ذكر غزوة بدر الكبرى
وفي السنة الثانية كانت وقعة بدر الكبرى في شهر رمضان في السابع عشر ، وقيل : التاسع عشر ، وكانت يوم الجمعة .
وكان سببها قتل عمرو بن الحضرمي ، وإقبال في عير أبي سفيان بن حرب لقريش عظيمة من الشام وفيها أموال كثيرة ، ومعها ثلاثون رجلا أو أربعون ، وقيل : قريبا من سبعين رجلا من قريش ، منهم : ، مخرمة بن نوفل الزهري ، فلما سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ندب المسلمين إليهم وقال : هذه عير وعمرو بن العاص قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا [ ص: 13 ] إليها لعل الله أن ينفلكموها . فانتدب الناس ، فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك لأنهم لن يظنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقى حربا .
وكان أبو سفيان قد سمع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يريده ، فحذر واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكة يستنفر قريشا ويخبرهم الخبر ، فخرج ضمضم إلى مكة .
وكانت قد رأت قبل قدوم عاتكة بنت عبد المطلب ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها ، فقصتها على أخيها العباس واستكتمته خبرها ، قالت : رأيت راكبا على بعير له حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته : أن انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ! قالت : فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد ، فمثل بعيره على الكعبة ، ثم صرخ مثلها ، ثم مثل بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ مثلها ، ثم أخذ صخرة عظيمة وأرسلها ، فلما كانت بأسفل الوادي ارفضت ، فما بقي بيت من مكة إلا دخله فلقة منها .
فخرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وكان صديقه ، فذكرها له واستكتمه ذلك ، فذكرها الوليد لأبيه عتبة ، ففشا الخبر ، فلقي أبو جهل العباس فقال له : يا أبا الفضل ، أقبل إلينا . قال : فلما فرغت من طوافي أقبلت إليه ، فقال لي : متى حدثت فيكم هذه النبية ؟ وذكر رؤيا عاتكة ، ثم قال : ما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ! فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يكن حقا ، وإلا كتبنا عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب .
قال العباس : فما كان مني إليه إلا أني جحدت ذلك وأنكرته ، فلما أمسيت أتاني نساء بني عبد المطلب وقلن لي : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، وقد تناول نساءكم ولم تنكر عليه ذلك ! قال : قلت : والله كان ذلك ، ولأتعرضن له ، فإن عاد كفيتكموه . قال : فغدوت اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا مغضب أحب أن أدركه ، فرأيته في المسجد ، فمشيت نحوه أتعرض له ليعود فأوقع به ، فخرج نحو باب المسجد يشتد ، قال : قلت : ما باله قاتله الله ! أكل هذا فرقا من أن أشاتمه ! وإذا هو قد سمع ما لم أسمع ، صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي ، واقفا على بعيره قد جدعه ، وحول [ ص: 14 ] رحله وشق قميصه وهو يقول : يا معشر قريش ، اللطيمة ! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض له محمد وأصحابه ، لا أدري إن تدركوها ، الغوث الغوث ! فشغلني عنه وشغله عني .
قال : فتجهز الناس سراعا ولم يتخلف من أشرافهم أحد إلا أبا لهب ، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ، وعزم أمية بن خلف الجمحي على القعود ، فإنه كان شيخا ثقيلا بطيئا ، فأتاه عقبة بن أبي معيط بمجمرة فيها نار وما يتبخر به وقال : يا أبا علي ، استجمر ، فإنما أنت من النساء . فقال : قبحك الله ، وقبح ما جئت به ! وتجهز وخرج معهم . وعزم عتبة بن ربيعة أيضا على القعود ، فقال له أخوه شيبة : إن فارقنا قومنا كان ذلك سبة علينا ، فامض مع قومك ، فمشى معهم .
فلما أجمعوا على المسير ذكروا ما بينهم وبين بكر بن عبد مناة بن كنانة بن الحارث ، فخافوا أن يؤتوا من خلفهم ، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجي ، وكان من أشراف كنانة ، وقال : أنا جار لكم فاخرجوا سراعا .
وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا ، وقيل : كانوا ألف رجل ، وكانت خيلهم مائة فرس ، فنجا منها سبعون فرسا وغنم المسلمون ثلاثين فرسا ، وكان مع المشركين سبعمائة بعير .