وفي هذه السنة بويع أمير المؤمنين ، وقد اختلفوا في كيفية بيعته ، فقيل : إنه لما قتل علي بن أبي طالب عثمان اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار وفيهم طلحة والزبير ، فأتوا عليا فقالوا له : إنه لا بد للناس من إمام . قال : لا حاجة لي في أمركم فمن اخترتم رضيت به . فقالوا : ما نختار غيرك ، وترددوا إليه مرارا وقالوا له في آخر ذلك : إنا لا نعلم أحدا أحق به منك ، لا أقدم سابقة ، ولا أقرب قرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال : لا تفعلوا فإني أكون وزيرا خيرا من أن أكون أميرا . فقالوا : والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك . قال : ففي المسجد ، فإن بيعتي لا تكون خفية ولا تكون إلا في المسجد . وكان في بيته ، وقيل : في حائط لبني عمرو بن مبذول ، فخرج إلى المسجد وعليه إزار وطاق وعمامة خز ونعلاه في يده متوكئا على قوس ، فبايعه الناس ، وكان أول من بايعه من الناس ، فنظر إليه طلحة بن عبيد الله حبيب بن ذؤيب فقال : إنا لله ! أول من بدأ بالبيعة يد شلاء ، لا يتم هذا الأمر ! وبايعه الزبير . وقال لهما علي : إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتكما . فقالا : بل نبايعك . وقالا بعد ذلك : إنما فعلنا ذلك خشية على نفوسنا ، وعرفنا أنه لا يبايعنا . وهربا إلى مكة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر . وبايعه الناس ، وجاءوا ، فقال بسعد بن أبي وقاص علي : بايع فقال : لا ، حتى يبايع الناس ، والله ما عليك مني بأس . فقال : خلوا سبيله . وجاءوا فقالوا : [ ص: 555 ] بايع . قال : لا ، حتى يبايع الناس . قال : ائتني بكفيل . قال : لا أرى كفيلا . قال بابن عمر الأشتر : دعني أضرب عنقه ! قال علي : دعوه أنا كفيله ، إنك ما علمت لسيء الخلق صغيرا وكبيرا .
وبايعت الأنصار إلا نفيرا يسيرا ، منهم : ، حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وأبو سعيد الخدري ومحمد بن مسلمة ، ، والنعمان بن بشير ، وزيد بن ثابت ، ورافع بن خديج ، وفضالة بن عبيد ، وكانوا عثمانية ، فأما وكعب بن عجرة حسان فكان شاعرا لا يبالي ما يصنع ، وأما فولاه زيد بن ثابت عثمان الديوان وبيت المال ، فلما حصر عثمان قال : يا معشر الأنصار كونوا أنصارا لله ، مرتين ، فقال له أبو أيوب : ما تنصره إلا لأنه أكثر لك من العبدان . وأما فاستعمله على صدقة كعب بن مالك مزينة وترك له ما أخذ منهم ، ولم يبايعه ، عبد الله بن سلام ، وصهيب بن سنان ، وسلمة بن سلامة بن وقش ، وأسامة بن زيد ، وقدامة بن مظعون . والمغيرة بن شعبة
فأما فإنه أخذ أصابع النعمان بن بشير نائلة امرأة عثمان التي قطعت وقميص عثمان الذي قتل فيه ، وهرب به فلحق بالشام ، فكان معاوية يعلق قميص عثمان وفيه الأصابع ، فإذا رأى ذلك أهل الشام ازدادوا غيظا وجدا في أمرهم ، ثم رفعه ، فإذا أحس منهم بفتور يقول له : حرك لها حوارها تحن ، فيعلقها . عمرو بن العاص
وقد قيل : إن طلحة والزبير إنما بايعا عليا كرها ، ( وقيل : لم يبايعه الزبير ولا صهيب ولا سلمة بن سلامة بن وقش . وأسامة بن زيد
فأما على قول من قال : إن طلحة والزبير بايعا كرها فقال ) : إن عثمان لما قتل بقيت المدينة خمسة أيام وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه ، ووجدوا طلحة في حائط له ، ووجدوا سعدا والزبير قد خرجا من المدينة ، ووجدوا بني أمية قد هربوا إلا من لم يطق الهرب ، وهرب سعيد والوليد ومروان إلى مكة ، وتبعهم غيرهم ، فأتى المصريون عليا فباعدهم ، وأتى الكوفيون الزبير فباعدهم ، وأتى البصريون طلحة فباعدهم ، وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يلي [ ص: 556 ] الخلافة . فأرسلوا إلى سعد يطلبونه ، فقال : إني لا حاجة لنا فيها ، فأتوا وابن عمر فلم يجبهم ، فبقوا حيارى . وقال بعضهم لبعض : لئن رجع الناس إلى أمصارهم بغير إمام لم نأمن الاختلاف وفساد الأمة . فجمعوا ابن عمر أهل المدينة فقالوا لهم : يا أهل المدينة أنتم أهل الشورى ، وأنتم تعقدون الإمامة ، وحكمكم جائز على الأمة ، فانظروا رجلا تنصبونه ونحن لكم تبع ، وقد أجلناكم يومكم ، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلن غدا عليا وطلحة والزبير وأناسا كثيرا ! فغشي الناس عليا فقالوا : نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به من بين القرى . فقال علي : دعوني والتمسوا غيري ، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وله ألوان لا تقوم به القلوب ولا تثبت عليه العقول . فقالوا : ننشدك الله ! ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى الإسلام ؟ ألا ترى الفتنة ؟ ألا تخاف الله ؟ فقال : قد أجبتكم ، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم ، إلا أني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه . ثم افترقوا على ذلك واتعدوا الغد .
وتشاور الناس فيما بينهم وقالوا : إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت ، فبعث البصريون إلى الزبير وقالوا : احذر لا تحابه ، ومعه نفر ، فجاءوا به يحدونه بالسيف ، فبايع ، وبعثوا إلى حكيم بن جبلة طلحة الأشتر ومعه نفر ، فأتى طلحة ، فقال : دعني أنظر ما يصنع الناس ، فلم يدعه ، فجاء به يتله تلا عنيفا ، وصعد المنبر فبايع . وكان الزبير يقول : جاءني لص من لصوص عبد القيس فبايعت والسيف على عنقي ، وأهل مصر فرحون بما اجتمع عليه أهل المدينة ، وقد خشع أهل الكوفة والبصرة أن صاروا أتباعا لأهل مصر وازدادوا بذلك على طلحة والزبير غيظا .
ولما أصبحوا يوم البيعة ، وهو يوم الجمعة ، حضر الناس المسجد ، وجاء علي فصعد المنبر وقال : أيها الناس ، عن ملإ وإذن ، إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم ، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارها لأمركم ، فأبيتم إلا أن أكون عليكم ، ألا وإنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح ما لكم معي ، وليس لي أن آخذ درهما دونكم ، فإن شئتم قعدت لكم وإلا فلا أجد على أحد . فقالوا : نحن على ما فارقناك عليه بالأمس . [ ص: 557 ] فقال : اللهم اشهد . ولما جاءوا بطلحة ليبايع قال : إنما أبايع كرها . فبايع ، وكان به شلل ، فقال رجل يعتاف : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أول يد بايعت يد شلاء ، لا يتم هذا الأمر ! ثم جيء بالزبير فقال مثل ذلك وبايع ، وفي الزبير اختلاف ، ثم جيء بعده بقوم كانوا قد تخلفوا فقالوا : نبايع على إقامة كتاب الله في القريب والبعيد والعزيز والذليل ، فبايعهم ، ثم قام العامة فبايعوا ، وصار الأمر أمر أهل المدينة وكأنهم كما كانوا فيه وتفرقوا إلى منازلهم .
وبويع يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة ، والناس يحسبون بيعته من [ يوم ] قتل عثمان .
علي حين استخلف حمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله أنزل كتابا هاديا يبين فيه الخير والشر ، فخذوا بالخير ودعوا الشر ، الفرائض الفرائض أدوها إلى الله تعالى يؤدكم إلى الجنة . إن الله حرم حرمات غير مجهولة ، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها ، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين ، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق ، لا يحل دم امرئ مسلم إلا بما يجب . بادروا أمر العامة ، وخاصة أحدكم الموت ، فإن الناس أمامكم وإن ما [ من ] خلفكم الساعة تحدوكم . تخففوا تلحقوا ، فإنما ينتظر الناس أخراهم . اتقوا الله عباد الله في بلاده وعباده ، إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم . أطيعوا الله فلا تعصوه ، وإذا رأيتم الخير فخذوا به ، وإذا رأيتم الشر فدعوه ، ( وأول خطبة خطبها واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ) ولما فرغ من الخطبة وهو على المنبر قالت السبئية :
خذها إليك واحذرن أبا حسن إنا نمر الأمر إمرار الرسن صولة أقوام كأشداد السفن
بمشرفيات كغدران اللبن ونطعن الملك بلين كالشطن
حتى يمرن على غير عنن
فقال علي :
إني عجزت عجزة لا أعتذر سوف أكيس بعدها وأستمر
[ ص: 558 ] إن لم يشاغبني العجول المنتصر إن تتركوني والسلاح يبتدر
ورجع علي إلى بيته ، فدخل عليه طلحة والزبير في عدد من الصحابة فقالوا : يا علي إنا قد اشترطنا إقامة الحدود ، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في قتل هذا الرجل وأحلوا بأنفسهم . فقال : يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون ، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم ؟ ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم وهم خلاطكم يسومونكم ما شاءوا ، فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون ؟ قالوا : لا . قال : فلا والله لا أرى إلا رأيا ترونه أبدا إلا أن يشاء الله . إن هذا الأمر أمر جاهلية ، وإن لهؤلاء القوم مادة ، وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قط ، فيبرح الأرض [ من ] أخذ بها أبدا . إن الناس من هذا الأمر إن حرك على أمور : فرقة ترى ما ترون ، وفرقة ترى ما لا ترون ، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا ، حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق ، فاهدأوا عني ، وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا . واشتد على قريش وحال بينهم وبين الخروج على حالها ، وإنما هيجه على ذلك هرب بني أمية وتفرق القوم ، فبعضهم يقول ما قال علي ، وبعضهم يقول : نقضي الذي علينا ولا نؤخره ، والله إن عليا لمستغن برأيه وليكونن أشد على قريش من غيره .
