الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر مقتل الكرماني

قد ذكرنا مقتل الحارث بن سريج وأن الكرماني قتله ، ولما قتله خلصت له مرو ، وتنحى نصر عنها ، فأرسل نصر إليه سالم بن أحوز في رابطته وفرسانه ، فوجد يحيى بن نعيم الشيباني واقفا في ألف رجل من ربيعة ، ومحمد بن المثنى في سبعمائة من فرسان الأزد ، وابن الحسن بن الشيخ في ألف من فتيانهم ، والجرمي السعدي في ألف من أبناء اليمن . فقال سالم لمحمد بن المثنى : يا محمد قل لهذا الملاح ليخرج إلينا ، يعني الكرماني . فقال محمد : يا ابن الفاعلة لأبي علي تقول هذا ! واقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم سالم بن أحوز وقتل من أصحابه زيادة على مائة ، ومن أصحاب الكرماني زيادة على عشرين .

فلما قدم أصحاب نصر عليه منهزمين قال له عصمة بن عبد الله الأسدي : يا نصر [ ص: 364 ] شأمت العرب ! فأما إذ فعلت ما فعلت فشمر عن ساق . فوجه عصمة في جمع ، فوقف موقف سالم فنادى : يا محمد بن المثنى ! لتعلمن أن السمك لا يأكل اللخم ، واللخم دابة من دواب الماء تشبه السبع يأكل السمك . فقال له محمد : يابن الفاعلة قف لنا إذا ، وأمر محمد السعدي ، فخرج إليه في أهل اليمن فاقتتلوا قتالا شديدا ، وانهزم عصمة حتى أتى نصرا وقد قتل من أصحابه أربعمائة .

ثم أرسل نصر مالك بن عمرو التميمي في أصحابه ، فنادى : يابن المثنى ابرز إلي ! فبرز إليه ، فضربه مالك على حبل عاتقه فلم يصنع شيئا ، وضربه محمد بعمود فشدخ رأسه ، والتحم القتال فاقتتلوا قتالا شديدا ، وانهزم أصحاب نصر وقد قتل منهم سبعمائة ، ومن أصحاب الكرماني ثلاثمائة ، ولم يزل الشر بينهم حتى خرجوا إلى الخندقين فاقتتلوا قتالا شديدا .

فلما استيقن أبو مسلم أن كلا الفريقين قد أثخن صاحبه ، وأنه لا مدد لهم ، جعل يكتب إلى شيبان ثم يقول للرسول : اجعل طريقك على مضر فإنهم سيأخذون كتبك ، فكانوا يأخذونها فيقرءون فيها : إني رأيت [ أهل ] اليمن لا وفاء لهم ولا خير فيهم ، فلا تثقن بهم ولا تطمئنن إليهم ، فإني أرجو أن يريك الله في اليمانية ما تحب ، ولئن بقيت لا أدع لها شعرا ولا ظفرا . ويرسل رسولا آخر بكتاب فيه ذكر مضر بمثل ذلك ، ويأمر الرسول أن يجعل طريقه على اليمانية ، حتى صار هوى الفريقين معه ، ثم جعل يكتب إلى نصر بن سيار وإلى الكرماني : إن الإمام أوصاني بكم ولست أعدو رأيه فيكم . وكتب إلى الكور بإظهار الأمر ، فكان أول من سود أسيد بن عبد الله الخزاعي بنسا ، ومقاتل بن حكيم ، وابن غزوان ، ونادوا : يا محمد ! يا منصور ! وسود أهل أبيورد وأهل مرو الروذ وقرى مرو .

وأقبل أبو مسلم حتى نزل بين خندق الكرماني وخندق نصر ، وهابه الفريقان ، وبعث إلى الكرماني : إني معك . فقبل ذلك الكرماني ، فانضم أبو مسلم إليه ، فاشتد ذلك على نصر بن سيار ، فأرسل إلى الكرماني : ويحك لا تغتر ! فوالله إني لخائف عليك وعلى أصحابك منه ، فادخل مرو ونكتب كتابا بيننا بالصلح . وهو يريد أن يفرق بينه وبين أبي [ ص: 365 ] مسلم . فدخل الكرماني منزله ، وأقام أبو مسلم في العسكر ، وخرج الكرماني حتى وقف في الرحبة في مائة فارس وعليه قرطق ، وأرسل إلى نصر : اخرج لنكتب بيننا ذلك الكتاب . فأبصر منه غرة ، فوجه إليه ابن الحارث بن سريج في نحو من ثلاثمائة فارس في الرحبة ، فالتقوا بها طويلا ، ثم إن الكرماني طعن في خاصرته فخر عن دابته وحماه أصحابه حتى جاءهم ما لا قبل لهم به ، فقتل نصر بن سيار الكرماني وصلبه وصلب معه سمكة .

وأقبل ابنه علي وقد جمع جمعا كثيرا ، فصار إلى أبي مسلم واستصحبه معه فقاتلوا نصر بن سيار حتى أخرجوه من دار الإمارة ، فمال إلى بعض دور مرو ، وأقبل أبو مسلم حتى دخل مرو ، وأتاه علي بن الكرماني وأعلمه أنه معه وسلم عليه بالإمرة وقال له : مرني بأمرك فإني مساعدك على ما تريد . فقال : أقم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري . ولما نزل أبو مسلم بين خندق الكرماني ونصر ، ورأى نصر قوته كتب إلى مروان بن محمد يعلمه حال أبي مسلم وخروجه وكثرة من معه ، فإنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد ، وكتب بأبيات شعر :

أرى بين الرماد وميض نار وأخشى أن يكون له ضرام     فإن النار بالعودين تذكى
وإن الحرب مبدؤها كلام     فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام



فكتب إليه مروان : إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، فاحسم الثؤلول قبلك . فقال نصر : أما صاحبكم فقد أعلمكم أنه لا نصر عنده . فكتب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يستمده ، وكتب له بأبيات شعر : [ ص: 366 ]

أبلغ يزيد وخير القول أصدقه     وقد تيقنت أن لا خير في الكذب
أن خراسان أرض قد رأيت بها     بيضا لو افرخ قد حدثت بالعجب
فراخ عامين إلا أنها كبرت     لما يطرن وقد سربلن بالزغب
ألا تدارك بخيل الله معلمة     ألهبن نيران حرب أيما لهب



فقال يزيد : لا تكثر فليس له عندي رجل .

فلما قرأ مروان كتاب نصر تصادف وصول كتابه وصول رسول لأبي مسلم إلى إبراهيم ، وقد عاد من عند إبراهيم ومعه جواب أبي مسلم يلعنه إبراهيم ويسبه حيث لم ينتهز الفرصة من نصر والكرماني إذ أمكناه ، ويأمره أن لا يدع بخراسان متكلما بالعربية إلا قتله . فلما قرأ الكتاب كتب إلى عامله بالبلقاء ليسير إلى الحميمة وليأخذ إبراهيم بن محمد فيشده وثاقا ويبعث به إليه ، ففعل ذلك ، فأخذه مروان وحبسه .

التالي السابق


الخدمات العلمية