الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ب- الواقع المعاصر

1- تآكل الأخلاق في الأسرة عند أهل الإسلام، مرده أولا وأخيرا، أو العلة فيه، البعد عن الوظائف التكليفية الشرعية، وهو بعد يتعدد الوظائف الشرعية، ويختلف باختلاف أنواعها، لأن الله سبحانه وتعالى ( لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ( الرعد: 11) .

وهذا التآكل الخلقي للأسرة، جعل أهل الإسلام يعيشون هـذا الانحطاط تلكم القرون العديدة التي رانت على صدورهم، ومن ثم كان الانهيار الاجتماعي، والضعف اللذان يسرا سبيل السيطرة الأجنبية، وزيادة التفكك، والتدهور، وهو تدهور بلغ من العموم، والإطلاق درجة جد خطيرة.. فمن تزييف لوعي الناس من قبل حاقد أو جاهل، إلى غزو ثقافي بكافة صنوفه.. إلخ. [ ص: 41 ]

2- وقد اقترن ذلك بفقر وتفاوت واضح في الدخل والثورة، وظلم اجتماعي اقتصادي، ثم عجز عن الإبداع كاد يذهب بالرونق الروحي لتعاليم الإسلام، على الرغم من أن جموع المسلمين ترتبط ارتباطا وثيقا بالإسلام، وهي تواقة بكل إخلاص إلى صحوته وسيادته، مما أعطى صورة محزنة للمعايير مناط التكاليف في الشريعة الإسلامية، كما أوجد هـوة واسعة بين المسلم الذي وصفه القرآن الكريم والسنة المطهرة، والمسلم فعلا في عالم اليوم حيث الجهل، والخيانة، والغش، والفساد والانحلال، والظلم، الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم ، ووصفه بالظلمات [1] على الرغم من أن قيام العدل، هـو إحدى الوظائف الأساسية لقيام الدولة في الإسلام [2] ، بل هـو أهم وظائف الدولة في الإسلام.

3- إن الحالة الاقتصادية الاجتماعية المتردية، الخاوية من العدل للعالم الإسلامي اليوم، قتلت الإبداع، والإلهام، حيث نرى اليأس، والبؤس، والفقر عند الكثرة من الناس، إلى جانب غطرسة الوفرة عند بعضهم الآخر، فالاحتياجات الدنيا للفقراء _ وما أكثرهم _ من الطعام، والكساء والتعليم، والإسكان، والنقل، والتسهيلات الطبية، لا تسد ما يؤمن كفايتهم، ويحقق كرامتهم، باعتبارهم ضمن خلفاء الأرض. [ ص: 42 ]

كما أن الغالبية العظمى من المسلمين، تنفق ساعات طويلة في العمل الشاق، لاستيفاء ضرورياتها، حيث لا يبقى لديهم فسحة من الوقت، ولا قليل فائض من المواد يمكنها من الاستجمام أو البناء الفكرى، والأخلاقي، هـذا في الوقت الذي يثرى فيه بعض منهم دون جد يذكرن مما أثمر عن:

أولا: ضياع ما يسمى بالفروض الأخلاقية السياسية عند أكثر المسلمين [3] كالوفاء بالعهد، وإخلاص المرء في عمله، ومراقبة الله سبحانه وتعالى في كل ما يعمل، واستعداده للتعاون مع سائر الجماعة في كل أعمال البر، ووجوب النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين، وعامتهم.. وعلى الجملة، ضياع ما يمكن أن يسمى ( بالضمير السياسي) ، الذي يكون رقيبا على أعمال صاحبه، وعلى أعمال المسلمين [4] . [ ص: 43 ] سلوكية وقيم أخلاقية، ونظم تشريعية، هـو العامل المشترك بين أفراد الأمة [5] ، مما يعني نقل الإسلام للبشرية في تكوين الإطار السياسي، من الدولة القبلية، والمجتمع القبلي، والدولة القومية، والمجتمع القومي، إلى الدولة الإنسانية العقائدية.

ومن هـنا كانت مدينة الإسلام المشرقة من أفق هـداية القرآن، والتي بنيت أساسا على إصلاح الإنسان ( ومن ثم الأسرة) ، وبالتالي تنتظم حركة الكون، وشئون الاجتماع.. ولا عجب أن نرى جل إصلاح الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم من أهل العلم والولاية الصحيحة، إقامة الحق والعدل والمساواة بين الناس في الحكم، ونشر الفضائل، وقمع الرذائل، وإبطال ما أرهق البشر من استبداد الملوك والأمراء وسيطرة الكهنة، ورجال الدين على العقول والأرواح، فبلغوا بذلك حد الكمال، مما استتبع مدينة سريعة السير، جامعة بين الدين والفضيلة، وبين التمتع بالطيبات والزينة، ارتقت فيها العلوم، والفنون بسرعة غريبة، حتى قال الفيلسوف المؤرخ موسيو غوستاف في كتابه: ( تطور الأمم) : إن ملكة الفنون لم تستحكم لأمة من الأمم فيما دون الثلاثة أجيال الطبيعية إلا للعرب، ويعني بالثلاثة أجيال الجيل المقلد، والجيل المخضرم، والجيل المستقل [6] . [ ص: 44 ]

