعي الجهنمية، وأما الذين كانوا قد زنوا بالبغايا، فستتحول كل أعمال هـذه النجاسة فيهم إلى غشيان جنيات الجحيم، اللواتي هـن شياطين بصور نساء، شعورهن من أفاعي، وأعينهن كبريت ملتهب، وفمهن سام، ولسانهن علقم، وجسدهن محاط بشصوص مريشة...الخ) [12] وقد نسب هـذا الإنجيل إلى المسيح عيسى عليه السلام في معرض حديثه عن الزنا قوله: (احفظ جسدك كفرس، تعش في أمن) [13] وهذه النصوص وغيرها يستفاد منها حرمة الزنا في الشريعة المسيحية، بل إن هـناك من النصوص عندهم ما يسقط حقوق الزوجة، إذا خالفت الشرع، أو الأدب، أو زنت، فإذا ثبت زناها شرعا حرمت على زوجها، وكلف بطلاقها بلا حقوق، إلا إذا كان الزنا اغتصابا [14] والذي لا شك فيه، أن الخصائص أو الاعتبارات، التي على أساسها حرم الزنا في الشريعة الإسلامية، هـي في جوهرها الخصائص [ ص: 179 ] أو الاعتبارات، التي على أساسها حرم الزنا في الشريعتين اليهودية والنصرانية، لأن الزنا شر متفاقم أثره على الناس.. وشرع الله، من مقوماته النهي الدائم المستمر عن الشر.. والتوراة والإنجيل قبل تحريفهما، من شرع الله سبحانه وتعالى ، الذي يعالج ما يتعلق بطبع الإنسـان، وما ركب فيـه من ميـول وغرائـز وجنـوح للشهوات: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد: 25) . والذي لا شك فيه أيضا، أن حرمة الزنا تقتضي حرمة مقدماته، كما تقتضي حرمة توابعه، والذي يمثله الإجهاض بغرض التخلص من آثار الزنا، أو من الذرية، هـو تابع رئيس لهذه الجريمة البشعة.

لكن ضرام الشهوات، البادي في حضارة الغرب، الذي لا علاقة له بدين سماوي، يهوديا كان أو نصرانيا، يأبى إلا أن يهاجم أهل الإسلام في عقر دارهم، من خلال وثيقة مؤتمر السكان، على الرغم من أن أضعف الإيمان القول: بأن اليهود والنصارى، أقوام خوطبوا بما جاء في كتبهم السماوية، ومن ثم وجب انصياعهم لأحكامها، لكنه الانطواء على الأمراض النفسية العفنة، التي تتظاهر بالغيرة على صور التدين، مع أن الهدف نماذج محقورة، للانحلال والفسوق، جاء تسويقها دوليا تحت علم الأمم المتحدة، في وثيقة مؤتمر السكان والتنمية الدولي، ومن يدري، ماذا يخبئ الغد، فالليالي حبالى بالحوادث.. فهل يعي أهل الإسلام، وقادة السياسة فيه ذلك؟!. [ ص: 180 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية