قيل : لما أقبلت الخارجة من البصرة حتى دنت من النهروان رأى عصابة منهم رجلا [ ص: 691 ] يسوق بامرأة على حمار ، فدعوه فانتهروه ، فأفزعوه وقالوا له : من أنت ؟ قال : أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له : أفزعناك ؟ قال : نعم . قالوا : لا روع عليك ، حدثنا عن أبيك حديثا سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنفعنا به . فقال : حدثني أبي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " . قالوا : لهذا الحديث سألناك ، فما تقول في تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه ، يمسي فيها مؤمنا ويصبح كافرا ، ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا أبي بكر وعمر ؟ فأثنى عليهما خيرا . قالوا : ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها ؟ قال : إنه كان محقا في أولها وفي آخرها . قالوا : فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده ؟ قال : إنه أعلم بالله منكم ، وأشد توقيا على دينه ، وأنفذ بصيرة . فقالوا : إنك تتبع الهوى ، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها ، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا .
فأخذوه وكتفوه ، ثم أقبلوا به وبامرأته ، وهي حبلى ( متم ) ، حتى نزلوا تحت نخل مواقير ، فسقطت منه رطبة ، فأخذها أحدهم فتركها في فيه ، فقال آخر : أخذتها بغير حلها وبغير ثمن ، فألقاها . ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة ، فضربه أحدهم بسيفه ، فقالوا : هذا فساد في الأرض . فلقي صاحب الخنزير فأرضاه ، فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال : لئن كنتم صادقين فيما أرى ، فما علي منكم من بأس ، إني مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثا ، ولقد آمنتموني قلتم : لا روع عليك . فأضجعوه فذبحوه ، فسال دمه في الماء ، وأقبلوا إلى المرأة فقالت : أنا امرأة ، ألا تتقون الله ! فبقروا بطنها ، وقتلوا [ ص: 692 ] ثلاث نسوة من طيء ، وقتلوا أم سنان الصيداوية .
فلما بلغ عليا قتلهم عبد الله بن خباب ، واعتراضهم الناس ، بعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم ، وينظر ما بلغه عنهم ، ويكتب به إليه ولا يكتمه . فلما دنا منهم يسائلهم قتلوه ، وأتى عليا الخبر والناس معه ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا ؟ سر بنا إلى القوم ، فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام .
وقام إليه ، وكلمه بمثل ذلك ، وكان الناس يرون أن الأشعث بن قيس الأشعث يرى رأيهم ; لأنه كان يقول يوم صفين : أنصفنا قوم يدعون إلى كتاب الله . فلما قال هذه المقالة علم الناس أنه لم يكن يرى رأيهم .
فأجمع علي على ذلك ، وخرج فعبر الجسر وسار إليهم ، فلقيه منجم في مسيره ، فأشار عليه أن يسير وقتا من النهار ، فقال له : إن أنت سرت في غيره لقيت أنت وأصحابك ضرا شديدا . فخالفه علي ، وسار في الوقت الذي نهاه عنه ، فلما فرغ من أهل النهر حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : لو سرنا في الساعة التي أمر بها المنجم لقال الجهال الذين لا يعلمون شيئا : سار في الساعة التي أمر بها المنجم فظفر . وكان المنجم مسافر بن عفيف الأزدي .
فأرسل علي إلى أهل النهر : أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم أقتلهم بهم ، ثم أنا تارككم وكاف عنكم حتى ألقى أهل المغرب ، فلعل الله يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه من أمركم . فقالوا : كلنا قتلهم ، وكلنا مستحل لدمائكم ودمائهم . وخرج إليهم ، فقال لهم : عباد الله ، أخرجوا إلينا طلبتنا منكم ، وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه ، وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم ، فإنكم ركبتم عظيما من الأمر ، تشهدون علينا بالشرك ، وتسفكون دماء المسلمين ! فقال لهم قيس بن سعد بن عبادة عبد الله بن شجرة السلمي : إن الحق قد أضاء لنا ، فلسنا متابعيكم أو تأتونا بمثل عمر ، فقال : ما نعلمه [ فينا ] غير صاحبنا ، فهل تعلمونه فيكم ؟ قالوا : لا . قال : نشدتكم الله في أنفسكم أن [ ص: 693 ] تهلكوها ، فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم .
وخطبهم فقال : عباد الله ، إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها ، أليست بيننا وبينكم فرقة ، فعلام تقاتلوننا ؟ فقالوا : إنا لو تابعناكم اليوم حكمتم غدا . قال : فإني أنشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في القابل . أبو أيوب الأنصاري
وأتاهم علي فقال : أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة ! وصدها عن الحق الهوى ، وطمع بها النزق ، وأصبحت في الخطب العظيم ! إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غدا صرعى بأثناء هذا الوادي وبأهضام هذا الغائط بغير بينة من ربكم ولا برهان مبين ، ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة ، ونبأتكم أنها مكيدة ، وأن القوم ليسوا بأصحاب دين ، فعصيتموني ، فلما فعلت شرطت واستوثقت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ، ويميتا ما أمات القرآن ، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة ، فنبذنا أمرهما ، ونحن على الأمر الأول ؟ فمن أين أتيتم ؟ فقالوا : إنا حكمنا ، فلما حكمنا ، أثمنا ، وكنا بذلك كافرين وقد تبنا ، فإن تبت فنحن معك ومنك ، وإن أبيت فإنا منابذوك على سواء . فقال علي : أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر ، أبعد إيماني برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر ! لقد ضللت إذا ، وما أنا من المهتدين . ثم انصرف عنهم .
وقيل : إنه كان من كلامه لهم : يا هؤلاء ، إن أنفسكم قد سولت لكم فراقي لهذه الحكومة التي أنتم بدأتموها وسألتموها ، وأنا لها كاره ، وأنبأتكم أن القوم إنما طلبوها مكيدة ودهنا فأبيتم علي إباء المخالفين ، وعندتم عنود النكداء العاصين ، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم ، ( رأي معاشر والله ، أخفاء الهام ، سفهاء الأحلام ، فلم آت ) ، لا أبا [ ص: 694 ] لكم ، هجرا ! والله ما ختلتهم عن أموركم ، ولا أخفيت شيئا من هذا الأمر عنكم ، ولا أوطأتكم عشوة ، ولا ( دنيت لكم الضراء ) ، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرا ، فأجمع رأي ملأكم [ على ] أن اختاروا رجلين ، فأخذنا عليهما أن يحكما بما في القرآن ولا يعدواه ، فتاها ، فتركا الحق وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما ، والثقة في أيدينا حين خالفا سبيل الحق ، وأتيا بما لا يعرف ، فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا والخروج عن جماعتنا ، وتضعون أسيافكم على عواتقكم ، ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم ؟ إن هذا لهو الخسران المبين ، والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها ! فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام ؟
فتنادوا : لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيأوا للقاء الله ، ( الرواح الرواح إلى الجنة ! فعاد علي عنهم ) .
ثم إن الخوارج قصدوا جسر النهر ، وكانوا غربه ، فقال لعلي أصحابه : إنهم قد عبروا النهر . فقال : لن يعبروا . فأرسلوا طليعة ، فعاد وأخبرهم أنهم عبروا النهر ، وكان بينهم وبينه عطفة من النهر ، فلخوف الطليعة منهم لم يقربهم ، فعاد فقال : إنهم قد عبروا النهر . فقال علي : والله ما عبروه ، وإن مصارعهم لدون الجسر ، ووالله لا يقتل منكم عشرة ، ولا يسلم منهم عشرة ! وتقدم علي إليهم فرآهم عند الجسر لم يعبروه ، وكان الناس قد شكوا في قوله ، وارتاب به بعضهم ، فلما رأوا الخوارج لم يعبروا كبروا وأخبروا عليا بحالهم ، فقال : والله ما كذبت ولا كذبت ! ثم إنه عبأ أصحابه ، فجعل على ميمنته ، وعلى ميسرته حجر بن عدي ، أو شبث بن ربعي معقل بن قيس الرياحي ، وعلى الخيل ، وعلى الرجالة أبا أيوب الأنصاري ، وعلى أهل المدينة - وهم سبعمائة أو ثمانمائة - أبا قتادة الأنصاري ، وعبأت الخوارج فجعلوا على ميمنتهم قيس بن سعد بن عبادة زيد بن حصين الطائي ، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي ، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي ، وعلى رجالتهم حرقوص بن زهير السعدي .
وأعطى علي راية الأمان ، فناداهم أبا أيوب الأنصاري أبو أيوب فقال : من جاء [ ص: 695 ] تحت هذه الراية فهو آمن ، ومن لم يقتل ولم يستعرض ، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو المدائن ، وخرج من هذه الجماعة فهو آمن ، لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم .
فقال فروة بن نوفل الأشجعي : والله ما أدري على أي شيء نقاتل عليا ، أرى أن أنصرف حتى يتضح لي بصيرتي في قتاله أو أتابعه . فانصرف في خمسمائة فارس حتى نزل البندنيجين والدسكرة . وخرجت طائفة أخرى متفرقين ، فنزلوا الكوفة ، وخرج إلى علي نحو مائة ، وكانوا أربعة آلاف ، فبقي مع ألف وثمانمائة ، ( فزحفوا إلى عبد الله بن وهب علي ) ، وكان علي قد قال لأصحابه : كفوا عنهم حتى يبدأوكم . فتنادوا : الرواح إلى الجنة ! وحملوا على الناس ، فافترقت خيل علي فرقتين : فرقة نحو الميمنة ، وفرقة نحو الميسرة ، واستقبلت الرماة وجوههم بالنبل ، عطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة ، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف ، فما لبثوا أن أناموهم . فلما رأى حمزة بن سنان الهلاك نادى أصحابه : أن انزلوا ! فذهبوا لينزلوا ، فلم يلبثوا أن حمل عليهم الأسود بن قيس المرادي ، وجاءتهم الخيل من نحو علي ، فأهلكوا في ساعة ، فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا .
وجاء إلى أبو أيوب الأنصاري علي فقال : يا أمير المؤمنين قتلت زيد بن حصين الطائي ، طعنته في صدره [ حتى ] خرج السنان من ظهره ، وقلت له : أبشر يا عدو الله بالنار . فقال : ستعلم غدا أينا أولى بها صليا . فقال له علي : هو أولى بها صليا . وجاءه هانئ بن خطاب الأزدي ، وزياد بن خصفة يحتجان في قتل ، فقال : كيف صنعتما ؟ قالا : لما رأيناه عرفناه ، فابتدرناه وطعناه برمحينا . فقال : كلاكما قاتل . عبد الله بن وهب
وحمل جيش بن ربيعة الكناني على حرقوص بن زهير فقتله ، وحمل عبد الله بن زحر الخولاني على عبد الله بن شجرة السلمي فقتله ، ووقع شريح بن أوفى إلى جانب جدار ، فقاتل عليه ، وكان ( جل من يقاتله همدان ، فقال ) :
[ ص: 696 ]
قد علمت جارية عبسيه ناعمة في أهلها مكفيه أني سأحمي ثلمتي العشيه
القرم يحمي شوله معقولا
فحمل عليه قيس أيضا فقتله ، فقال الناس :اقتتلت همدان يوما ورجل اقتتلوا من غدوة حتى الأصل
ففتح الله لهمدان الرجل