فلما رأى عمرو أن أمر أهل العراق قد اشتد ، وخاف الهلاك ، قال لمعاوية : هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعا ، ولا يزيدهم إلا فرقة ؟ قال : نعم . قال : نرفع المصاحف ، ثم نقول لما فيها : هذا حكم بيننا وبينكم ، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول : ينبغي لنا أن نقبل ، فتكون فرقة بينهم ، وإن قبلوا ما فيها ، رفعنا القتال عنا إلى أجل .
فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا : هذا حكم كتاب الله - عز وجل - بيننا وبينكم ، من لثغور الشام بعد أهله ؟ من لثغور العراق بعد أهله ؟ فلما رآها الناس قالوا : نجيب [ ص: 668 ] إلى كتاب الله . فقال لهم علي : عباد الله ، امضوا على حقكم وصدقكم ، وقتال عدوكم ، فإن معاوية وعمرا ، وابن أبي معيط ، وحبيبا ، وابن أبي سرح والضحاك ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، أنا أعرف بهم منكم ، قد صحبتم أطفالا ، ثم رجالا ، فكانوا شر أطفال وشر رجال ، ويحكم والله ما رفعوها إلا خديعة ووهنا ومكيدة . فقالوا له : لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله ! فقال لهم علي : فإني إنما أقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب ، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم ، ونسوا عهده ، ونبذوا كتابه . فقال له مسعر بن فدكي التميمي ، وزيد بن حصين الطائي ، في عصابة من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك : يا علي أجب إلى كتاب الله - عز وجل - إذ دعيت إليه ، وإلا دفعناك برمتك إلى القوم ، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان ! قال : فاحفظوا عني نهيي إياكم ، واحفظوا مقالتكم لي ، فإن تطيعوني فقاتلوا ، وإن تعصوني ، فاصنعوا ما بدا لكم . قالوا : ابعث إلى الأشتر فليأتك . فبعث علي يزيد بن هانئ إلى الأشتر يستدعيه . فقال الأشتر : ليست هذه الساعة بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني [ فيها ] عن موقفي ، إنني قد رجوت أن يفتح الله لي ! فرجع يزيد فأخبره ، وارتفعت الأصوات وارتفع الرهج من ناحية الأشتر ، فقالوا : والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل ! فقال علي : هل رأيتموني ساررته ؟ أليس كلمته على رؤوسكم وأنتم تسمعون ؟ قالوا : فابعث إليه فليأتك ، وإلا والله اعتزلناك ! فقال له : ويلك يا يزيد ! قل له : أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت . فأبلغه ذلك ، فقال الأشتر : ألرفع المصاحف ؟ قال : نعم . قال : والله لقد ظننت أنها ستوقع اختلافا وفرقة ! إنها مشورة ( ابن العاهر ) ! ألا ترى إلى الفتح ؟ ألا ترى ما يلقون ؟ ألا ترى ما صنع الله لنا ؟ لن ينبغي أن أدع هؤلاء ! وانصرف عنهم . فقال له يزيد : أتحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلم إلى عدوه أو يقتل ؟ قال : لا والله ، سبحان الله ! فأعلمه بقولهم ، فأقبل إليهم الأشتر وقال : يا أهل العراق ! يا أهل الذل والوهن ! أحين علوتم القوم ، وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها ، وهم والله ، قد تركوا ما أمر الله به فيها ، وسنة من أنزلت عليه ؟ فأمهلوني ( فواقا فإني ) قد أحسست بالفتح . قالوا : لا . قال : أمهلوني عدو الفرس ، فإني قد طمعت في النصر . قالوا : إذن ندخل معك في خطيئتك . قال : فخبروني عنكم متى كنتم [ ص: 669 ] محقين ؟ أحين تقاتلون وخياركم يقتلون ؟ فأنتم الآن إذ أمسكتم عن القتال ، مبطلون أم أنتم الآن محقون ؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم ، وهم خير منكم ، في النار . قالوا : دعنا منك يا أشتر ، قاتلناهم لله ، وندع قتالهم لله ! قال : خدعتم فانخدعتم ، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباه السود ! ( كنا نظن ) صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله ، فلا أرى مرادكم إلا الدنيا ، ألا قبحا يا أشباه النيب الجلالة ! ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا ، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون ! فسبوه وسبهم ، وضربوا وجه دابته بسياطهم ، وضرب وجوه دوابهم بسوطه ، فصاح به وبهم علي فكفوا . وقال الناس : قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما .
فجاء إلى الأشعث بن قيس علي فقال : أرى الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد . قال : ائته . فأتاه ، فقال لمعاوية : لأي شيء رفعتم هذه المصاحف ؟ قال : لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه ، تبعثون رجلا ترضون به ، ونبعث نحن رجلا نرضى به ، نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ، ثم نتبع ما اتفقنا عليه . قال له الأشعث : هذا الحق . فعاد إلى علي فأخبره ، فقال الناس : قد رضينا وقبلنا . فقال أهل الشام . قد رضينا عمرا . وقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج : إنا قد رضينا . فقال بأبي موسى الأشعري علي : قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن ، لا أرى أن أولي أبا موسى . فقال الأشعث وزيد بن حصين ومسعر بن فدكي : لا نرضى إلا به ، فإنه قد حذرنا ما وقعنا فيه . قال علي : فإنه ليس بثقة ، قد فارقني وخذل الناس عني ، ثم هرب مني ، حتى آمنته بعد أشهر ، ولكن هذا أوليه ذلك . قالوا : والله لا نبالي أنت كنت أم ابن عباس ! لا نريد إلا رجلا هو منك ومن ابن عباس معاوية سواء . قال علي : فإني أجعل الأشتر . قالوا : وهل سعر الأرض غير الأشتر ؟ فقال : قد أبيتم إلا أبا موسى ؟ قالوا : نعم . قال : فاصنعوا ما أردتم .
[ ص: 670 ] فبعثوا إليه ، وقد اعتزل القتال ، وهو بعرض ، فأتاه مولى له فقال : إن الناس قد اصطلحوا . فقال : الحمد لله . قال : قد جعلوك حكما . قال : إنا لله وإنا إليه راجعون . وجاء أبو موسى حتى دخل العسكر ، وجاء الأشتر عليا فقال : ألزني ، فوالله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه . وجاء بعمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين إنك قد رميت بحجر الأرض ، وإني قد عجمت الأحنف بن قيس أبا موسى ، وحلبت أشطره ، فوجدته كليل الشفرة ، قريب القعر ، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم ، حتى يصير في أكفهم ، ويبعد حتى يصير بمنزلة النجم منهم ، فإن أبيت أن تجعلني حكما ، فاجعلني ثانيا أو ثالثا ، فإنه لن يعقد عقدة إلا حللتها ، ولا يحل عقدة أعقدها لك ، إلا عقدت أخرى أحكم منها .
فأبى الناس إلا أبا موسى والرضا بالكتاب . فقال : إن أبيتم إلا الأحنف أبا موسى فأدفئوا ظهره بالرجال .
وحضر عند عمرو بن العاص علي ليكتب القضية بحضوره ، فكتبوا : بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين . فقال عمرو : [ اكتب اسمه واسم أبيه ] ، هو أميركم وأما أميرنا فلا . فقال : لا تمح اسم إمارة المؤمنين فإني أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبدا ، لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضا . فأبى ذلك الأحنف علي مليا من النهار ، ثم إن قال : امح هذا الاسم ، فمحي ، فقال الأشعث بن قيس علي : الله أكبر ! سنة بسنة . والله إني لكاتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية فكتبت : محمد رسول الله ، وقالوا : لست برسول الله ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمحوه ، فقلت : لا أستطيع . فقال : أرنيه ، فأريته ، فمحاه بيده وقال : إنك ستدعى إلى مثلها فتجيب . فقال عمرو : سبحان الله ! أنشبه بالكفار ونحن مؤمنون ! [ ص: 671 ] فقال علي : يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين وليا ، وللمؤمنين عدوا ؟ فقال عمرو : والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبدا . فقال علي : إني لأرجو أن يطهر الله مجلسي منك ومن أشباهك . وكتب الكتاب : هذا ما تقاضى عليه ، علي بن أبي طالب ، قاضى ومعاوية بن أبي سفيان علي على أهل الكوفة ومن معهم ، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن معهم ، إننا ننزل عند حكم الله وكتابه ، وأن لا يجمع بيننا غيره ، وأن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته ، نحيي ما أحيا ونميت ما أمات ، فما وجد الحكمان في كتاب الله ، وهما ، أبو موسى عبد الله بن قيس ، عملا به ، وما لم يجداه في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة . وأخذ الحكمان من وعمرو بن العاص علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما ، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه ، وعلى عبد الله بن قيس عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة لا يرداها في حرب ولا فرقة حتى يعصيا ، وأجل القضاء إلى رمضان ، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه ، وإن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل وعمرو بن العاص الشام .
وشهد ، الأشعث بن قيس وسعيد بن قيس الهمداني ، ووقاء بن سمي البجلي ، وعبد الله بن محل العجلي ، ، وحجر بن عدي الكندي وعبد الله بن الطفيل العامري ، وعقبة بن زياد الحضرمي ، ويزيد بن حجية التميمي ، ومالك بن كعب الهمداني ، ( ومن أصحاب معاوية أبو الأعور السلمي ، ، وحبيب بن مسلمة وزمل بن عمرو العذري ، وحمرة بن مالك الهمداني ، وعبد الرحمن بن خالد المخزومي ، وسبيع بن يزيد الأنصاري ) ، وعتبة بن أبي سفيان ، ( ويزيد بن الحر العبسي ) .
وقيل للأشتر ليكتب فيها ، فقال : لا صحبتني يميني ، ولا نفعتني بعدها شمالي ، إن خط لي في هذه الصحيفة [ اسم على صلح ولا موادعة ] ، أولست على بينة من ربي من [ ص: 672 ] ضلال عدوي ، أولستم قد رأيتم الظفر ؟ فقال له الأشعث : والله ما رأيت ظفرا ، هلم إلينا لا رغبة بك عنا . فقال : بلى والله ، الرغبة في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة ، لقد سفك الله بسيفي دماء رجال ما أنت خير عندي منهم ، ولا أحرم دما . قال : فكأنما قصع الله على أنف الأشعث الحمم . وخرج الأشعث بالكتاب يقرؤه على الناس ، حتى مر على طائفة من بني تميم ، فيهم عروة بن أدية أخو أبي بلال فقرأه عليهم ، فقال عروة : تحكمون في أمر الله الرجال ؟ لا حكم إلا لله ! ثم شد بسيفه فضرب به عجز دابة الأشعث ضربة خفيفة ، واندفعت الدابة ، وصاح به أصحاب الأشعث ، فرجع ، وغضب للأشعث قومه ( وناس كثير من أهل اليمن ) ، فمشى إليه ، الأحنف بن قيس ومسعر بن فدكي ، وناس من تميم فاعتذروا ، فقبل وشكر .