ثالثا : التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، أحدث هـوة واسعة المحيط بين الأغنياء والفقراء في المجتمع الإسلامي، على اختلاف أقاليمه، وهي هـوة تتسع باستمرار، وتؤدي إلى إضعاف أواصر الأخوة الإسلامية.. ومرد ذلك -إلى حد كبير- وجود أقلية علمانية يدعمها أصحاب المصالح في الداخل، والخارج، ومتغلغلة في الأجهزة الرسمية في أغلب الدول الإسلامية.

وترتب على ذلك، تهميش الأدوار الفاعلة للأسرة في المجتمع الإسلامي، في تربية الأطفال، لأن الآباء في أكثرهم أصبحوا غير قادرين على إنجاز واجباتهم الطبيعية، لقلة ذات اليد، وإن حصل ذلك اقتصر على بعض التغييرات التجميلية التي لا تمس الجوهر، بل إن نظام التعليم نفسه في كثير من البلاد الإسلامية أثر سلبيا على الأسرة باعتبارها المؤسسة الإنسانية الأساسية، بيان ذلك:

أن المعرفة قسمت تقسيما مصطنعا إلى قسمين، علماني، وديني، وأنتج هـذا النظام التعليمي مجموعة تسمى بالعصرية، لكنها تجهل الإسلام وقيمه، ومجموعة متدينة لم تتعلم العلوم العصرية، ولم يكن بوسعها أن تنهض بدور فعال في المجتمع، ثم عجزت المجموعتان عن أن تتصل كل منهما بالأخرى، اتصالا مفيدا لإصلاح المجتمع الإسلامي.

فإحياء القيم الإسلامية عند الناس، بجميع شرائحهم الاجتماعية، أمر لازم، مما يتطلب من أهل السلطة في البلاد الإسلامية، اتخاذ [ ص: 45 ] الإجراءات اللازمة في هـذا الشأن، وهناك عدد كبير من الإصلاحات الأخرى المطلوبة في حقول مختلفة بهدف القضاء على الفساد، والاستغلال، وتدعيم العدالة بكافة فروعها، والإنصاف مع استخدام روادع قوية للمخالفات التي ارتكبها الرفيع، أو الوضيع.. فالتربية في الأسرة ليست وضع البذور في الأرض، أملا في أن يأتي الغيث، وفقط، إنها بذور، وسقي، وتعهد، ومتابعة حتى أوان النضج، والمربون هـم في البيت، والمدرسة، والمسجد، والشارع, والدولة، بما تملكه من قدرات ثقافية واقتصادية وإعلامية، وبذلك يخرج جيل قادر على حمل اللواء ومواجهة الصعاب.. فالتربية، وسيلة، وغاية معا.

رابعا: وثمرة لما سبق ذكره - من واقع - تدخل غير أهل الإسلام في شئون الأسر المسلمة، تحت مسمى الإصلاح.. حيث مفهوم المخالفة يعني: أن فقه الأسرة، عند أهل الإسلام، فاسد يجب إقصاؤه من حياة الناس.. والصحيح كما يقولون في زعمهم، وهو ما أشار إليه مشروع برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية، حيث ذكر في صفحات عديدة، مسمى الأسرة باصطلاح عجيب، وغريب، وقاتل للبشر جميعا، فتعبيره ( أعني مشروع برنامج المؤتمر) يقر كل أنواع الارتباطات بين الناس، الأسرة المتعارف عليها في دنيا الناس، والأنماط الجديدة من الجنس الواحد أو من الجنسين، دون أن يكون عقد زواج! [ ص: 46 ] انظر إلى هـذا التعبير The Family-in-all-its Forms [7] بل إن هـذا المشروع حث الحكومات بما فيها الإسلامية بالطبع، أن تقيم، وتطور الآليات الكفيلة بتوثيق التغييرات المطلوب تنفيذها، لتكون الأسر وفق المسمى السابق، كما أن على الحكومات أن تجري الدراسات بصدد تكوين الأسرة، وهيكلها، ولا سيما بشأن شيوع الأسر المعيشية ذات الشخص الواحد، والأسر ذات الوالد الوحيد، والأسر المتعددة الأجيال.

كل هـذا يقع في عقر دار المسلمين، بينما عالمهم من أقصاه شرقا إلى أقصاه غربا، يكاد يكون عالما موصولا جغرافيا، في حين إنه موصول عقائديا، نسيجه واحد، وكتابه واحد: ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ) ( العنكبوت:49) .

التالي السابق


الخدمات العلمية