الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الأمر الأول: علاقة الإسلام بالديانات الأخرى

أ - إن الله عز وجل شاء أن تكون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة الرسالات السماوية، والتي اختصت عرفا بمدلول كلمة الإسلام، كما أن كلمة (اليهودية) أو (الموسوية) تخص شريعة موسى عليه السلام ، وما اشتق منها، وكلمة (النصرانية) أو (المسيحية) تخص شريعة عيسى عليه السلام ، وما تفرع عنها.

والذي لا شك فيه، أن هـذه الرسـالة الخاتمـة جـاءت دعـوة إنسانية عالميـة، لا تخـاطب قومـا بأعيانهـم ولا جنسـا بذاتـه: ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) (البقـرة: 21) ، ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) (الأعراف: 158) ، ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) (سبأ: 28) .. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عموم بعثته، وعالمية دعوته، فقال: ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود... ) [1] .

والذي لا شك فيه أيضا، أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد أرسل من عند الله بدين بلغ ذروة الكمال، الذي لا كمال بعده، وتوجه الخطاب فيه للعالمين كافة، والنتيجة المنطقية اللازمة لهذا الكمال أن تنقطع صلة الإنسانية عن سائر الرسالات والنبوات السابقة في طاعتها واتباعها، [ ص: 147 ] مع عدم إغفال الإيمان بأصولها المنزلة، لا بما آلت إليه بعد التحريف على يد الأتباع [2] ، على اعتبار أن الإسلام بمعناه العام، هـو دين الأنبياء جميعا، عليهم الصلاة والسلام.

ب - القرآن الكريم شاهد على ما في الكتب السماوية المنزلة قبله، يشهد لأصولها المنزلة بالصدق [3] ، ويشهد عليها وعلى أصحابها بما وقعوا فيه من نسيان حظ عظيم وإضاعته، وتحريف كثير مما بقي وتأويله.

جـ - وإذا كان الإسلام بمعناه العام، هـو دين الأنبياء جميعا عليهم الصلاة والسلام، كما سبق القول، مما يعني أنه لا مجال للتساؤل عن العلاقة بين الإسلام وبين سائـر الأديـان السمـاويـة الأخـرى، هـنـا، إذ لا يسأل عن العلاقة بين الشيء ونفسه، فيا ترى ما هـي العلاقة بين الإسـلام بمعنـاه الخـاص وهـو الديـن الـذي أنـزلـه الله تعالـى عـلـىمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبين الأديان السماوية الأخرى؟ [4] وجواب ذلك على شقين:

الشق الأول: أن شريعة الإسلام، والشرائع السماوية السابقة عليه [ ص: 148 ] وهي في صورتها الأولى لم تبعد عن منبعها، ولم يتغير فيها شيء بفعل الزمان ولا بيد الإنسان، فكل رسول يرسل، وكل كتاب ينزل، يأتي مصدقا ومؤكدا لما قبله، فالإنجيل مصدق ومؤيد للتوراة، والقرآن مصدق ومؤيد للإنجيل والتوراة، ولكل ما بين يديه من الكتاب [5] ، إذ هـناك تشريعات خالدة، لا تتبدل ولا تتغير، مهما تغيرت الأصقاع والأوضاع، ويقابلها تشريعات أخرى جاءت موقوتة بآجال طويلة أو قصيرة، فهذه تنتهي بانتهاء وقتها، ثم تأتي الشريعة التالية لها، بما هـو أوفق وأرفق بالأوضاع الناشئة الطارئة. يقول الدكتور محمد عبد الله دراز يرحمه الله [6] . ما مضمونه في هـذا الصدد: جاء القرآن الكريم فغير الله تعالى فيه بعض الأحكام التي جاءت في التوراة والإنجيل، وقوفا بها عند وقتها المناسب، وأجلها المقدر لها في علم الله سبحانه وتعالى ، وما كان فيها من الأحكام صحيحا موافقا لقواعد السياسة الدينية، لا يغيره، بل يدعو إليه ويحث عليه، وما كان سقيما دخله التحريف، فإنه يغيره بقدر الحاجة، وما كان حريا أن يزداد فإنه يزيده على ما كان في الشرائع السابقة [7] [ ص: 149 ]

وعلى هـذا، فإن الإسلام قد اعترف بالشرائع الأخرى السماوية السابقة كما نزلت على الرسل السابقين، شرائع وديانات قامت على وحدة الذات والصفات الألوهية، وتبشر كتبها بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وتطالب الذين حضروا دعوته من بعدها أن يؤمنوا بالإسلام.