وكتب الكتاب يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين ، واتفقوا على أن يوافي أمير المؤمنين علي موضع الحكمين بدومة الجندل أو بأذرح في شهر رمضان . وقيل لعلي : إن الأشتر لا يقر بما في الصحيفة ، ولا يرى إلا قتال القوم . فقال علي : وأنا والله ما رضيت ولا أحببت أن ترضوا ، فإذا أبيتم إلا أن ترضوا فقد رضيت ، وإذا رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرضا ، ولا التبديل بعد الإقرار ، إلا أن يعصى الله ويتعدى كتابه ، فقاتلوا من ترك أمر الله ، وأما الذي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه ( فليس من أولئك ) فلست أخاف على ذلك ، يا ليت فيكم مثله اثنين ! يا ليت فيكم مثله واحدا يرى في عدوي ما أرى ، إذا لخفت علي مؤونتكم ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم ، وقد نهيتكم فعصيتموني ، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن :
[ ص: 673 ] وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
والله لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوة ، وأسقطت منة ، وأورثت وهنا وذلة ، ولما كنتم الأعلين وخاف عدوكم الاجتياح واستحر بهم القتل ، ووجدوا ألم الجراح رفعوا المصاحف ، فدعوكم إلى ما فيها ليفتنوكم عنهم ، ويقطعوا الحرب ، ويتربصوا بكم المنون خديعة ومكيدة ، فأعطيتموهم ما سألوا ، وأبيتم إلا أن تدهنوا وتجيروا ، وايم الله ما أظنكم بعدها توفقون الرشد ولا تصيبون باب الحزم .
ثم رجع الناس عن صفين ، فلما رجع علي خالفت الحرورية وخرجت ، كان ذلك أول ما ظهرت ( وأنكرت تحكيم الرجال ) ، ورجعوا على غير الطريق الذي أقبلوا فيه ، أخذوا على طريق البر ، وعادوا وهم أعداء متباغضون ( وقد فشا فيهم التحكيم ) يقطعون الطريق بالتشاتم والتضارب بالسياط ، يقول الخوارج : يا أعداء الله أدهنتم في أمر الله ، ويقول الآخرون : فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا .
وساروا حتى جازوا النخيلة ، ورأوا بيوت الكوفة ، فإذا بشيخ في ظل بيت عليه أثر المرض ، فسلم عليه أمير المؤمنين ، فرد ردا حسنا ، فقال له علي : أرى وجهك متغيرا ، [ ص: 674 ] أمن مرض ؟ قال : نعم . قال : لعلك كرهته . قال : ما أحب أنه بغيري . فقال : أليس ( احتسابا للخير ) فيما أصابك ؟ قال : بلى قال : فأبشر برحمة ربك وغفران ذنبك ، من أنت يا عبد الله ؟ قال : صالح بن سليم . قال : ممن أنت ؟ قال : أما الأصل فمن سلامان طيء ، وأما الدعوة والجوار ففي سليم بن منصور . فقال : سبحان الله ما أحسن اسمك واسم أبيك ومن اعتزيت إليه ، واسم ادعائك ! هل شهدت معنا غزاتنا هذه ؟ قال : لا والله ، ولقد أردتها ولكن ما ترى من أثر الحمى منعني عنها . فقال : ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ) الآية ، خبرني ما يقول الناس فيما كان بيننا وبين أهل الشام ؟ قال : فيهم المسرور ، وهم أغشاء الناس ، وفيهم المكبوت الآسف بما بينك وبينهم ، وأولئك نصحاء الناس لك . قال : صدقت ، جعل الله ما كان من شكواك حطا لسيئاتك ، فإن المرض لا أجر فيه ، ولكن لا يدع على العبد ذنبا إلا حطه ، وإنما الأجر في القول باللسان والعمل باليد والرجل ، وإن الله - عز وجل - ليدخل بصدق النية والسريرة الصالحة عالما من عباده الجنة . ثم مضى غير بعيد ، فلقيه عبد الله بن وديعة الأنصاري ، فدنا منه وسلم عليه وسايره ، فقال له : ما سمعت الناس يقولون في أمرنا ؟ قال : منهم المعجب به ومنهم الكاره له . قال : فما قول ذوي الرأي ؟ قال : يقولون إن عليا كان له جمع عظيم ففرقه ، وكان حصن حصين فهدمه ، فمتى يبني ما هدم ويجمع ما فرق ؟ ولو كان مضى بمن أطاعه ( إذ عصاه ) من عصاه ، فقاتل حتى يظفر أو يهلك كان ذلك الحزم . قال علي : أنا هدمت أم هم هدموا ؟ أنا فرقت أم هم فرقوا ؟ أما قولهم : لو كان مضى بمن أطاعه فقاتل حتى يظفر أو يهلك ، فوالله ما خفي هذا عني ، وإن كنت لسخيا بنفسي عن الدنيا ، طيب النفس بالموت ، ولقد هممت بالإقدام على القوم فنظرت إلى هذين قد ابتدراني - يعني الحسن والحسين - ونظرت إلى هذين قد استقدماني - يعني عبد الله بن جعفر - فعلمت أن هذين إن هلكا انقطع نسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمة ، وكرهت ذلك ، وأشفقت على هذين أن يهلكا ، وايم الله لئن لقيتهم بعد يومي هذا لألقينهم وليسوا معي في عسكر ولا دار . ومحمد بن علي
[ ص: 675 ] ثم مضى ، وإذا على يمينه قبور سبعة أو ثمانية ، فقال علي : ما هذه ؟ فقيل يا أمير المؤمنين إن توفي بعد مخرجك ، وأوصى بأن يدفن في الظهر ، وكان الناس إنما يدفنون في دورهم وأفنيتهم ، وكان أول من دفن بظاهر خباب بن الأرت الكوفة ودفن الناس إلى جنبه ، فقال علي : رحم الله خبابا ، فلقد أسلم راغبا ، وهاجر طائعا ، وعاش مجاهدا ، وابتلي في جسمه أحوالا ، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا ، ووقف عليها وقال : السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة ، والمحال المقفرة ، من المؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات ! أنتم لنا سلف فارط ، ونحن لكم تبع ، وبكم عما قليل لاحقون ! اللهم اغفر لنا ولهم ، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم ! طوبى لمن ذكر ( المعاد ، وعمل للحساب ، وقنع ) بالكفاف ، ورضي عن الله - عز وجل - ! ثم أقبل حتى حاذى سكة الثوريين ، فسمع البكاء فقال : ما هذه الأصوات ؟ فقيل : البكاء على قتلى صفين . فقال : أما إني أشهد لمن قتل منهم صابرا محتسبا بالشهادة . ثم مر بالفائشيين فسمع مثل ذلك ، ثم مر بالشباميين فسمع رجة شديدة فوقف ، فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي ، فقال له علي : أيغلبكم نساؤكم ؟ ألا تنهونهن عن هذا الرنين ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، لو كانت دارا أو دارين أو ثلاثا قدرنا على ذلك ، ولكن قتل من هذا الحي ثمانون ومائة قتيل ، فليس دار إلا وفيها البكاء ، فأما نحن معشر الرجال ، فإنا لا نبكي ، ولكنا نفرح بالشهادة . قال علي : رحم الله قتلاكم وموتاكم ! فأقبل يمشي معه وعلي راكب ، فقال له علي : ارجع ، ووقف ثم قال له : ارجع ، فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ، ومذلة للمؤمن . ثم مضى حتى مر بالناعطيين ، وكان جلهم عثمانية ، فسمع بعضهم يقول : والله ما صنع علي شيئا ، ذهب ثم انصرف في غير شيء ، فلما رأوه أبلسوا ، فقال علي لأصحابه : وجوه قوم ما رأوا الشام . ثم قال لأصحابه : [ قوم ] فارقناهم آنفا خير من هؤلاء . ثم قال :
أخوك الذي إن أجرضتك ملمة من الدهر لم يبرح لبثك واجما
[ ص: 676 ] وليس أخوك بالذي إن تشعبت
عليك الأمور ظل يلحاك لائما
ثم مضى فلم يزل يذكر الله حتى دخل القصر . فلما دخل الكوفة لم يدخل الخوارج معه ، فأتوا حروراء فنزلوا بها .