فسمع ذلك فخطبهم وذكر فضلهم وحاجته إليهم ونظره لهم وقيامه دونهم ، وأنه ليس له من سلطانهم ( إلا ذاك ) والأجر من الله عليه ، ونادى : برئت الذمة من عبد لا يرجع إلى مولاه . فتذامرت السبيئة والأعراب وقالوا : لنا غدا مثلها ولا نستطيع نحتج فيهم بشيء . وقال : أيها الناس أخرجوا عنكم الأعراب فليلحقوا بمياههم ، فأبت السبيئة وأطاعهم الأعراب . فدخل علي بيته ، ودخل عليه طلحة والزبير وعدة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : دونكم ثأركم فاقتلوه . فقال : ( عشوا عن ذلك ) . فقال : هم والله بعد اليوم أعشى ! وقال :
ولو أن قومي طاوعتني سراتهم أمرتهم أمرا يديخ الأعاديا
وقال طلحة : دعني آت البصرة فلا يفجأك إلا وإنا في خيل . وقال الزبير : دعني آت الكوفة فلا يفجأك إلا وأنا في خيل . فقال : حتى أنظر في ذلك .
[ ص: 559 ] قيل : وقال : أتيت ابن عباس عليا بعد قتل عثمان عند عودي من مكة فوجدت مستخليا به ، فخرج من عنده ، فقلت له : ما قال لك هذا ؟ فقال : قال لي قبل مرته هذه : إن لك حق الطاعة والنصيحة ، وأنت بقية الناس ، وإن الرأي اليوم تحرز به ما في غد ، وإن الضياع اليوم يضيع به ما في غد ، أقرر المغيرة بن شعبة معاوية وابن عامر وعمال عثمان على أعمالهم حتى تأتيك بيعتهم ويسكن الناس ، ثم اعزل من شئت ، فأبيت عليه ذلك وقلت : لا أداهن في ديني ولا أعطي الدنية في أمري . قال : فإن كنت أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية ، فإن في معاوية جرأة ، وهو في أهل الشام يستمع منه ، ولك حجة في إثباته ، كان قد ولاه عمر بن الخطاب الشام . فقلت : لا والله لا أستعمل معاوية يومين ! ثم انصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنه يود أني مخطئ ، ثم عاد إلي الآن فقال : إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت وخالفتني فيه ، ثم رأيت بعد ذلك أن تصنع الذي رأيت فتعزلهم وتستعين بمن تثق به ، فقد كفى الله وهم أهون شوكة مما كان . قال : فقلت ابن عباس لعلي : أما المرة الأولى فقد نصحك ، وأما المرة الثانية فقد غشك . قال : ولم نصحني ؟ قلت : لأن معاوية وأصحابه أهل دنيا فمتى تثبتهم لا يبالوا من ولي هذا الأمر ، ومتى تعزلهم يقولوا : أخذ هذا الأمر بغير شورى وهو قتل صاحبنا ، ويؤلبون عليك ، فتنتقض عليك الشام وأهل العراق ، مع أني لا آمن طلحة والزبير أن يكرا عليك ، وأنا أشير عليك أن تثبت معاوية ، فإن بايع لك فعلي أن أقلعه من منزله ، وقال علي : والله لا أعطيه إلا السيف ! ثم تمثل :
وما ميتة إن متها غير عاجز بعار إذا ما غالت النفس غولها
فقلت : يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع لست صاحب رأي في الحرب ، أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : فقال : بلى : فقلت : أما والله لئن أطعتني لأصدرنهم بعد ورد ، ولأتركنهم ينظرون في دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها في غير نقصان عليك ولا إثم لك . فقال : يا الحرب خدعة ؟ لست من هناتك ولا من هنات ابن عباس معاوية في شيء . قال : فقلت له : أطعني والحق بمالك بينبع وأغلق بابك عليك ، فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك ، فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنك الناس دم ابن عباس عثمان غدا . فأبى علي فقال : تشير علي وأرى فإذا [ ص: 560 ] عصيتك فأطعني . قال : فقلت : أفعل ، إن أيسر ما لك عندي الطاعة . فقال له علي : تسير إلى الشام فقد وليتكها . فقال : ما هذا برأي ، ابن عباس معاوية رجل من بني أمية ، وهو ابن عم عثمان وعامله ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان ، وإن أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم علي لقرابتي منك ، وإن كل ما حمل عليك حمل علي ، ولكن اكتب إلى معاوية فمنه وعده . فقال : لا والله ، لا كان هذا أبدا !
وكان المغيرة يقول : نصحته فلما لم يقبل غششته . وخرج فلحق بمكة .