ذكر إفريقية والأندلس ولاية عبيد الله بن الحبحاب
في هذه السنة استعمل على هشام بن عبد الملك إفريقية والأندلس عبيد الله بن الحبحاب وأمره بالمسير إليها ، وكان واليا على مصر ، فاستخلف عليها ولده وسار إلى إفريقية ، واستعمل على الأندلس عقبة بن ( الحجاج ، واستعمل على طنجة ابنه إسماعيل ، وبعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن ) نافع غازيا إلى المغرب ، فبلغ السوس الأقصى وأرض السودان ، فلم يقاتله أحد إلا ظهر عليه ، وأصاب من الغنائم والسبي أمرا عظيما ، فملئ أهل المغرب منه رعبا ، وأصاب بالسبي جاريتين من البربر ليس لكل واحدة منهما غير ثدي واحد ، ورجع سالما . وسير جيشا في البحر سنة سبع عشرة إلى جزيرة السردانية ، ففتحوا منها ونهبوا وعادوا . ثم سيره غازيا إلى جزيرة صقلية سنة اثنتين ومائة ومعه ابنه عبد الرحمن بن حبيب ، فلما نزل بأرضها وجه عبد الرحمن على الخيل ، فلم يلقه أحد إلا هزمه عبد الرحمن ، فظفر ظفرا لم ير مثله ، حتى نزل على مدينة سرقوسة ، وهي من أعظم مدن صقلية ، فقاتلوه فهزمهم وحصرهم ، فصالحوه على الجزية ، وعاد إلى أبيه ، وعزم حبيب على المقام بصقلية إلى أن يملكها جميعا ، فأتاه كتاب ابن الحبحاب يستدعيه إلى إفريقية .
[ ص: 225 ] وكان سبب ذلك أنه استعمل على طنجة ابنه إسماعيل ، وجعل معه عمر بن عبد الله المرادي ، فأساء السيرة وتعدى ، وأراد أن يخمس مسلمي البربر ، وزعم أنهم فيء للمسلمين ، وذلك شيء لم يرتكبه أحد قبله ، فلما سمع البربر بمسير حبيب بن عبيدة إلى صقلية بالعساكر طمعوا ونقضوا الصلح على ابن الحبحاب ، وتداعت عليه بأسرها مسلمها وكافرها ، وعظم البلاء ، وقدم من بطنجة من البربر على أنفسهم ميسرة السقاء ثم المدغوري ، وكان خارجيا صفريا وسقاء ، وقصدوا طنجة ، فقاتلهم عمر بن عبد الله فقتلوه ، واستولوا على طنجة ، وبايعوا ميسرة بالخلافة وخوطب بأمير المؤمنين ، وكثر جمعه من البربر ، وقوي أمره بنواحي طنجة .
وظهر في ذلك الوقت جماعة بإفريقية ، فأظهروا مقالة الخوارج ، فأرسل ابن الحبحاب إلى حبيب وهو بصقلية يستدعيه إليه لقتال ميسرة السقاء ، لأن أمره كان قد عظم ، فعاد إلى إفريقية .
وكان ابن الحبحاب قد سير خالد بن حبيب في جيش إلى ميسرة ، فلما وصل حبيب بن أبي عبيدة سيره في أثره ، والتقى خالد وميسرة بنواحي طنجة ، واقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع بمثله ، وعاد ميسرة إلى طنجة ، فأنكرت البربر سيرته ، وكانوا بايعوه بالخلافة ، فقتلوه وولوا أمرهم خالد بن حميد الزناتي ، ثم التقى خالد بن حميد ومعه البربر بخالد بن حبيب ومعه العرب وعسكر هشام ، وكان بينهم قتال شديد صبرت فيه العرب ، وظهر عليهم كمين من البربر فانهزموا ، وكره خالد بن حبيب أن ينهزم من البربر فصبروا معه فقتلوا جميعهم .
وقتل في هذه الوقعة حماة العرب وفرسانها ، فسميت ، وانتقضت البلاد ، وخرج أمر الناس ، وبلغ أهل غزوة الأشراف الأندلس الخبر فثاروا بأميرهم عقبة بن الحجاج فعزلوه وولوا عبد الملك بن قطن ، فاختلطت الأمور على ابن الحبحاب ، وبلغ الخبر ، فقال : لأغضبن للعرب غضبة ، وأسير جيشا يكون أولهم عندهم وآخرهم عندي ، ثم كتب إلى هشام بن عبد الملك ابن الحبحاب يأمره بالحضور ، فسار إليه في جمادى سنة ثلاث وعشرين ومائة ، واستعمل هشام عوضه كلثوم بن عياض القشيري وسير معه جيشا كثيفا ، وكتب إلى سائر البلاد التي على طريقه بالمسير معه ، فوصل إفريقية وعلى مقدمته بلج بن بشر ، فوصل إلى القيروان ولقي أهلها بالجفاء والتكبر عليهم ، وأراد أن ينزل العسكر الذي معه في منازلهم ، فكتب أهلها إلى حبيب بن أبي عبيدة ، وهو بتلمسان [ ص: 226 ] مواقف البربر ، يشكون إليه بلجا وكلثوما ، فكتب حبيب إلى كلثوم يقول له : إن بلجا فعل كيت وكيت ، فارحل عن البلد وإلا رددنا أعنة الخيل إليك .
فاعتذر كلثوم وسار إلى حبيب وعلى مقدمته بلج بن بشر ، فاستخف بحبيب وسبه ، وجرى بينهما منازعة ، ثم اصطلحوا واجتمعوا على قتال البربر ، وتقدم إليهم البربر من طنجة ، فقال لهم حبيب : اجعلوا الرجالة للرجالة والخيالة للخيالة ، فلم يقبلوا منه ، وتقدم كلثوم بالخيل ، فقاتله رجالة البربر فهزموه ، فعاد إلى كلثوم منهزما ، ووهن الناس ذلك ونشب القتال ، وانكشفت خيالة البربر وثبتت رجالتها واشتد القتال وكثر البربر عليهم ، فقتل كلثوم بن عياض وحبيب بن أبي عبيدة ووجوه العرب ، وانهزمت العرب وتفرقوا .
فمضى أهل الشام إلى الأندلس ومعهم بلج بن بشر وعبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ، وعاد بعضهم إلى القيروان .
فلما ضعفت العرب بهذه الوقعة ظهر إنسان يقال له عكاشة ( بن أيوب الفزاري بمدينة قابس ، وهو على رأي الخوارج الصفرية ، فسار إليه جيش من القيروان فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم عسكر القيروان ، فخرج إليه عسكر آخر فانهزم عكاشة بعد قتال شديد وقتل كثير من أصحابه ، ولحق عكاشة ) ببلاد الرمل .
فلما بلغ قتل هشام بن عبد الملك كلثوم بعث أميرا على إفريقية حنظلة بن صفوان الكلبي ، فوصلها في ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومائة ، فلم يمكث بالقيروان إلا يسيرا حتى زحف إليه عكاشة الخارجي في جمع عظيم من البربر ، وكان حين انهزم حشدهم ليأخذ بثأره وأعانه عبد الواحد بن يزيد الهواري ثم المدغمي ، وكان صفريا ، في عدد كثير وافترقا ليقصدا القيروان من جهتين ، فلما قرب عكاشة خرج إليه حنظلة ولقيه منفردا واقتتلوا قتالا شديدا ، وانهزم عكاشة وقتل من البربر ما لا يحصى ، وعاد حنظلة إلى القيروان خوفا عليها من عبد الواحد ، وسير إليه جيشا كثيفا عدتهم أربعون ألفا ، فساروا إليه ، فلما قاربوه لم يجدوا شعيرا يطعمونه دوابهم فأطعموها حنطة ، ثم لقوه من الغد فانهزموا من عبد الواحد وعادوا إلى القيروان ، وهلكت دوابهم بسبب الحنطة .
فلما وصلوها نظروا وإذا قد هلك منهم عشرون ألف فرس ، وسار عبد الواحد فنزل على ثلاثة أميال من القيروان بموضع يعرف بالأصنام ، وقد اجتمع معه ثلاثمائة ألف مقاتل ، فحشد حنظلة كل من بالقيروان وفرق فيهم السلاح والمال ، فكثر جمعه ، فلما دنا الخوارج مع عبد الواحد خرج إليهم حنظلة من القيروان واصطفوا للقتال ، وقام العلماء في أهل القيروان يحثونهم على الجهاد وقتال الخوارج ويذكرونهم ما يفعلونه [ ص: 227 ] بالنساء من السبي وبالأبناء من الاسترقاق وبالرجال من القتل ، فكسر الناس أجفان سيوفهم ، وخرج إليهم نساؤهم يحرضنهم ، فحمي الناس وحملوا على الخوارج حملة واحدة وثبت بعضهم لبعض ، فاشتد اللزام وكثر الزحام وصبر الفريقان ، ثم إن الله تعالى هزم الخوارج والبربر ونصر العرب ، وكثر القتل في البربر وتبعوهم إلى جلولاء يقتلون ، ولم يعلموا أن عبد الواحد قد قتل حتى حمل رأسه إلى حنظلة ، فخر الناس لله سجدا .
فقيل : لم يقتل بالمغرب أكثر من هذه القتلة ، فإن حنظلة أمر بإحصاء القتلى ، فعجز الناس عن ذلك حتى عدوهم بالقصب ، فكانت عدة القتلى مائة ألف وثمانين ألفا ، ثم أسر عكاشة مع طائفة أخرى بمكان آخر وحمل إلى حنظلة فقتله ، وكتب حنظلة إلى بالفتح ، وكان هشام بن عبد الملك يقول : ما غزوة إلى الآن أشد بعد غزوة الليث بن سعد بدر من غزوة العرب بالأصنام .