الشق الثاني: أن الشرائع السماوية السابقة على الإسلام، بعد أن طال عليها الأمد، نالها من التغيير والتحريف والكتمان والتبديل ما كان كفيلا بتحويلها عن أصلها، من ديانة توحيد إلى ديانات وثنية في معظم ما بقي منها، بل قل في كلها [8] .. والقرآن حارس وأمين ومهيمن على هـذه الديانات السماوية، وهذه صفة أخرى تضاف إلى صفة اعتراف القرآن بهذه الديانات، إذا لم يعتريها تغيير أو كتمان، ومن ثم إسقاط مبدأ الإيمان عن الذي لا يؤمن بهذه الشرائع، باعتبارها ديانات توحيد تؤمن بالله واليوم الآخر، لأن من شأن القرآن ألا يكتفي بتأييد ما في هـذه الديانات من حق وخير، بل عليه فوق ذلك أن يحميها من الدخيل، الذي عساه أن يضاف إليها بغير حق، وأن يبرز ما تمس إليه من الحقائق التي عساها أيضا أن تكون قد أخفيت منها.

وتأسيسا على ما سبق، يمكن أن نخلص إلى: [ ص: 150 ]

أولا: وحدة المصدر للأحكام التكليفية في الأديان السماوية، قائمة قيام وحدة الهدف تماما، وحتى إن اختلفت وسائل المعالجة فكلها من عند الله سبحانه وتعالى ، كما أن هـدفها الأخذ بالخلق إلى طريق الرشد، وتحرير العقل، وتثبيت التوحيد.

ثانيا: أن شرع من قبلنا شرع لنا، والمراد بشرع من قبلنا ما نقل إلينا من أحكام تلك الشرائع، التي كانوا مكلفين بها على أنها شرع الله عز وجل لهم، وما بينه لهم رسلهم عليهم الصلاة والسلام، مثل تحريم الزنا والسرقة، والقتل، والكفر، فكل نبي دعى لحرمة ذلك وما شاكله، وكذلك نبينا عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.

ولا خلاف في أن الشريعة الإسلامية، نسخت جميع الشرائع السابقة، على وجه الإجمال، كما أنه لا خلاف في أنها لم تنسخ جميع ما جاء في تلك الشرائع، على وجه التفصيل، فالزنى وما يتعلق به من توابع محرم في تلك الشرائع السماوية، وكذلك السرقة، والقتل، والكفر.. كذلك لا خلاف في أن ما نقل إلينا من شرائع من قبلنا، في كتب أصحاب تلك الشرائع، أو على ألسنة أتباعها، ليس بحجة علينا، لأن هـذا النقل فاقد لمصداقيته، لما وقع في كتبهم من تغيير وتحريف، قال تعالى: ( وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من [ ص: 151 ] عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) (آل عمران: 78) [9]

وعلى الجملة، فالمختار عند الحنفية والمالكية، أن شرع من قبلنا شرع لنا، وأنه حجة يلزمنا العمل بها، يقول ابن الحاجب ما نصه: المختار أنه أي النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعث متعبد بما لم ينسخ ، وقال في المنار: وشرائع من قبلنا تلزمنا إذا قص الله ورسوله من غير إنكار [10] .

وبعد، فقد بات من المقطوع به أثرا لعلاقة الإسلام بالشرائع السماوية الأخرى، تحريم الزنا في كافة الشرائع السماوية، وهي حرمة من الإطلاق والعموم، بحيث تشمل الجريمة كاملة الأركان، وكل مقدماتها، بل وكل آثارها، بما في ذلك الإجهاض، إن كان مبعثه على غير ضرورة شرعية، وغايته دفن معالم جريمة حرمها الله في كل الأديان، وخاطب بها بني البشر جميعا من خلال رسله وكتبه [11] [ ص: 152 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية